البحثُ العلميُّ من المنظورِ النفسيّ

معاذ قنبر
كاتب وباحث سوري
• تمهيد
التفكيرُ ليس مجرد نتاج آلي لفعل فيزيائي ينعكس من العالم إلى الحواس، كما أنّه ليس ردَّ فعلٍ بيولوجيّ بحت يتعامل مع انطباعات حسيّة آتية من العالم الخارجي. إنَّه إعادة صياغة وفهم تأويلي للعالم. ويحمل هذا التأويل بطبيعته فهم مستقل عن حقيقة العالم كموجود معطى. إنَّه فهم تحكمه الطبيعة النفسية التي تجعل الناس تنظر للموضوع نفسه نظراتٍ مختلفةً حسب تغير الزمان والمكان.
وكل شخص أو باحث علمي هو عند التدقيق مُختصٌّ فيما لا يُتوقع، وكل اكتشاف مهم هو بالتعريف شيء غير متوقع، ولو كان يمكن توقعه لما كان اكتشافاً، بل نتيجة، وغرض العلم هو إيجاد الظروف التي تتيح تحقيق أحداث أو مشاهدات غير متوقعة، لذلك فإنَّ طبيعة الأفعال العلمية الكبيرة تأتي من أولئك الذين يجازفون بأنفسهم خارج المسار التقليدي، ولا يخشون ظهور ما هو غير منتظر، فكلُّ شيء يتقدم بقفزات غير متوقعة ولا يمكن التنبؤ بها. ومن واجبنا لا في المجال العلمي فقط، بل في المجتمع نفسه، أن نشجع تنظيماً حقيقياً لاستيعاب، والتجاوب مع ما هو غير متوقع. إنَّ تجاوبنا مع ما هو غير متوقع يتيح لنا إعادة فهم الذات وتفاعلها مع الموضوع. وبالمقابل فإنَّ معرفة الذات، من حيث هي عملية تكرارية تفاعلية، تهبنا استبصاراتٍ للعلم. والعلمُ يلقي الضوء على المسائل الشخصية، وكلما اكتشفنا أكثر عن الطبيعة، كلما اكتشفنا أكثر عن أنفسنا، وإذ نكون على وعي بالرابطة بين النفس والتجربة، نستطيع أن نطرح على أنفسنا أسئلةً مختلفةً حين يبدو العمل غير هادئ. وحين تخيبنا التجربة أو مشروع البحث، أو حين يتواصل ظهور المشاكل، يمكن أن نقطع خطوة إلى الوراء ونتدبر ما إذا كان ثمة شيء ما ذاتي، فربما تشير التجربة إلى الحاجة لتعديل منظورنا في المجال الشخصي، فنحن نستطيع أن نفحص تفاعلنا مع الطبيعة لنتعلم المزيد عن أنفسنا. إنَّ البحث العلمي في أي درجة من درجات دأبه، هو في النهاية مشروعٌ انفعالي. وتأسيس المعرفة الطبيعيّة يتوقف قبل كلِّ شيء آخر على النفاذ إلى ما يمكن تخيله دون أن يكون معروفاً، وقد كتب عالم القرن الثامن عشر "الكونت رمفورد" عن نفسه: "إنَّ الحماسة التي تلهب عقلي لا يمكن التحكم بها، لدرجة أنَّ أي شيء يهمني يستغرق انتباهي كله، وأتابعه بدرجة من الحمية التي لا تعرف التعب حتى لتقارب الجنون...". وكم هي عقيمة تلك المناقشات العامة حول قيمة العلم إن لم تنفذ إلى تفصيل قيمة الأفكار العلمية، وإن لم تر أنَّ كل فكرة علمية تحقّق بصورة ملموسة قيمةً نفسيّةً من مستوى عالٍ. والبنية العقلية حسب "باشلار" ليست بنى ثابتة، بل متطوّرة بفعل أثر المعارف العلمية عليها، فالمعارف العلمية الحديثة والمكتشفة لا تؤثر في تطور المعرفة العلمية وحسب، بل تؤثر أيضاً على بنية الفكر الذي ينتج هذه المعرفة.
• البحثُ العلميُّ ودوره في النفس
لقد أكّد "هانسون" أنَّ النظريات العلمية التي يأتي بها العلماء تجدّد لنا تصوّر ما شوهد؛ نظراً لأنَّ العلماء في الأحقاب الزمنية المختلفة يشاهدون الشيء نفسه، لكن نمط المشاهدة المشار إليه لا يعالج تصور المشاهدة معالجة كاملة، حيث يوجد معنى آخر بمقتضاه لا يرى ملاحظان اثنان الشيء نفسه ولا يبدأان أيضاً من المعطيات نفسها، مع أنَّهما من الناحية البصريّة على وعيٍّ تام بالشيء الملاحظ نفسه وهو موضوع المشاهدة. وهناك معنيان لكلمة يشاهد: المعنى الأول: هو ما عُرف منذ بداية العصر الحديث بالموضوعيّة، التي تعني تركيز الانتباه على كلِّ جوانب الظاهرة وتمييز أوجه الاتفاق والاختلاف فيها وتمييز عناصرها بدقة، والعناية بتدوين التفاصيل المشاهدة وحسب؛ دون تدخل الذات في عملية الملاحظة ذاتها. والمشاهدة بهذا المعنى، يمكن أن نطلق عليها اسم المحايدة. أمَّا المعنى الثاني: فبموجبه لا يشاهد العلماء الشيء نفسه، إنَّهم يشاهدون الظواهر الخارجية من خلال الذات، وهنا نجد العلماء يقررون تأويلاتهم الخاصة الداخلية على الأشياء. فكأنَّ المعنى الموضوعي هو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح التفسير، والمعنى الذاتي مصطلح التأويل.
إنَّ متطلبات خلق درجة من الأمن والأمان عن طريق التنبؤ والتحكم بالطبيعة، دفعت العلماء إلى خلق نظام مستخدمين في هذا وظيفة التفكير، وهي الوسيلة الأفضل لاكتشاف نظام ما في شواش الطبيعة، وفي وضع كهذا يمكن تنفيذ الكثير من وظائف التفكير والإحساس عن طريق الآلات، إذ يستطيع الحاسب الآلي معالجة المعطيات أسرع كثيراً من ذهن البشر، تستطيع الأجهزة قياس الأطوال الموجية في شعاع الضوء والصوت عبر مجالات أوسع مما يمكن للعيون والآذان البشرية التقاطه، غير أنَّنا في المقابل نحتاج إلى الحدس ليطرح المعطيات معاً، فتشكّل نماذج وتقدر المعنى استقرائياً، ونحتاج إلى الشعور لتحديد الجدارة والاستحقاق، وإرساء قيم أخلاقية نظرية وعملية. والنهجُ التجريبيُّ هو أحد مساعي الفكر الإنساني وغايته إعادة تكوين الواقع في الدماغ، فإذا لم يفكر الإنسان لا يمكنه أن يدرك الواقع، وإذا لم يستمر الإنسان الذي أدرك في التفكير، فإنَّ الواقع المُدرك سيبقى عقيماً. فالفكرُ إذن حاضرٌ في كلِّ مراحل المسعى العلمي. وفي البحث العلمي يجب الانفتاح؛ أي يجب أن نعرف أنَّ جمال العلم ليس فقط في أن تصيب كل تصوراتنا، بل في أن تخطئ أيضاً. إنَّ الخطأ يولد انفعالاً جماليّاً، ومن خلاله يمكننا أن نتطلع إلى عوالم وأفكار جديدة لم نكن نتوقعها ولم تكن في قاموس معارفنا وتصوراتنا أبداً. إنَّ الملاحظة تساعدنا في اتخاذ موقف معارض لفرض مقبول، وهذه الملاحظة تحتاج إلى إصرار أطول وصراع أشق أكثر من المعطيات الملاحظة التي تتفق مع التوقعات، وتوقعاتنا تؤلف ما نشاهده، لكنَّها لا تستبعد تماماً الرؤية غير المتوقعة.
• الخيالُ ودوره في البحث العلمي
الخيالُ والأصالةُ عنصران لا غنى عنهما للفكر المبدع، فالحقيقة لا تكمن مستقرة في الطبيعة بانتظار الإعلان عن نفسها بحيث لا يمكننا أن نعرف مقدماً ما هي الملاحظات الملائمة وما هي غير الملائمة. فكلُّ اكتشافٍ وكلُّ توسّعٍ في الفهم، يبدأ كتصوّرٍ خياليٍّ قبلي لما قد تكون عليه الحقيقة، وينشأ هذا الفرض الخيالي نتيجة عملية يسهل أو يصعب فهمها كأي عمل خلّاق من أعمال العقل، فهو موجة عقلية، أو تخمين ملهم، أو نتيجة للمحة نافذة متوهجة من لمحات البصيرة، وهو يصدر على أية حال من داخل النفس يضاف إلى ذلك المثابرة. حيث تميل ومضة الحدس الإبداعي إلى أن تبزغ في أوقات الاسترخاء، أثناء الاستحمام، أو الحلم، أو حين السير في نزهة على الأقدام، أو حين يرنو البصر إلى النجوم عبر النافذة، إنَّها تفلت من سيطرة مقولات العقل الصارمة التي تنحو نحو الإنجاز، كما تتخلص من آثار الصدمة والقلق والإجهاد الذي يثبط هذه العملية. إنَّ العقل الحدسي المستكشف المتخفّف المسترخي، يختنق في أجواء التوتر والقلق التي تخلقها الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعلم التقني، حيث تسود أجواء العلم التنافسية القائمة على كم الإنجاز، لا كيف الإبداع. ولا توجد نظرة عقلية خالصة للعالم لا يلعب فيها الخيال دوراً، بل إنَّ الاكتشافات العلمية تعتمد بدرجة كبيرة على الخيال، ولو لم يكن لدى "أينشتاين" القدرة على تخيل الصورة التي يبدو فيها العالم للمراقب المسافر بسرعة تقارب سرعة الضوء لما صاغ النظرية النسبية. كذلك حلم الفيزيائي "بور" بالنظام الشمسي كنموذج للذرات ما أدى إلى نموذج بور لبنية الذرة. وفي بواكير القرن العشرين، نال مراهق غير متعلم من أسرة فقيرة في الهند كتاباً مدرسيّاً قديماً في الرياضيات حيث يقول "رامانوجان" أنَّه بعد قراءة هذا الكتاب سرعان ما ظهرت "الربة ناما جيري" في أحلامه بالصيغ والمعادلات، ومن هذه الأحلام شيّد بنياناً مهيباً من المعارف الرياضية مكّنه من الحصول على منحة دراسية في "كامبردج". وبعد دورة مكثفة من العمل والتركيز، تمثل ل"مندلييف" في أحد الأحلام الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، حيث يقول: "رأيتُ في الحلم جدولاً تحتلُّ فيه كل العناصر مواقعها بالشكل المطلوب، وفور أن استيقظت سجّلت هذا على الورقة، وبعد هذا لم يظهر إلا تصويب واحد ضروري في أحد الأماكن". إنَّ العلماء الكبار، أمثال "أينشتاين وفاينمان وبوم"، لا يقومون بتقسيم تصوّراتهم إلى مقولات شخصية وأخرى علمية، ولا يستبعدون عن مضامين مشاغلهم ما هو فلسفي، وما هو سؤال ميتافيزيقي، بل على العكس من ذلك، يترك عملهم تأثيراته في رؤيتهم الشخصية للعالم، يدركون الثقل الكبير لارتقائهم السيكولوجي وحياتهم الجوانية على عملهم. ومن المعروف أنَّ الفيزيائي "باولي" كان يلتقي مراتٍ كثيرةً مع العالم النفسي الشهير "يونغ"، من أجل تبادل خصيب للأفكار حول العلاقات بين الفيزياء النظرية، وعلم النفس.
إنَّ النهج العلميّ هو بالمحصلة فن التنقيب عن الأحلام التي هي مواصفات قيمة للواقع من بين مليارات الأحلام التي ينشئها الدماغ البشري، والتوفيق بين الفكرة والملاحظة لا يمكن الحصول عليه إلا إذا كانت هناك فكرة متخيلة، أي إذا كان الدماغ ناشطاً حول موضوعات مدروسة. والفكرُ البشريُّ يميل ميلاً طبيعياً إلى الحلم عندما يجهل، وقد وجدنا رجالاً يرسمون حركة الكواكب قبل أن يلاحظوها، وهم يؤكدون وجود "الفلوجستون" قبل دراسة الاحتراق، ويقيمون نظرية الأسعار بتعليل عدد من مجموعات الإحصائيات، في الوقت الذي يتطلب ذلك الألوف منها.
• عقباتُ البحث العلمي من المنظور النفسي
إنَّ كلَّ معرفة موضوعية مباشرة لا بدَّ أن تكون كيفيّة ( دون أن تكون مغلوطة بالضرورة ) ونعني بها شحن الموضوع بانطباعات ذاتية. فالمعرفة المباشرة ذاتية في أساسها، وهي إذ تتخذ الواقع خبراً لها إنَّما تقدّم يقينياتٍ مسبقةً تعوق المعرفة الموضوعية أكثر مما تخدمها، وكذلك فإنَّنا قد ننخدع فيما لو فكرنا أنَّ معرفة كمية تنجو مبدئياً من مخاطر المعرفة الكيفية، فالكم ليس موضوعياً بشكل آلي. إنَّ مفاهيم موضوعيّة جدّاً في الظاهر، مصوّرة بشكلٍ واضح جداً، ملتزمة بكل جلاء في هندسة دقيقة، كالفيزياء الديكارتية، تفتقر افتقاراً غريباً إلى مذهب القياس، ولدى قراءة المبادئ، يمكن القول أنَّ الكم هو امتداد للكيف. ونفسانيّاً لا توجد حقيقة دون خطأ مصحح. إذ يرى "بوبر" أنَّه في العلم الموضوعي يوجد استقلال تام عن الشعور الفردي، فعملية اختيار النظريات العلمية لا تتضمن أو تعتمد على الاعتقادات الذاتية لأي فرد، فما دام الاختيار سيقوم به فرد ما فإنَّه يمكن تكراره مرات ومرات بواسطة أي فرد آخر في أي زمان ومكان، وكما يتطلب ضرورة موضوعية النظرية، كذلك فإنَّه لا بدَّ وأن تكون قضايا الملاحظة الشخصية، أي لا ترد إلى محتوى الشعور لأي فرد.
هذا الجدلُ بين الذاتي والموضوعي، يلعب دوراً لا يمكن إنكاره في نشأة العقبات العلمية التي تقف في طريق التقدم العلمي والاكتشاف، فأيُّ باحث علمي يجب أن يدرك أنَّ هناك نفوراً طبيعيّاً لديه من تغيّر النماذج الأولى، وهو نفورٌ أو ميلٌ إلى الشك ويُعدُّ جزءًا لا يتجزأ من العملية العلمية؛ لذلك فإنَّ تشبعنا الدائم، بما يسمّى بالأفكار المسبقة، يُعتبر من أهم العوائق النفسية القائمة أمام الباحث العلمي، وما أكثر ما تعوزنا الشجاعة الكافية إذ نميل إلى إقامة أنواع العراقيل والانحرافات المنطقية كافة!؛ مثل الطعن في كفاءة الباحث أو حتى في صدق معلن للنتائج، ومختلف أشكال الدفاع الخاص لحماية الواقع القائم، رافضين الإقرار أنَّ الفكر ينتخب الحقائق من العالم المحسوس، والدماغ البشري إن لم يكن عاجزاً ، فهو على الأقل قليل القدرة أو قادر بصعوبة على إدراك حقائق العالم الخارجي عندما لا تكون هذه الحقائق منسجمةً مع مضمونه المسبق، ويمكننا أن نتمثل طبيعة الضلالات التي تنجم عن الملاحظة المبتذلة للطبيعة وتنوعها إذا ما أصغينا إلى الناس وهم يتكلمون عن تأثير القمر في الزمن، وتأثير الكواكب في حياة الناس، أو الأرقام بالحظ. من هنا نجد أنَّ للاعتقاد المسبق أثرٌ بعيدٌ، في إنكار الحقائق التي قد تظهرها مستجدات جديدة ناتجة عن الملاحظة المباشرة، أو حتى عن طريق أداة تكنولوجية جديدة، ونحن نعرف كيف خاب ظنُّ "غاليليو" بالناس بعد أن فشل بإقناع قامة الفكر الفلسفي والديني في عصره بوجهة نظره من خلال اختراعه التلسكوب، فبعض الرجال الذين شاع صيتهم بين الناس رفضوا أن ينظروا من خلال التلسكوب، بينما أقدم البعض الآخر على النظر من خلال هذه الأداة التكنولوجية العجيبة ولكنَّهم ادّعوا أنَّهم لا يرون شيئاً جديداً من شأنه أن يغير نظرتهم إلى الأمور، وادّعى آخرون بأنَّهم رفضوا النظر من خلال التلسكوب؛ لأنَّ كلَّ ذلك لن يؤدي بهم إلى نتائج جديدة ذات قيمة فلسفية كبيرة، وقد ذهب بعض الرافضين للنظرية الجديدة، إلى أنَّه من غير المعقول ألا يكون عند القدماء أداة كهذه!، وبموجب هذا الرأي الدوغمائي والمستقر في الفكر؛ فإنَّ "غاليليو" لم يكتشف سراً جديداً، بل لا جديد في العلم على مرِّ الزمان، ما دام الجديد والقديم كلاهما كانا قائمين في كتب "أرسطو". إنَّ العقبة الأولى أمام العقل العلمي، هي عقبة الاختبار الأول، الاختبار الموضوع قبل النقد، وفوق النقد، والذي يعتبر بالضرورة عنصراً من عناصر الفكر العلمي، وبما أنَّ النقد لم يفعل فعله صراحةً، فلا يمكن للاختبار الأول في أي حال من الأحوال أن يكون سنداً موثوقاً.
والواقع أنَّ الملاحظات العلميّة هي الحقائق التي تُبنى عليها الفرضيات. وتبدأ مشاكل الملاحظة في الظهور حين يتسبب تحيّز المراقب في إبلاغه بأشياء لا تتفق مع الواقع. التمني يجعل الناس يتخيلون حدوث أشياء لم تقع فعلاً، خاصةً حين تتفق هذه الأحداث مع المعتقدات التي يعتنقونها اعتناقاً شديداً؛ لهذا السبب فإنَّ من يعتمدون على الروايات الشخصية بكونها أدلةً قد يخدعون أنفسهم بها. فهم على سبيل المثال يميلون لملاحظة الأحداث الإيجابية المتوافقة مع ما يؤمنون به، وفي الوقت ذاته يتجاهلون الأحداث السلبية.
ومن عقبات البحث العلمي التعميم؛ إذ هناك على ما يبدو جانبٌ ثابتٌ في التكوين النفسي لكلِّ الناس، وفي كلِّ الأزمان، يتمثّلُ في النظرة إلى أسباب الأشياء على أنَّها أعمق وأهم فكريّاً وأدبيّاً وعلميّاً من الأشياء التي نتجت عن هذه الأسباب. وعندما نتحدث عن التعميم هنا لا نقصد صيغته المنطقية، بل صورته المعبرة عن النزعة المكبوتة للارتياح والاطمئنان بأيّ ثمن. فالتعميم قد يكون استجابةً لمتعة عقلية، فيكون متسرعاً وسهلاً ويعوق بلوغ حقيقة الظواهر. والتعميم السهل الذي ينطلق من تجارب أولى، يعوق فهم الوقائع في غناها من حيث أنَّه لا يأخذ بعين الاعتبار كلَّ التعقّد الماثل في الظواهر التي يريد تفسيرها. وعلى سبيل المثال كان العلماء في القرون السابقة يميلون إلى تفسير أكبر عدد ممكن من الظواهر بالعودة إلى القوانين الخاصة بالتيار الكهربائي، فالقوانين الخاصة بهذا الميدان، تعمم التفسير لظواهر تخضع لميادين أخرى، كالمرض والصحة والسحر والكيمياء والحياة، وذلك بفعل السعي إلى التوحيد غير المبرر، وإعطاء قوانين أكثر عمومية لا بفعل الواقع الموضوعي لهذه الظواهر. والواقع أنَّه لم يؤثر شيء على عجلات تقدم المعرفة العلمية، أكثر من عقيدة التعميم الباطلة التي سادت منذ "أرسطو" حتى "بيكون"، والتي ما تزال بنظر كثير من العقول عقيدة أساسية في المعرفة، حيث ثمة متعة فكرية خطيرة من التعميم السريع والبسيط.
• النتيجة
لقد تعلمنا مراراً أنَّ السعادة وتحقيق الذات، يكمنان في العلاقات الشخصية المتبادلة وحسب، ولكن التناسل والحياة الأسرية ليستا هما الغايتين الوحيدتين للإنسان، ولو لم يكن الإنسان كائناً مهتماً اهتماماً شديداً بإضفاء معنى ونظام على الكون، لما قُدّر لأعظم منجزاته العقلية أن تظهر للوجود. إنَّ الإنسان لم يخلق للحب وحده. ونحن ندين بدين هائل لأولئك العباقرة الذين طغت حاجاتهم إلى إيجاد معنى لعالم بدا لهم غير متسق، على حاجاتهم إلى تكوين علاقات إنسانية. والواقع أنَّ الغالبية العظمى من البشر مشغولون إلى حد ما، بأن يكون لحياتهم معنى ونظام، كما أنَّهم مشغولون بالعلاقات الشخصية مع غيرهم من الناس، ولكن أسمى ما تم الوصول إليه من مستويات الفكر التجريدي، إنَّما تحقّق على يد رجال كان لديهم الوقت والفرصة للانفراد بأنفسهم لفترات طويلة، كما كان اهتمامهم بالعلاقات الشخصية أقل بكثير من اهتمام معظمنا بها، لقد كان معظم الباحثين الكبار منعزلين إلى حد ما. هل يعني ذلك أن نبتعد عن الناس كي ننجز؟ ليس هذا بالضبط هو المراد، ما نقوله هو أن ننجز يعني أن نجعل العالم بكليّته مندمجاً بخيالنا، فنتحد بالموضوع المدروس، وإن نسينا قليلاً جزئيات حياتنا الاجتماعيّة.
المراجع
1- أكاديمية العلوم الفرنسية: مستقبل العلم – ترجمة: مكي الحسيني الجزائري، دار طلاس، دمشق ، ط1 1995.
2- دليندا جين شيفرد: أنثوية العلم – ترجمة: د. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، عدد 306، 2004.
3- محمد وقيدي: فلسفة المعرفة عند جاستون باشلار – دار الطليعة، بيروت، ط1 1980.
4- ماهر عبد القادر محمد علي: فلسفة العلم – المشكلات المعرفية ج2- دار النهضة العربية، بيروت، 1982.
5- عبد الله عمر: ظاهرة العلم الحديث، دراسة تحليلية تاريخية – عالم المعرفة، الكويت ، عدد 69، 1983.
6- بينيلوبي مرّي: العبقرية. تاريخ فكرة – ترجمة: محمد عبد الواحد محمد، عالم المعرفة، الكويت، عدد 208.
7- تشالز إم وين، أرثر دابيليو ويجنر: الطفرات العلمية الزائفة - ترجمة: محمد فتحي خضر، كلمات عربية للنشر، مصر ط1 2011.
8- غاستون باشلار: تكوين العقل العلمي – ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط3 1986.
9- جزن- ب.ديكنسون: العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث – ترجمة: شعبة الترجمة في اليونسكو، عالم المعرفة، الكويت، عدد 112 ، 1987.
10- جان فوراسييه: معايير الفكر العلمي – ترجمة: فايز كم نقش، منشورات عويدات، بيروت ، ط2 1984.