قراءةٌ في رواية المهطوان* للأديب رمضان الرواشدة؛ من "منظور علم اجتماع الأدب".

د. حسين محادين
أكاديمي وباحث أردني

"المهطوان".. توثيقٌ لماضٍ.. أم مِنصةٌ لإطلاق تساؤلات الوجع الواعي..؟
العنوانُ مجترحٌ لغويٌّ وصفيٌّ مميز رشح من تعبير فلسطيني النشأة في حيفا وهو (مطوان حيفا) وحوّره العسكريون الأردنيون الذي خدموا في فلسطين إلى (المهطوان) نظرًا لطول الجسم وضخامته؛ وبالتالي عرض القدم (نمرة 45 ) ص 14.
وترابطًا مع ما سبق؛ فإنَّ عمق النجاح في التوظيف الروائي قد تجسّد باجتهادي في نجاح حِرفية المؤلف ومكنته بصورة انسيابية في إدماج العنوان مع سيرورته التاريخية فلسطينيًّا وأردنيًّا؛ ليبقى المهطوان الاسم الحركي لبطل الرواية – وليعبر عن وحدة الكفاح والمصير حتى في الوجدان الجمعي بين بطيني القلب الواحد.
• ما هو علمُ اجتماع الأدب باختصارٍ كثيف:
هو العلمُ الذي يدرس منهجيًّا العملية التفاعليّة بأدواتها المشتركة" لغة فصيحة، محكية، موروث شفاهي، رموز وأحداث، وذلك من حيث الأثر والتأثير المتبادل بين الأدب/ الإبداع عمومًا والبيئة والاتجاهات السكانية السائدة من المعتقدات؛ العادات والتقاليد، طقوس الحياة، ونظرة كل منهم إلى قدرات الأدب ومحتواه على التغيير الفكري والسلوكي لاحقًا بين أفراد وشرائح المجتمع الحاضن لهما؛ باعتباره مسرحًا واسعًا ومتلقيًا لرسائل ومضامين الأدب والمنافسات البشرية الساعية للتثاقف، وبالسعي قيادةً وتوجيهًا للمجتمع".

أولاً: هُوية الأمكنة.. الحبلى بِغنى المعاني ومحاكاتها
- عمان / الجامعة الأردنية/ صويلح كحاضن ومحضون.
لقد مثّلت الجامعة الأردنية/ ومنطقة صويلح قبل أن يُحوّلا إلى " قمُ الصغرى" ص 1 ( من قبل إحدى التنظيمات)، ودقة الأوصاف الحاضنة لهما من قبل المؤلف الطالب حينه؛ مركزيّة المكان والإشعاع ومستودع الذاكرة التي ظهرت ضمنًا في سردها معاني التميّز والجرأة لدى الشباب الطلبة من الجنسين على التحزب، وقدرتهم الواثقة على إثارة الحراك والتظاهر تضامنًا مع أهلهم وشركائهم في الوطن والمواطنة وتحديدًا في جنوب الوطن؛ "هبة نيسان/ ثورة الخبز" قالت "رندا حبيب وهي اللي عندها الخبر اليقين" ص 79، "إذاعة "مونت كارلو" وليست الإذاعة الأردنية كما يفترض: إنَّ الأهالي في الكرك قرروا الاعتصام داخل المدينة" ص81؛.. والمظاهرات الحاشدة امتدت إلى الشوبك/ مسقط رأس المؤلف /والطفيلة ومعان احتجاجًا على رفع الحكومة أسعار الخبز. ص 79.
إنَّ هذه الأحداث جميعًا تجلّت في الحبكة والأحداث واللغة التناوبية؛ في المباشرة والاسترجاع لوقائع (زمن السرد) ما يشبه الصوت المباشر والصدى العائد لمراكمة كل حدث وإخصابه بكل جديد؛ كي ينمو ولكي لا يمل القارئ ويبقى مشدودًا نحو قادم الأحداث " كان أبي يُحب الخيّل.. قالت أمي إنَّه اشترى فرسًا شهباء يطعمها اللوز والسكر...كان أنيقًا في ملابسه خصوصًا عندما كان يركب الشهباء ويتبختر في راكين.."
وبعدها مباشرةً يستحضر البطل الابن المفتُرض في الرواية باجتهادي؛ وهو نضال، فيقول عودة بطل الرواية:" آه يا دنيا.. أين نضال حبيبي وقرة عيني؛ لو كان معي لأعطيته صورة أبي مع فرسه الشهباء.. لكن لا أبي ولا نضال موجودان والطريق طويل" ص66. وأثناء سؤال البطل لأمه: "أين أبي.. تجيبه، الآن تجيبه؛ إنَّه في الجفر" ص 45؛ وهو المعتقلُ الذي كان يُثقل ذاكرة الأردنيين لبعده الجغرافي ولقسوة ما كان يُعامل به المعتقلون هناك؛ ولعلَّ الجوهر يكمن في كل من دلالاتها ورموزها والموائل التاريخية التي تضمنتها الرواية وأنضجت تكامليتها؛ كما وردت على ألسِنة أبطالها ومنها:
- التوظيف والتساؤلات اللافتة للأطروحات الفلسفيّة لدى المؤلف؛ تُرى ألكونها أمًّا للعلوم وللأفكار كما يرى أرسطو عندما وصف نفسه كفيلسوف؛ "أنا مثل أمي هي تولّد النساء وأنا أولّد الأفكار"؛ فهل قصد الروائي الرواشدة ذلك ضمنًا؟. أقولُ الحضور الفلسفي الواضح في ردهات الرواية؛ عندما تساءل البطل عن مسقط رأسه بعد خروجه من السجن.. "أهي المدينة الفاضلة؟ ضحك مؤكدًا ومع هذا أحبّها" ص66.
- تساؤلات أحدهم قائلًا:" أشكُّ في صحة المكان؛ وتساءل هل فصل البداية كقصة النهاية؟". ص 73.
- "لماذا يتسمّى الناس بهذه الأسماء؛ ولماذا لا يعطون أرقامًا فقط؟" ص 70. "الأشياء والأسرار تشيخ مثلنا.. فهل من يمتلك المال يمتلك الناس؟ هذا وهم سيثبت الزمان خطأه". ص98.
ثانيًا: الموائلُ الدينيّة لبِنية النص في الرواية:
- التوظيف الروائيّ ل"نشيد الإنشاد" في التصالح فيما بينهما ربما، "جميلة أنت يا خليلتي.. الخ؛ في الوقت الذي سبق وأن صارح عودة سلمى عندما ذكرت مقطعًا منه وهي بجانبه "استحلفكن يا بنات أورشليم، إن وجدتن حبيبي أن تخبرنه أنَّ الحب أسقمني.. قال لها: لا أحبُّ هذا الاسم أورشليم، اسمها القدس" ص 82 ،99.

- "أكتوي بالصلب المقدس بالنار فطوبى للغرباء" ص65.
- خذوا زيتكم عند.. عندما تساءل بحضور رفاقه بعد خروجه من السجن وهم يتهامسون أو يبررون؛ "هل تحبون أن أترك المكان؟. خذوا راحتكم وخذوا زينتكم عند..." ص71.
- "غاب عودة في غياهب الجُب ثلاث سنوات" (لكن يد الخفي )..؟؟ ص 12.

ثالثًا: ذبولُ الأيدولوجيا ومواجع أحزاب اليسار أنموذجًا:
لقد استنتجتُ بعد قراءتي التحليلية للرواية عدة مرات ما هو آت:
- إنَّ إبراز أبطال الرواية/ والاحتجاجات حينها قد قادها حزبيون يساريون.
- إنَّ شخصية عودة / البطل أي المهطوان؛ وتحديدًا عندما اعتقل وحده دون غيره من الرفاق.. تحمل المغزى والدهشة والتساؤلات الكبرى داخل الرواية... في سؤاله: " أين بقية الرفاق؟ ص83. تساؤله أثناء تواجده مكبل اليدين في سيارة "الروفر العسكرية" التي أخذته إلى السجن؛ هذه الحوارية والتفكيرية الصامتة بداخلة قد كشفت الكثير من الخذلان له، ومن خلال الحوارات الداخلية مع نفسه ومع حزبه ورفاقه في الحزب؛ كقوله: ماذا سيقولون (أي أهل راكين).. سجين؟؟ أهي الوصمة الاجتماعية والسعي لدحضها كون مبرر السجن هو نضاليّ مثلاً؟. "يا رفيق ما تكتبه لا ينسجم مع التوجهات المركزية للحزب في هذه المرحلة الخطرة – قال الحزبي الكبير.. ترى هل الكتابة والثقافة أصبحت تهمة في الحزب؟. ص 89، والحزب اتهمني بشطحات المثقفين.."أنا من ضيّع عمره بالأحزاب كما كان يغني عمر" ص 98.

رابعًا: اللغةُ؛ توظيفُ الوعي المغاير للواقع؛ الشعر والأهازيج أنموذجًا.
ونلاحظ أنَّ اللغة التي استخدمها الراوي على ألسنة شخوص الرواية كانت لغة مزواجة بين الفصيحة والشعبية المرتبطة في أماكن بعينها، ومن الجامعة الأردنية "كافتيريا الآداب" ودوار الساعة، كرمزين مستمرين للآن؛ فهي الجامع العلمي الأساس وبالضد من الأمية التعليمية والفكرية والحزبية لكل/ لا بل لأبرز شخوص الرواية. لعلَّ أبرز تناصات السرد مع الشعر والمرويات في هذه الرواية قد جاءت لكلٍّ من الشاعر مظفر النواب:" في هذه الساعة من شهوات الليل.. لا يعرفني أحد غير قلبي والطريق"، ومع الشاعر محمود درويش كذلك.
ومنها كذلك الهتاف الذي كان يردده الطلبة المعتصمون في الجامعة: "وحّد صفك وحّد صفك ... بالعالي سمعني كفك" ص80. والهتاف الموازي والمغاير في مضمونه مع ما سبق، والذي كان يردده السجناء في طابور الصباح وهم يركضون ويهتف قائدهم: " والله والله بدنا نحارب.. ومن هالشارب بدنا نحارب".
ويعود البطل ليسأل الذي بجانبه "عنجد بدنا نحارب.. بكفي حرب يا جماعة خلينا نعيش، وقعنا المعاهدة وزفونا واللي كان كان".
خامسًا: أبرزُ سمات شخوص الرواية
- الأستاذ/ المُعلم عادل– جذر التوعية والنماء في شخصية عودة – البطل؛ وهو يساري الفكر -خريج جامعة اليرموك على الأرجح؛ مع ملاحظة أنَّ مؤلف الرواية خريج اليرموك 1988، وقد حدث احتجاج من قبل الطلبة فيها أيضًا - وهو الذي أسهم في توعية وكسب عودة نحو الثقافة والعمل الحزبي، وهو في المرحلة الثانوية.
- عودة/ المهطوان – أحدُ أبرز أبطال الرواية قدِم إلى الجامعة من قرية راكين – الكرك التي صمدت أمام الغزو التركي قبل 100 عام. ويمكن تحديد هُوية المهطوان- البطل عودة- من مضامين وتساؤلات الرسالة الأخيرة من سلمى له قبل أن تغادر راجعة إلى فلسطين/ كرمز مركزي في الرواية أثناء مكوث عودة في المعتقل التي سلمها له صديقهما غسان أثناء زيارته لعودة. ومن أبرز هذه السمات المستنتجة: الزمن في هذه الرسالة ليس معلومًا بدقة، إذ بدأت بُمفتتح لافت هو "صباح الخير.. مساء الخير.. لا أعرف متى ستقرأها "ص86. "أما زالت روحك الصحراوية تسكنني". "ما زلت أراك تختبأ خلف نظارة قاتمة، لربما تخفي حزن روحك البرية"." أحتفظ بملامحك السمراء الجنوبية التي لوحتها الشمس" ص87 – ص88.
- سلمى" أم نضال" وهي من المفترض أنَّها جاءت لتدرس اللغة الإنجليزية بعد أن أُغلقت جامعة بير زيت في فلسطين بقرار من الاحتلال، قدمت من رام الله بدلالاتها الدينية والحياتية الأوسع نحو الضفة الشرقية، هنا إيحاءات "التوأمة" بين الأردن وفلسطين.
- غسان.. الصديق الوفي لعودة وسلمى، لم تُعرف خلفيته التاريخية، لكنّه كان شريكًا للآخرين في عضويتهم في تنظيم الجامعة حزبيًّا ومؤسسيًّا.. والناقل للرسالة الأخيرة من سلمى إلى عودة في السجن بعد أن عادت لفلسطين.
- الابن؛ الطفل "نضال" هو تعبيرٌ عن قيم المغالبة والحب بين أبويه" وهو الوليد المفترض/الذي بقي يمثل معاني الغموض والفضول المتنامي لدى القارئ؛ وهو الذي حضر نصًّا فقط باعتقادي- جراء علاقة حب بين عودة وسلمى؛ فلولا التقاؤهما في الجامعة كرفاقٍ يساريّي الفكر والسلوك كونهم طلبة في الأردنية؛ لما ظهر نضال.
- ابن الأخت الذي طلب من عودة أن يرسم له طيارة حربية. وتساءل البطل بداخله، "ماذا ستفعل بالطيارة الحربية؟ اللي طبّع طبّع واللي ربّع ربّع " ص91.
- شخصية والديّ عودة
أ- الأب العسكري الذي التحق بالعسكرية بناءً على سياسة المسؤول الإنجليزي في التجنيد، الذي رغم أنَّه لم يكن متعلمًا إلا أنَّه كان يستفتي قلبه نحو مضامين الحرية وممارساتها، والانحياز لعروبة فلسطين.
ب-ثقلا: أم عودة المنحدرة من أسرة عُرف عنها التضحيات بالضد من الدولة العثمانية، والكرم المميز الذي تمتعت به بدلالة مجاهرة رفاق عودة بالقول بأنَّهم يحبون المنسف الكركي الذي تطهوه أمّه، عندم كانوا يفدون ويهربون من الملاحقات الأمنية لهم كحزبيين نحو راكين.

- الطالبات اللواتي أحضرن ما لديهن من شكولاتة في حقائبهن، والأطعمة من الأقسام الداخلية بعد أن طالت ساعات التظاهر الطلابي في الجامعة.
-عزام أبو سنينة الرفيق الذي كان يردّد أغنية " أحمد على الموت انتصر" التي تؤديها "فرقة بلدنا" تخليدًا لتضحية الشهيد البطل أحمد المجالي وهو من الكرك؛ وهذا رمزٌ مضافٌ ومعبرٌ عن وحدة الدم والمصير الأردني الفلسطيني.
- حمد الطفيلي؛ وكان و"عزام أبو سنينة" عابرين غير نشيطين على مسرح الرواية عمومًا كما أعتقد.
سادسًا: حضورُ المؤلف حقيقةً وليس كراوٍ محايد
حضورٌ تجلّى في ثلاثية راكين/ والشوبك/ رام الله، وجعلها خلفية ظاهرة للمشهد والسرد في روايته؛ عبر ما يلي:
- الإشارة إلى مسقط رأسه – الشوبك جنوب الأردن.
– تشابه دراسته للإنجليزية مع سلمى...
- الأسد والأشبال الخمسة كرمز لجدها راشد الذي كما يقال إنَّه قدم من الشوبك الى رام الله.
- "ضاحية المرج" التي جعل منها المؤلف مشهدًا فانتازيًّا للطبيب الشعبي / المغربي الذي سعى لإخراج أفعى من دواخل عودة عند مرضه في طفولته.

*رواية المهطوان
المؤلف: الأديب رمضان الرواشدة.
عدد الصفحات :112 صفحة
دار النشر: المؤسسة العربية للدراسات.
سنة النشر: 2022 - بيروت.