الكمين

حسام الرشيد
قاص وروائي أردني

كان الحاج مرضي بين قطبي رحى، يغمض عينًا ويفتح الأخرى، وثمة خاطر كالوتد ينغرس في قلبه، ثمّ لا يلبث أن ينفض غبار النوم عن عينيه، مصيبة ما ستحدث، هذا ما أخبرني به شيخ الجامع، إن لم ...
حاول أن يطردَ ذلك الخاطر، ولكن عجزه عن النوم في تلك الليلة جعله يعدل عن مكان نومه، لعلّ وعسى!!، تناول فرشةً من أسفل السرير ووضعها قبالة النافذة، تاركًا زوجته الثانية وطفة تشخر على السرير، وقد ربطت على رأسها عصابةً حمراء، ثنت في عقدتها تمامًا في الفسحة المتغضنة بين الحاجبين، حجابًا مثلثًا بحجم عقلة الإصبع.
تهبُّ النسائم الرقاق، تعبرُ النافذة المفتوحة على مصراعيها، ستارتها الممزقة تتراقص في الهواء كشبح بلا أطراف... استلقى الحاج مرضي على ظهره، مدّ بصره إلى الباب الموارب، رأى زوجته الأولى لذة تطلّ برأسها السنجابيّ، وتعودُ أدراجها متلفعة بظلام الليل .
قبل أيام حلم الحاج مرضي بأنَّه واقفٌ على شفا حفرة تتأجج فيها النار، شواظها الأحمر يتلولب في الهواء، زوجتاه واقفتان خلفه لا يراهما، إحداهما تحاولُ دفعه إلى السقوط في النار، والأخرى تجذبه نحوها لكي لا يسقط، فأفاق من نومه وهو يتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم.
ذهب إلى شيخ الجامع يستفتيه في حلمه، فأفتى له بأن يطلق إحدى زوجتيه، وإن لم يفعل حدث له ما لا يسرّه، عاد إلى بيته وهو في صراعٍ مقيت، هل يطلق زوجته الأولى لذّة، أم يطلق زوجته الثانية وطفة؟، وجعل يفاضل بين هذه وتلك، فإن رجحت كفة إحداهما في أمور، رجحت كفة الأخرى في أمور أخرى، وهو لم يرزق منهما سوى ولدين ، شبّا عن الطوق وتزوجا.
أمسك الحاج مرضي نفسه عن الانزلاق في مفاضلة ستجرّ عليه العواقب الوخيمة، وهو قد حجّ بيت الله ثلاثًا ويربأ بنفسه على أن يظلم إحدى زوجتيه، مرّت بضعةُ أيام والنوم ينأى عنه، حتى إذا طلع الصبح جمعهما إليه، على "طرّاحة" جلس في المضافة، بعد صمتٍ توطّد على شفتيه، قال لهما وهو يشعل سيجارته بصوت ذي نبرة جازمة:
-سأطلّق إحداكما!
بدا الأمر هكذا مباغتًا، أمسك ب"القدّاحة" وأشعل سيجارة، لم يبدُ أنَّه يلهو، زوجتاه ابتلعتا كلامه وازدردتاه، وتناوبتا على النظر إلى وجهه المتجهم على غير عادته، رائحة الصمت الكريهة تحولّت إلى خوفٍ لا مرئي، يقبع على الوجوه والألسنة، ويتفشّى كوباء قاتل، همهمة خافتة سرت بينهما، فحدّجهما بنظرة ثاقبة، فأمسكتا عن همهمتهما إلى حين، وما لبث أن عجّ نفَسًا عميقًا من سيجارته، وقال لهما هذه المرة بصوت أكثر جزمًا:
-سأطلّق إحداكما!
وجدهما مستغرقتين في الصمت، ورغم كثافة القلق الذي طواه داخله، وخشي أن يطفو فجأةً على وجهه، انتظر منهما جوابًا يخرجه من تلابيب هذه اللحظة التي لم يتوقعها، وزوجتاه رغم لحظات عراكهما القليلة، لم تفعلا بما يستحق هذا الجزاء.
ظلّت الكلمات عالقةً على الشفاه، لذة الزوجة الأولى قهقرت عجيزتها للأمام قليلاً، وهي تحكُّ ذقنها الموشوم؛ تذكرت ليلةَ أمس حين تسللت إلى الممرّ الفاصل بين غرفة نومها وغرفة نوم ضرّتها، وقفت أمام الباب الموارب فوجدت الحاج مرضي نائمًا على الأرض، وليس على السرير بجانب زوجته وطفة، فكرّت راجعةً وأفاعي الريبة تتلوى في صدرها، ماذا حدث يا ترى؟
حرّكت ذراعها للأمام وقالت للحاج مرضي بنبرة هادئة:
-وما هي جريمتنا؟
سحق الحاج مرضي بقايا السيجارة بالمنفضة، وقد شعر بخدر في حلقه زحف إلى لسانه، تنهّد موغلاً في لحظة كالسنة، شعر أنَّ أنفاسه أخذت تضيق، لكنَّه جلد رغبته بالجواب فسكت، التفتت لذة إلى ضرّتها، التي أخرجت من عصابة رأسها حجابها المثلث، وقلبته بين أصابعها، وهي تقرأ المعوذتين، داعية اللهَ أن يطرد العين الشريرة التي دخلت إلى هذا البيت بلا استئذان، فركت أنفها الشبيه بحبة تين عجراء، وقالت بنبرة استنكار:
-ومن أشار عليك بأن تطلق إحدانا؟
ظلّ الحاج مرضي يبحث عن لحظة ينفلت فيها لسانه من زمامه، ولكن أنّى له ذلك وهو واقع في أمرين أحلاهما مرُّ، فهل يجعل القرعة بينهما، أم يُبقي على زوجته الثانية ويطلّق الأولى، أم يفوض أمره برمته إليهما، وكل شيء بقضاء؟.
وبلا مقدمات قالتا له بصوت واحد:
-دع الأمر لنا!
انقضّت الكلمات على رأسه، انقضاضة عقاب على فريسة سانحة، وزوجتاه تتنازعان على صغائر الأمور، فكيف ستتفقان إذن على أمر كهذا، وانبرى يؤنبُ نفسه على أنَّه أخبرهما بما هو مقدم عليه، وكان الأولى به أن يتمّ أمره دون علمهما، والله فعّالٌ لما يريد، وحيث أنَّهما قد أخبرتاه بأن يدع الأمر لهما، فقد خلصتاه من مغبّة أن يظلم إحداهما دون الأخرى.
بعد ثلاثة أيام بلياليها، ظلَّ الحاج مرضي خلالها صريعَ هواجسه، انتظر من زوجتيه ما يجعله يتمّ هذا الأمر ويستريح، ولا سيّما أنَّ أمرهما أمسى شورى بينهما.
وبينما هو جالسٌ في مضافته بعد عودته من صلاة العشاء، جلستا إليه وأخبرتاه أنَّهما أجمعتا على رأي لا مردّ عنه. بغتةً تلاشت علائم الحيرة من على وجهه، مليّا نظر إليهما وقال:
-وما هو هذا الأمر؟
قالت لذة بصوتها الواثق:
-لتكن فتوى شيخ الجامع.
قالت وطفة مستدركة قول ضرّتها:
-على فتواه احتكمنا.
أغمض الحاج مرضي عينيه برهةً، وثمة قلق يتموّج في وجهه، هل بلغهما أنَّ شيخ الجامع هو من أفتى له بطلاق إحداهما، ولكنَّه طرد قلقه هذا، والأمر ظلّ سرَّا بينهما.
فقال لهما وهو يمسح وجهه وكفيه:
-اتفقنا.
في ظهيرة الغد وبعد خروج المصلين عقب صلاة الظهر، دخلتا إلى صحن الجامع، فوجدتا ضالتهما جالسًا على الأرض، ممدًّا ساقيه إلى الأمام ومستندًا بجذعه إلى الحائط، فاستأذنتاه بأن يفتيهما في حلمهما، فلمّا أذن لهما، مسّد لحيته بخشوع، قالت وطفة بأنَّها حلمت بصندوق من الذهب مدفون في قاع شجرة الخرّوب على مدخل الجامع، وقالت لذة أنَّها حلمت بأنَّ هذا الكنز لا يستخرجه سوى رجل يركب بالمقلوب على ظهر حمار أشهب.
ودون أن ينطق بحرف حدّق فيهما، دار رأسه بحركة نصف دائرية، لم ير سوى ظلّين أسودين ينتصبان أمامه، وهو يحرثُ بأصابعه شعيراتِ لحيته الشائخة، قال لهما بصوت ينمّ عن خشوع مصطنع:
-ومتى يكون ذلك؟
قالتا له بصوت واحد:
-حين يكون القمر في تربيعه الأخير.
وفي الموعد المضروب، سرى الخبر في القرية، كأنَّه النار الموقدة تسري في الهشيم اليابس، بأنَّ ثمة رجل مجنون، يركب بالمقلوب على ظهر حمار أشهب، سيدخل إلى صحن الجامع ويحاول هدمه، وذلك من أجل استخراج كنز مدفون، فتربّص به رجال القرية، وكان على رأسهم الحاج مرضي، فلمّا رأوه انقضّوا عليه وأوسعوه ضربًا، ففرّ من أمامهم إلى غير رجعة، وثمة زغاريد ممزوجة بالفرح، أطلقتها زوجتا الحاج مرضي ونسوةُ القرية ابتهاجًا برحيله...