صوتُ "ليودميلا أوليتسكايا" يعلو جليًّا في رواية "صونيتشكا*"

حسين علي خضير
كاتب ومترجم عراقي

تتمتع الكاتبةُ الروسيّةُ المعاصرةُ "ليودميلا أوليتسكايا" بسهولة سرد الأحداث، ولكنَّها أحيانًا لا تترك مساحةً لأبطالها في الدخول في حوارٍ ملموسٍ وجدلٍ عميق، لعلَّها تفعل ذلك عن قصدٍ ودراية، فتطلق لخيالها الواسع العنان والحذق يتلاعب بأقدار أبطالها، لذلك نجد فعل ( كان ) يحتلُّ مساحةً كبيرةً في هذه الرواية وفي مخيلة الكاتبة.
تدور أحداثُ هذه الرواية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، تقدّم لنا الكاتبة فتاة اسمها "صونيتشكا" تحبُّ الأدب حبًّا جمًّا، تغيّر كبير يطرأ في حياة "صونيشكا"، حين تتزوج من الشاب الرسام "روبرت فيكتوروفيتش"، وتعاني معه صعوبات الحياة، وبعد ولادة الطفلة "تانيا" تشقُّ السعادة طريقها في حياتهم وتكبر "تانيا" المحبة لنفسها، إلا أنَّها لن تدوم تلك السعادة بسبب قدوم صديقة ابنتهم "ياسيا"، وهي فتاةٌ جميلةٌ ويتيمةٌ، ويمكن القول إنَّها طارئة على حياتهم. كانت طيبة "صونيتشكا" هي من سمحت لتلك الفتاة الدخول إلى حياتهم، وكانت السبب الرئيس في جعل زوجها يهملها ويمارس الحب مع تلك الفتاة اللعوب التي أغرته ببياضها الساطع وجمالها الفاتن، وفي نهاية القصة يموت زوجها على صدر تلك الفتاة اللعوب التي احتضنتها "صونيتشكا" واعتبرتها بمثابة ابنتها "تانيا".
بعد هذه المقدمة البسيطة حول الرواية، لن أتحدث عن أبطال الرواية، بل عن الكاتبة من خلال نصِّها هذا، لأنَّ نصَّها ملغومٌ بالمفاجئات النقدية، والسؤال المفروض الذي يُطرح في هذه الرواية: ماذا تريد "أوليتسكايا" أن تقوله لنا ما بين سطور هذه الرواية؟ ببساطة، لا بدَّ أن أشير إلى نقطة مهمّة وجوهريّة في هذه الرواية، أنَّ الكاتبة لا تخفي مشاعرها في هذا العمل، ويظهر صوتها جليًّا في نصِّها، بل من الممكن أن نطلق عليه ( خروج عن النص ) إن صح التعبير؛ لذا سأقتبس بعضًا من نصوصها لتكون شاهدًا على حديثي هذا، تقول الكاتبة: " لم يكن "روبرت فيكتوروفيتش"، الذي تغذَّى على خبز الحرية الباريسي، قادرًا حتى على أن يتخيّل نفسه وهو يعمل عملاً احترافيًّا في وظيفة لدى الدولة الممُلة والكئيبة، حتى لو استطاع التصالح مع تعطشها الغبيّ إلى الدم وكذبها الخالي من الحياء. "ص 47، المقصود في هذا الاقتباس السلطة السوفيتية، وهنا الكاتبة لا تدع أحدَ أبطالها يدلو بدلوه بطريقة عفوية، فكانت هي المُعبّر عما يدور في خلجات نفسه، بل هي من تصدر الأحكام على كل حركة في هذه الرواية، وكأنَّما أطلقت العنان لحريتها التي كانت تفتقر لها في زمن السلطة "البلشفيّة"؛ لذلك هذا العمل رأى النور بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فلم تقف إلى هذا الحد، بل حدّدت موقفها من الفترة التي عُرفت ب"ذوبان الثلج" بكل وضوح، فتقول: " انجذب غريبو الأطوار هؤلاء جميعهم، بعد أن كشفوا عن أن أنفسهم في بداية "ذوبان الثلج" المُخادع " ص57، هذه الأحكام المقصودة التي أوردتها "أوليتسكايا" بنصِّها هذا لم تأتِ من فراغ؛ بل جاءت بعد معاناة طويلة في ذاكرتها المشحونة بتصوّرات سلبية اتجاه هذه السلطة البائسة بكل معنى الكلمة، فتجدها تعبر عن موقفها بحزم وبقوّة فيما يخصُّ هذه السلطة الدموية.
وأخيرًا؛ مضى على ظهور هذا العمل أكثر من عقدين من الزمن إلا أنَّه يُعتبر نقطة تحوّل في مسيرتها الإبداعيّة، والتي على إثرها صوّرت أكثر الفترات الزمنية تعقيدًا وهي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم في تاريخ روسيا، واستطاعت ببراعة أن تؤرخ هذه الحقبة بطريقة سلسة وإبداعيّة.

* " صونيتشكا "، رواية/ ترجمة: عياد عيد، الناشر: الكرمة للنشر والتوزيع، عام 2015.