د. محمد منصور الهدوي
أكاديمي وباحث من الهند
الدكتور محمد عناني هو الأديبُ المصريُّ والكاتبُ المسرحيُّ والخبيرُ الأكاديميّ بالنَّقد، والّذي لم يَعرف الوطن العربي بعد بمثل عبقريّته في التَّرجمة، فقد صال قلمه وجال في شتّى ميادين الإبداع، العالم الجليل والمترجم العلامة، ومؤرخ الأدب وواضع المعاجم وصائغ المصطلحات، فقدنا علمًا غزيرًا ومؤسسة ثقافية موسوعية حقيقية، فقدنا هرمًا شامخًا في العلوم الإنسانيّة وخاصةً الآداب العربية والناطقة بالإنجليزية؛ محمد عناني يعني الجودة والثقة والإتقان في كل ما يترجمه إلى العربية، يعني تحقيق المعادلة الصعبة: التمكّن من اللغة المنقول إليها بالقدر ذاته الذي يتمكن به من اللغة المنقول منها.
يُعَدُّ محمد عناني (1939 – 2023) أحدَ أبرز المشتغلين في الترجمة بمصر والعالم العربي، حيث نقل إلى المكتبة العربية أعمالاً عديدة لـ (وليم شكسبير وجون ملتون ولورد بايرون وآخرين)، كما ترجم إلى الإنكليزية مؤلّفات لشعراء مصريين معاصرين، ناهيك عن دراساته الثريّة في الترجمة والنقد الأدبي.
وُلد الراحل في مدينة رشيد، ونال درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية وآدابها في "جامعة القاهرة" عام 1959، وتابع دراساته العليا في بريطانيا، ليحصل على درجة الماجستير في "جامعة لندن" سنة 1970، والدكتوراه في "جامعة ريدنغ" عام 1975.
عمل عناني مُراقبَ لغة أجنبية في إذاعة "بيش بي سي" بالعاصمة البريطانية بين عامَيْ 1968 و1975. وبعد عودته إلى مصر، عمل محُاضرًا في "جامعة القاهرة" لأكثر من ثلاثة عقود، وألّف وأسهم في وضع معظم المناهج الدراسية لقسم اللغة الإنكليزية بالجامعة، الذي ترأّسه لسنوات في التسعينيات، كما انتُخب خلال فترة عمله خبيرًا في "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة. وبين عامي 1986 و2003، شغل موقع المحرّر العام للأعمال المترجمة بين العربية والإنكليزية في "سلسلة الأدب المعاصر" التي تقوم عليها "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، والتي صدر عنها نحو خمسة وسبعين عنواناً، كما أدار سلسة "الألف كتاب الثاني" التي تنشرها الهيئة.
• صاحبُ موروثٍ معرفيٍّ ثقافيّ
كتَب الراحلُ العديدَ من المسرحيات التي عُرضت على الخشبة، منها "ميت حلاوة" (1979)، و"السجين والسجّان" (1980)، و"المجاذيب والبر الغربي" (1985)، و"جاسوس في قصر السلطان" (1989)، و"ليلة الذهب" (1993)، و"السادة الرعاع" (1993)، و"الدرويش والغازية" (1994)، و"أصداء الصمت" (1997)، وغيرها.
ومن ضمن مؤلفات محمد عناني: (النقد التحليلي، فنّ الكوميديا، الأدب وفنونه، المسرح والشعر، فنّ الترجمة، فنّ الأدب والحياة، جاسوس في قصر السلطان، رحلة التنوير، ليلة الذهب، حلاوة يونس، السادة الرعاع، الدرويش والغازية، التيارات المعاصرة في الثقافة العربية، قضايا الأدب الحديث، المصطلحات الأدبية الحديثة، الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق، ميت حلاوة، السجين والسجان، البر الغربي، المجاذيب، الغربان، وأصداء الصمت).
بدأ عناني تجربته في الترجمة عام 1964، حين عرّب مسرحية "حلم ليلة صيف" لشكسبير بعد تخرجه مباشرةً، ثم عكف على ترجمة "روميو وجولييت" للكاتب نفسه، الذي زاد عدد ترجماته له على العشرين عملاً؛ من بينها: "تاجر البندقية"، و"هاملت"، و"الملك لير"، وملحمة "الفردوس المفقود" ل"جون ميلتون"، وغيرها من عيون الأدب العالمي. و"يوليوس قيصر" التي نال عن ترجمتها "جائزة رفاعة الطهطاوي" للترجمة عام 2014.
نقل عناني قرابة مئة وثلاثين مؤلّفًا من وإلى العربية والإنكليزية، حيث عرّب العديد من الكتب ل(غوته وإدوارد سعيد وسوزان باسنيت وأندريه ليفيڤير ودايف إيجرز)، في حين نقل إلى لغة شكسبير مجموعات شعرية ل(صلاح عبد الصبور وعز الدين إسماعيل وفاروق جويدة وفاروق شوشة وصلاح جاهين).
تأثّرَ جدًّا بقصائد "بيرسي بيش شيلي" الَّذي يُعدُّ واحدًا من كبار الشُّعراء الرومانسيين الإنجليز، فكان عناني مُطَّلِعًا على الحضارةِ الغربية والشرقية، بل وشرب التراث العربيَّ البَليغ، فكانَ عاشِقًا للكتب وقارئًا ذَوّاقًا، ما أسهم في صقل فكره منذ نشأَته وغرْس بذور الإبداع لديه، وقد شَغلَ مكانته الفريدة في تاريخ المسرح المصري لِعظم ما لديه من التَميّز بأوجُههِ المتعددة، في الثقافة والفن منذ بداياته في ستينيات القَرن الماضي، فشارك في مَجلّة (المسرح) منذ تأسيسها بما قَدّمته من الفنّ والنّقدِ والاطلاع على نوافذ الثقافة العالمية، إلى أن وصل إلى منصب رئيس تحريرها، حتَّى مُنتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
إنَّ التَّرجمة بالنسبة لـ(عناني) هي امتزاجُ حضارتين في بوتقة واحدة، فكما نقوم بترجمة أعمال العلماء والفنانين الأجانب، أيضًا هُم عملوا على ترجمة المُؤلَّفات العربية أيًّا كانت إلى لغاتهم، وهكذا تطوّرت الأُمم من خلال التبادل الفكري والاستفادة من تجارب وعلوم الآخرين. فانطلق عناني في مسيرته مُستندًا إلى شّغفه الكبير في التَّرجمة، وأنجز الكثير من الأعمال ومنها كتاب الاستشراق لـ(إدوارد سعيد) شارحاً فيه قيمة الشَّرق، كمنتج فكري، استفادَ منه الغرب، وتمَّ وضعه في صورة الاستغلال والاستعباد، وفرض الجهل عليه ونَهب ثرواته، مُؤكّدًا أنَّ العرب لم يتخلَّفوا في يوم من الأيام عن ركب التَفاعل الثقافي.
وهكذا فقد نال عناني (شرف الديباجة) فمزج في ترجمته بين الإبداع والأمانة، وكأنَّك تقرأ النص في لُغتك الأصليّة، دون الشعور بأنَّه مُترجَم، أو أنّه لم يكن في الأصل مكتوبًا بتلك اللغة؛ ليظلَّ عناني قمّةً شامخةً في الترجمة ومدعاة للفخر والإبداع الأدبي، وسيبقى أَثَره في وجدان القارئ العربي، بما ترجمه من كنوز الأدب العالمي.
• كتابه الرائع "فنّ الترجمة"
وكتابُ "فن الترجمة" عملٌ شيّقٌ وعظيم الفائدة للمترجمين والهواة، فقد جذب الكثير من القراء من المتخصّصين وغيرهم بأسلوبه المبسط السهل السلس؛ مما حفز من الإقبال غير المسبوق عليه وطبعه أكثر من خمس مرات؛ فضلاً عن لغته العربية الأصيلة الممتعة التي لا يملُّ المتلقي من قراءتها؛ لسهولة عباراتها وسلامة تركيبها.
ويتناول كتاب فن الترجمة الحديث عن مبحث الترجمة والصعوبات التي تواجه المترجم عمليًّا؛ لأنَّ المؤلف يؤكّد على أن ما يطرحه الكتاب من آراء "هي آراء في صلب عملية الترجمة لا في النظرية؛ فهو يحاول تقديم أيسر الحلول المتاحة للخروج من المأزق الذي قد يقع فيه المترجم ويتعسر عليه الخروج منه "؛ فالكتابُ مقسّمٌ إلى مقدمة وتمهيد وستة فصول يتناول كلُّ فصلٍ منه جانبًا من جوانب المعالجة الفنيّة لمشكلات الترجمة من حيث اللفظ والجملة والتركيب والتراكيب الاصطلاحية، منتهيًّا بترجمة الشعر.
ذكر المؤلف قصصًا من حياته ومواقف حصلت له في الماضي؛ مما أكسب الكتاب الطبيعة الوديّة غير المتكلفة. كما يلاحظ القارئ سلامة العبارات ومراعاة قواعد اللغة العربية مما يطمئن القارئ أنَّ المؤلف مترجمٌ محترف.
ونال "عناني" العديد من الجوائز، منها: "جائزة الدولة التشجيعية" عام 1983، و"وسام العلوم والفنون" عام 1983، و"جائزة التفوق في الآداب" عام 1999، و"جائزة الدولة التقديرية عام 2002"، و"جائزة الملك عبدالله الدولية في الترجمة" عام 2011، وجائزة منظمة جامعة الدول العربية (ALESCO) للعلوم والثقاقة في الترجمة إلى الإنجليزية، بغداد 2013، و"جائزة رفاعة الطهطاوي" عام 2014.
وفي نهاية المطاف فإنَّ فنَّ الترجمة الذي أسّسه محمد عناني كان يقوم على أنَّ الترجمة مشروعٌ حضاريٌّ وثقافيّ، وأنَّها أساسُ نهضةِ الأمم التي تقوم على تبادل الخبرات والعلوم والمعارف، وأيضًا التبادل الثقافي وحفر قناة إنسانية يتعارف الناس من خلالها على ثقافاتهم المختلفة وعلى إنسانيتهم.