مفلح العدوان
قاص ومسرحي/ رئيس مختبر السرديات الأردني.
ترى هل تغير الأمكنة أسماءها كما يغير البشر ألبستهم كل زمان، بحسب واقع الحال؟
أم أن البشر يجتهدون في عناوين الأمكنة ومسمياتها، فينقلبون على ماضي الجغرافيا، كما يجتهدون في سرد حقائق التاريخ؟
وهل من ضرورات التغير الاجتماعي والثقافي والسياسي أن ينعكس على ملامح وجوه الجغرافيا، أيضًا، بحيث يبتدع كذلك قناعًا جديدًا للمكان، ويطلق عليه اسمًا مغايرًا ليكون منسجمًا مع ما يحتويه حدّ الإناء؟
ولعلَّ الوهم يكون له دور أيضًا، فيصير للأسطورة أتباع، وللأحلام المشتهاة تلاميذ، وللساسة منظرين، كلهم تتآلف أخيلتهم لترسم قصصًا، تتشكل مع التراكم الزمني، واقعًا يغيّب شخوصه، وتتبدد أحداثه وراء ضبابية المغزى، وقلق الهدف، ولكن يبقى العنوان/الاسم، وتعيد الحكاية دورتها مرةً أخرى في أتباع جدد يفسرون المعنى، ليختلقوا قصصًا، وحكاياتٍ، وأساطيرَ جديدة قد تكون مختلفة كل الاختلاف لتشي بمبتدأ وخبر جديدين، يشكّله أيضًا المخيال الجماعي للمجتمع الذي يشكّل وحده لهاث تلك القرى التي يمكن أن تكون نموذجًا في تحولات الأمكنة، والقصص والأساطير التي شكّلت فسيفساء تفاصيل أسمائها.
هناك ضرورةٌ للتمعن في تلك النقلة التي طالت أسماء القرى، قبل الولوج إلى تفاصيل قصة كلِّ قرية بشكل منفرد، غير أنَّه في هذا الإطار، يتجدّد السؤال، بشكل آخر: لماذا نلاحظ قرى وأمكنة، لا تقبل تغيير اسمها، وتكون مخلصةً له، بينما هناك أمكنة وقرى أخرى، رغم توفر عامل التاريخ والعراقة فيها، تم تغيير اسمها، ومصادرته، دون أن يكون هناك مسوّغ موضوعي، في كثير من الأحيان لهذا التغيير والتحوّل؟ وهل يعتبر هذا التغيير جريمة، أم هو درء نسيان، وجلب منفعة لتلك الأمكنة التي تم تحويلها/تغييرها/ومنحها اسمًا جديدًا، ليكون وجهًا آخر لها؟
وربما يكون هناك رأيٌّ علمي في هذا المضمار، يرجع إلى نقطة التتبع الزمني لتاريخ المنطقة، فيعطي بعض مسوغات لتغيرات بعض من تلك الأمكنة، للتحوّلات في الأبجدية، والحضارات، عبر العصور التي يمكن إجمالها على نحو ما من العصر الحجري مرورًا بالحضارات الأدومية والمؤابية والعمونية والنبطية وبعدها الرومانية والإسلاميّة حتى العصور الحديثة.
وهناك من الباحثين الأكاديميين من استطاعوا أن يستفيضوا بالبحث في تداعيات الأسماء في كل حقبة من تلك الحقب، مستفيدين من الألسنيات، ومقارنة اللغات، والنحت فيها، وما شابه ذلك في انعكاسه على الأسماء.
ولكن هنا سيكون البدء بالخلاصة، والخطوط التي تيسرت بحثًا مكتبيًّا وميدانيًّا، عبر ملاحظات أولى للأمكنة والقرى التي تمت زيارتها، وهي أكثر من ثلاثمائة قرية أردنية.
والاستهلال سيكون بسؤال التغيير، ولماذا حدث بقوة، وتسارع، على كثير من أسماء القرى في الأردن؟ وهل يمكن قراءة وتوثيق قصص تلك الأسماء الجديدة بعيدًا عن معاينة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، ليس لتلك القرى وحدها، ولكن لكلِّ البنى الاجتماعية، والأطر السياسية، والمنظومات الثقافية، في الوطن؟
وأشير هنا إلى أنَّه منذ تأسيس الدولة.. منذ عام 1921م، وحتى الآن، طال قلم التغيير أسماء كثير من القرى والأماكن في الأردن، ولكل تحوّل/تغيّر هناك سبب ومبرر، ولكن أليس هذا مؤشر، أيضًا، على تعطّش اجتماعي للاستقرار والتغيّر، يقابلها نية/إرادة سياسية لتكريس وتجذير هذا الاستقرار، ومعه تغيير حتى الأسماء، ضمن مبررات، ومسوغات (سياسية، اجتماعية، ثقافية،..).
يأتي كل هذا مع تأسيس الدولة، وبعد انهيار الدولة العثمانية، وانتهاء الحرب الكونية.. يأتي هذا في وقت كانت فيه بعض الأمكنة فارغة من أهلها، جراء سياسات الدولة العثمانية في أواخر عهدها، حتى أنَّه بعض القرى غير موجودة في الوثائق، وبعضها موجودة تحت مسمّى مزرعة، وبعد جوانب البلاد لم يتم تدوين تفاصيلها، وكان هاجس الترحال، في الأردن، أعمق من التوق إلى الاستقرار، ففي البداوة حلّ من عبء الضرائب، والجندية، والاصطدام بعسكر الباب العالي.. كانت هناك مبررات الترحال أكثر وأعمق من مغريات الاستقرار.
ولكن.. خلال سنوات تشكّل الدولة الأردنية، وعبر سنوات التأسيس، والنمو، والنهوض، وحتى الوقت الحاضر، نلاحظ تغيرات كثيرة حدثت على أسماء القرى، وصارت تُضاف إلى مدونة ذاكرة القرية، وتاريخها، ولها قصص تتبع كيمياء التغيير التي طالت الاسم، وكيف استقر على ما هو عليه الآن، وقد وقعت هذه العملية والاستعجال فيها في مطب تكرار بعض أسماء القرى، لتحمل أربع أو خمس قرى ذات الاسم، فيكون هذا مبرر لنسبتها إلى المحافظة الواقعة فيها، أو إضافة اسمها القديم إليها.
***
يمكن الاجتهاد في تقسيم طبيعة أسماء تلك القرى على امتداد الأردن، بحسب القواسم المشتركة لتلك الأسماء، إذ يمكن ملاحظة وجود ما يُطلق عليه توائم القرى أو القرى الشقيقات مثل عبين وعبلين/ عيرا ويرقا/ صبحا وصبحية، ...)، ويشار هنا إلى أنَّ كلتا القريتين يتم التعامل معهما وكأنَّهما كيان واحد رغم وجود الحد الفاصل بينهما، وهنا إحالة من المخيلة الشعبية بالتسمية في أنَّه كان هناك ملك قديم، وكان عنده بنتان، وكان لكل واحدة منهما قصر في مكان مقابل القرية الأخرى، وتمت تسمية المكان باسم كل واحدة منهما على حدة، فأخذ المكان اسم صاحبة القصر الذي بُني فيه.
وهناك قرى تمت تسميتها بناء على واقع مُناخي، أو مكان جغرافي، أو لمسة طبيعة، معلم عمراني( بئر ماء، لون التربة، جرف صخري، مقالع حجر، سيل ماء،.. الخ): بئر خداد، البيضاء، العراق، القصر، القليعات، جرينة، سبع اصير، جرف الدراويش، القويرة، الدفيانة.
وتوجد قرى تم تسميتها نسبة إلى أشخاص أو عائلات: أبو حامد، وادي شعيب، سما السرحان، منشية القبلان، دبين، حمراء بني خالد، شفا بدران، الخطابية. وقرى تم تسميتها حديثًا نسبة إلى العائلة الهاشمية، كما هو الحال في (الهاشمية، الحسينية، الراشدية، الفيصلية، رحمة، قرى بني هاشم،..). بينما توجد قرى احتفظت باسمها القديم (آرامي/نبطي/روماني..)، أو نحت الاسم (سامتا، غريسا، راكين، برما، راجب..). ونلاحظ أيضًا قرى تتخذ اسم المكان الذي جاء منه سكانها، أو من مرّ بها وأعطاها صفته أو الأرض التي جاء منها (الجيزة، كثربا، الخطابية،..). وفي جانب آخر يمكن تتبع تسميات القرى الأمهات والقرى الآباء، المسبوقة بكلمة أم أو أب، مثل أم القطين، أم رمانة، أم الأسود، أم زيتونة، أم العمد، أبو نصير، أبسر أبو علي، أبو اللسن، أبو اللوفس.
***
هذا التقسيم يأتي اجتهادًا على أسماء القرى، ويمكن أن يتم تقسيمها بطرق مختلفة، وهناك بعضها تكون ضمن نموذجين في الوقت ذاته، وهذا يرجع لتركيبة اسمها من مقطعين، أو لمرجعية تفسير معنى الاسم، خاصةً وأنَّ كثيرًا من القرى لها معان وتفسيرات مختلفة في الإطار المجتمعي أو اللغوي أو الدلالي، ولكن يمكن الإطلالة على بعض قصص تلك القرى، وتحوّلاتها، من بعض النماذج المنتقاة، وفيها إضاءة على معنى الأسماء، والقصص المتعلقة بالأمكنة، وهي تحتمل أيضًا دراسة أخرى، ومستفيضة، في بعض الأمكنة، والمواقع داخل تلك القرى، لتشكّل مع قصة القرية مدونةً خاصةً بكلِّ قريةٍ على حدة، وفيها مزج بين التوثيق العلمي، والتاريخ الشفوي.
***
عند التوقف عند قرية أم القطين في المفرق، يلاحظ أنَّها لا ينمو فيها التين، لتأخذ اسمها من التين المجفّف، في مقابل أنَّ أهل القرية يوردون جذر التسمية في سياق قصة شعبية للتعبير عن المسوّغ الأول للاسم، فيحكون رواية مفادها أنَّه أيام كانت القرية ضمن دائرة فضاء سوريا وكان يرتادها التجّار، وسقط من هؤلاء الجماعة فيها "حِمل" من التين، وجاء بعد فترة تجار آخرون فوجدوه قد صار مجفّفًا "قُطين"، فقالوا إنَّ هذا المكان هو "أم القطين". وهناك من كبار القرية من يجتهد فيشير إلى أنَّ الاسم هو أم القِطّين (مثنى قِط) حيث تذكر أحيانًا على ألسنتهم (أهل القرية)، فيكون وصفهم لذلك بأنه: "كان فيها (ابساس) اثنين، وكانت بريّة، فسموا "المَحَلْ" بأم القطين نسبة للبساس الاثنين". كما أنَّ الحفريات في ذاكرة القرية تحيلنا إلى أسماء أخرى مثل "الضبيعية" لكونها كانت منطقة غابات، بحسب رأيهم، وكان فيها ضباع كثيرة، كما أنَّه يرتبط بها، أيضًا، اسم "جفنة" تيمنًا باسم امرأة أحد أمراء الغساسنة.
***
أمَّا قرية "بئر خداد" أو "بير خْداد"، الواقعة في منطقة الشوبك، فقد كانوا قديمًا ينادونها بـ"بير خَدّاد"، وأحيانًا "بير حَدّاد"، ولكل تسمية من هذه الأسماء مرجعية ودلالة تعيدها إلى قصة أو لغة أو فترة من تداعيات تاريخ القرية، غير أنَّه من الممكن أكثر ربطها بتاريخ الاستيطان في المنطقة، وإرجاعها إلى الناس الذين أقاموا في الشوبك لتكون الصلة منطقية بين القرية، وعشيرة الحدادين الذين كانوا يواطنون الشوبك قبل مئتين وخمسين عامًا.
***
قرية برما في جرش، يرجع اسمها في تداعياته الأولى إلى الآرامية، وهو تحوير للكلمة التي أصلها الآرامي "برميت"، والتي جاء منها اسم برما.
ويروي الناس من أهل القرية أنَّ الاسم يعود أيضًا إلى ارتباط القرية بالبر والماء، فهي"برماء"؛ لأنَّها كانت تحتوي فيها على (101) نبع ما، وكانت تربتها خصبة وطيبة وملأى بالأشجار، ولهذا ارتبطت بالماء والتراب وبالخير المرتبط بهما فصارت "برماء"، ثم برما.
وارتباط الاسم بطبيعة المكان، يمكن ملاحظته في قرية البيضا، بجانب البترا، التي يشير أهلها عن دلالة الاسم قائلين إنَّ تسميتها بـ"البيضا" كان بسبب أنَّ "جبالها بيضاء"، ولأنَّها كانت "تنتج العنب الأبيض"، لذلك فقد كانت مشهورة منذ قديم الزمان بمعاصر النبيذ التي ما زالت آثار بعضها موجودة في غير مكان منها حتى الأن.
ومن القرى التاريخية التي احتفظت باسمها الأقدم، قرية حسبان، التي اشتُهرت في المصادر القديمة باسم "حشبون"، وهي كلمة سامية قديمة وتعني التدبير، حيث أنَّ بعض الأسماء السامية المنتهية بواو ونون تقلب في العربية إلى ألف ونون، صارت "حُشبان"، ثم جرى نحتها لتصبح حُسبان.
***
قرية "الحمراء" في المفرق، يلخص أهلها سبب تسميتها بأنَّه "جاء انتسابا الى تربتها الحمراء" ويشير بعض منهم إلى قصة أخرى للتسمية، تختزنها الذاكرة الشعبية بأنَّها اكتسبت التسمية بسبب أنَّ "فرس الشيخ ابن عجيان قُتلت في هذا الموقع، وكان اسمها "الحمراء"، فتضرّج التراب الأحمر بالدم القاني للفرس، وسُمّي هذا المكان بعد ذلك بالحمراء".
***
نختم بسرد التحولات التي طالت اسم قرية الهاشمية، التي تقع في محافظة عجلون، والتي تعرف قديمًا باسم فارة، بينما كبار القرية يقولون إنَّ اسمها الأقدم كان "فارا، بالألف وليس بالتاء المربوطة، ومعناها بالعربية هو وعاء المسك، واسمها الأسبق عليه هو فيرا الذي يعود إلى اللغة اللاتينية"، وقد تم تغيير الاسم بناء على طلب أهل القرية في عام 1973م، ليصبح الهاشمية، نسبة إلى ملوك البلاد الهاشميين، وهذه التسمية أُطلقت في القرن الماضي على عدة قرى في الأردن، إذ يمكن رصد خمس قرى أخرى تحمل الاسم ذاته غير قرية الهاشمية في عجلون، تلك القرى هي الهاشمية في قضاء رجم الشامي التابع للواء الموقر في محافظة العاصمة عمان، والهاشمية في الزرقاء، وهي مركز للواء الهاشمية، وفي البادية الشمالية هناك قرية الهاشمية الشرقية التابعة لقضاء الصالحية في محافظة المفرق، وفي محافظة معان توجد قرية الهاشمية التي تتبع إلى لواء الحسينية، أمَّا القرية الخامسة الحاملة لذات الاسم فهي الهاشمية الجنوبية ضمن لواء المزار الجنوبي في محافظة الكرك.