وقفةُ حبٍّ في أرض الحرية

عامر طهبوب
إعلامي وروائي أردني
عندما تقف في ساحة كنيسة اسمها السيدة الإفريقية في منتصف "جبل بوزرّيعة"، وتطلُّ على الأزرق الكبير، وحي "بولوغين" المتوشح بالضباب القادم من "بوفريزي" وسيدي بنّور، فأنت في الجزائر العاصمة، وبإمكانك من فوق ذلك السفح أن تطلَّ على "الجزاير"، فمفردة "الجزاير" تاريخيّاً تعني القصبة، وكل من كان يسكن خارج القصبة، لم يكن من سكان "الجزاير"، وليس بعيداً عنك، حي الحامة التابع لبلدية "بلوزاد"، والمغارة التي اختبأ فيها "ميغال دي سيرفانتس"، فكانت "دون كيشوت"، تماماً كما ولدت مقدمة ابن خلدون في مغارة في نواحي ولاية "تيارت" حيث اختبأ ابن خلدون.
شعر "رسول حمزاتوف" بالإهانة عندما طلب إليه رئيسُ تحرير صحيفة يوميّة روسيّة أن يكتب مقالةً عن "داغستان" في ألف كلمة، أمَّا أنا فقبلت التحدي عندما كلفتني الروائيّة الصديقة سميحة خريس رئيسة تحرير "أفكار" بكتابة مقالة عن رحلتي إلى الجزائر في ألف كلمة، لكن السبب الحقيقي أنَّني ضعيف أمامها. أول ما تبادر إلى مخيلتي اسم المجلة؛ قلتُ لنفسي: سأكتبُ أفكاراً عن الجزائر، والأفكار الصغيرة، قد تحمل المعاني العميقة والدلالات الكبيرة.
وصلتُ إلى الجزائر على متن قلم رصاص طائر، وذلك هو الاسم الذي يُطلق على طائرة "بوينغ 757"، جلست في المقعد الثامن عشر، مقعد سن الرشد، وكأنَّي عدتُ إلى رشدي، وعاد نصف دماغ عاقل لم يسبق لي أن استعملته، للعمل لأول مرة، فالذي لم يقرّر في حياته بعد أن يزور الجزائر، عليه أن يعلم أنَّ النصف الذي يستخدمه من عقله، هو النصفُ غير العاقل، أو قل المجنون.
لم يكن من الممكن لرجل مثلي أن يتوغّلَ في جغرافيا أرض الحرية قبل أن يقف للسلام على رموز الحرية، فكانت مقبرة العالية أول بقعة أقف فيها على تراب الجزائر بعد أن هبط بي قلم الرصاص الطائر في مطار "هواري بومدين". كان عليَّ أن أقرأ الفاتحة على روح كل مناضل شهيد، وكل مبدع راحل، قضيتُ ساعاتٍ متنقلاً بين ضريح وآخر، أذرفُ الدموع، وأضعُ أكاليل الزهور، أولها لسيدي عبد القادر الجزائري مؤسس الدولة الجزائرية، وقرأتُ الفاتحة، وأديتُ التحية أمام ضريح الشهيد العربي بن مهيدي، وديدوش مراد، وعلى روح الروائي الطاهر وطار، وكاتب ياسين، ووردة الجزائرية في مربع المبدعين، وقرأت الفاتحة على روح العالية التي تبرعت بالأرض.
بدأت الرحلةُ من ولاية "تيبازة" على البحر الأبيض المتوسط، وقفتُ أرقب الموج الآتي من بحر يافا، وحيفا، إنَّه البحر نفسه الذي يربط بين المحتل والمُحرّر، والماء هو الماء نفسه الذي يقفز إليه صبيان عكا من فوق سور مدينتهم، الماء الذي خرجت "أفروديت" على صدفة من زبده، ومن قبة الرومية في "تيبازة"، فوق تل تخرج من نتوءات تربته وصخوره نباتاتُ البابونج، والبسباس، وزهرة الخيّاطة التي تفعل في الأرض ما تفعله الخياطة في الثوب المتشقّق... توجهتُ إلى منتزهي القرن الفضي على الأزرق المتوسطي الساحر، والمطل على جبل شنوة، ثم القرن الذهبي على الضفة المقابلة، قبل أن أتوجه إلى مطعم "عمي موح بن داود" لأتناول وجبة من سمك السردين المشوي، مع طبق من سلطة "الحميص" الحارة، وأواصلُ جولتي إلى متحف "تيبازة"، والمدينة الرومانيّة الأثريّة القديمة، وأتتبعُ قنواتِ المياه التي كان ينقلها الرومان فوق جسورٍ عاليةٍ خشيةً من تسميمها وهي في الطريق إلى قصورهم.
وقفتُ في أعلى مرتفعات صخرية عالية أنقل ناظريّ بين خلوة "ألبير كامو"، والمسار الذي كان يسلكه من بيته قرب الميناء القديم إلى خلوة التأمل وهو يطلُّ على جبل "شنوة"، وفي "شنوة" عاش الطاهر وطار في بيت تلامس حجارته مياه الأزرق المتوسط. هل يمكنكم أن تتخيلوا كم مبدعاً أطلق هذا البحر خيالاته، وأثرى كتاباته، من طنجة، إلى الإسكندرية، وبيروت، ويافا، وتطوان، وطرابلس، وغزة، ووهران، وعنابة، ومن برشلونة، إلى جنوة، وسالونيك، وجيجل، وبجاية، واللاذقية، والبندقية. قال لي جزائريٌّ مسن في قصبة "دِلِّس" التاريخية العريقة، وهو ابن شهيد في الثورة ضد الاستعمار الغابر، قال: إسرائيل محظوظة في أمر واحد فقط، قلت: ما هو هذا الأمر؟ قال: ليس لها حدود مع الجزائر، ولو كان لها حدود لأنهينا هذا الاحتلال. قلت: ولكن لكم حدود مباشرة مع إسرائيل. قال: كيف؟ قلت: دونكما البحر، الجزائر لا يفصلها عن فلسطين سوى هذا البحر، فتنهّد الرجل وعانقني وفي فمه ماء.
أرقبُ عداد الكلمات على "اللاب توب"، وصلت عدد كلمات المقالة إلى 540 كلمة، ولم أبدأ بعد. دعوني أغيّر طريقة الكتابة. زرتُ 23 ولاية من أصل 58، استكملتُ رحلة الصيف، وعلى موعد مع الجنوب الجزائريّ في رحلة الشتاء، إنَّها رحلة الشتاء والصيف إلى الجزائر. وقفتُ على النقطة التي ولد على ترابها في بلدة "قيطنة" من أعمال ولاية "تيارت"، الأمير عبد القادر الجزائري، وعلى شجرة الدردار التي بويع تحت ظلالها عام 1832، وعلى المنبر الذي خطب عليه في مسجد المدرسة الخلدونية الملاصقة لمقام سيدي بومدين، وعلى الموقع الذي عقد فيه معاهدة النخلة مع المستعمر الفرنسي عام 1847 في بلدة سيدي إبراهيم على بعد أقل من 40 كيلومتراً من الحدود الجزائرية المغربية، وعلى الثكنة العسكرية الفرنسية التي احتُجز فيها الأمير عبد القادر في بلدة "الغزوات" من نواحي "تلمسان"، بل إنَّني عبرت إلى الغرفة التي رقد فيها في ليلته الأخيرة قبل أن ينقل إلى شاطئ البحر المقابل، ليتم ترحيله إلى فرنسا.
الجزائرُ أكبر من أن يحيط بأطرافها رحالةٌ أو كاتبٌ أو مستكشفٌ؛ إنَّها أكبر من أن يتعرف أهلها على كامل جغرافيتها، عميقة، وصلبة، وصعبة، ومتوسطية، وساحرة، عصية على الفهم، يتعانق فيها التاريخ مع الحاضر بسلاسة، تشرب فنجان قهوة في "مقهى التربيعة" في مدينة "ندرومة" في انتظار صديقك الذي يأخذ حماماً قبالة القهوة في الحمام البالي المرابطي الذي يبلغ عمره ألف عام، تزور قصر المشور في "تلمسان"، ولو كنت زرت قصر المتزين في الحمراء مسبقاً وأُدخلت إلى قصر المشور معصوب العينين، ثم أُتيحت لك رؤية المكان، لأصابتك لوثة، ستسأل: كيف نُقلتُ إلى غرناطة على هذه الدرجة من السرعة.
استقبلني أهل ولاية "ميلة" في الشرق قبل خمسين كيلو متراً من موقع الوصول، الجزائريون كرماء، وهم أهل بشاشة وطيبة، لكنَّك يجب أن تعرف مفتاح بسمة الجزائري: الطيبة، الجزائري يفكّر بقلبه، عاطفي، لكن تعابير وجهه جادة حادة كوجه أبي. حضرت مهرجان اختتام "العيساوة" الشعبي كضيف شرف، والتقيت بواحد من أهم مطربي الغناء الشعبي عبد الحميد بوزاهر، غرستُ شجرة خروب في بلدة "مشيرة" أسميتها شجرة طهبوب، زرت "الإلهة ميلو" حارسة البساتين والفلاحة في زمن "النوميديين" القدماء، احتفيت بفانتازيا البارود، وضرب البارود، زرت ولاية "سطيف" ويقال أولاد عامر، شربت فنجاناً من القهوة في مقهى بن عامر، وكنت أستمع إلى أغنية سطيفية اسمها "عامر يهدَر". أي يتكلم، وكنت في تلك الأيام أتكلمُ كثيراً، كنت كثير الكلام، حتى على وسائل التواصل، الجزائر استنطقتني، وأكرمتني، وفتنتني. أقمتُ حواراتٍ مع كل من التقيت به من أهل الجزائر، شربت فنجاناً من القهوة في مقهى عمره 470 عاماً في "ميلة" القديمة، وقفت على "سد بني هارون" بمرافقة رجالات الدفاع المدني في "سيدي مروان"، فتحت لي "قسنطينة" صدرها، حضرت ضيف شرف في مهرجان افتتاح "المالوف"، بدعوة من المطرب سليم الفرقاني، ابن مؤسس غناء "المالوف" الحاج طاهر الفرقاني، تجولتُ في أسواق النحاسين، وفي قصر الباي أحمد، آخر بايات في "قسنطينة"، وقفتُ على "جسر سيدي مسيد"، استضافني حفيد العالم عبد الحميد بن باديس في بيت آل باديس في قصبة "قسنطينة"، وقفت عند باب البيت الذي ولدت في المناضلة جميلة بوحيرد في "حي القصبة"، و"مسجد سيدي رمضان" أقدم مساجد قصبة الجزائر، وجلستُ حيث جلس الممثل إبراهيم حجاج في دور الشهيد علي لابوانت في فيلم معركة الجزائر، وجلس إلى جانبي الكاتب الجزائري مهدي بنراشد في المكان الذي جلس فيه الطفل عمر ياسيف، وزرتُ البيت الذي فجّرته قوات الاحتلال الفرنسي على رؤوس المناضلين، ووقفتُ على الناحية التي عبر منها الاحتلال الفرنسي في "سيدي فرج"، وزرت "مليانة" حيث مسقط رأس الشهيد علي لابوانت، والتقيت بالأب يوجين ليهمبري في "دير سيدة تيبحيرين" في ولاية "المديّة"، حيث قطع الإرهاب الأسود في العشرية السوداء رؤوس عشرة من الآباء المقيمين في الدير.
عانقت أشجار الأرز في أعالي "الشريعة" بولاية "البليدة". أهداني أهل الجزائر رصاصةً من رصاصات المحتل التي استخدمها في احتلال "قسنطينة"، ورصاصةً من رصاصات المقاومة الباسلة في الخمسينيات، ثمّنتُ الهدية عالياً، واحتفظت بالرصاصتين في أرض الجزائر، فلا يشرفني حمل رصاصة المحتل، ولا يحقُّ لي أن أخرج رصاصة الحرية من أرض الحرية.