غزلان

تغريد أبو شاور
قاصة أردنية
نحن هنا، منذ زمنٍ، على حالنا: "رجل نحيل وامرأة سمينة. رجل أنفه كعمود كهرباء، وامرأة أنفها كإجاصة بلدية. شعرك مسترسل، وشعري مجعد. نظرك قوي كأرنب بريّ، ونظري ضعيف كهرة".
- "آآخ يا زوجي العزيز، كيف قلبتنا الحياة فجأةً، وصحونا أشيبين بعيون مترهلة وأيد مرتعشة؟ هل تظنُّ أنَّ هناك من يتذكر غزلان "الداية"، وداوود المقاول؟".
كانت بصدد إكمال حديثها، لولا أن قاطعهما طرقٌ خفيفٌ على الباب، ظناه في البداية نقرات حبات البرد؛ ليعاود الطرق مرة أخر. ولم ينهضا من مكانيهما، إلى أن اشتدَّ الطرق. فتح داوود الباب، فإذا بشاب ظهر كشجرة مكللة بالثلج أمامه يطلب الخالة غزلان "الداية". نظر داوود إلى داخل البيت مُشيراً إليه بالدخول. دخل الشاب مُعرّفاً بنفسه:
- أنا أنيس من الحي الآخر، وزوجتي في وضع ولادة.
نظرت غزلان إلى زوجها، وهي تكظمُ غيظًا مختلطًا بالغبطة؛ وردّت سريعًا:
- يا بُني أنا كبرت، وعليك بطلب الإسعاف.
أخبرها بتعذر وصول سيارة الإسعاف، وأوضح لها أنَّها وإن وصلت، فستصل بعد ساعة على الأقل، وزوجته لا تحتمل قوّة الطلق وحرارة وجعه. أجالت غزلان نظرها عن كأس الشاي نحو زوجها، الذي هزَّ لها رأسه موافقًا. فقالت له:
- إنَّها مغامرة!
قال الشاب:
- لا يا خاله، إنَّ بيتي آخر هذه الحارة، لكن البلدية فرزته على أنَّه من الحي الثاني لاعتبارات تصبُّ في مصلحة رئيس البلدية.
نظر إليها داود متفهمًا معنى المغامرة التي تقصدها. تحركتْ نحو الداخل ببطء فُقمة، تُرجرج ... الكبيرة خلفها وصوت الأساور الذهبية يعطي مشيتها إيقاعًا مختلفًا. أشارت إلى أنيس أن يناولها حقيبتها من تحت السرير، أخذتها فنفضت الغبار عنها، ووضعت شالًا صوفيًا على كتفها، ولبست جوربًا سميكًا، وغرست قدميها في حذاء يكسوه الفرو، وانتظرت إلى أن جهَّز داوود نفسه، فقد اعتادا منذ زمنٍ طويلٍ أن يقضيا كل مشاويرهما معًا.
وصلا بيت أنيس، والزوجة وحيدة تغرق في عرقها، وتتمرغ في سريرها من الوجع. وبشكل بدَهي ومعتاد، طلبت من أنيس أن يُسخّن لها الماء، ومن داود أن يسنَّ المِقص، لينقعه في الماء المغلي، فهو لم يقص حتى ورقة، منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا. انطلقت غزلان مع زوجة أنيس بذكرياتها. تذكّرت عدد الولادات التي تمت على يدها، وتنقّلها بين بيوت حيّها والأحياء القريبة، وأيامها ولياليها المزدحمة بالمواليد والموتى؛ فالنساء في الحروب تتعاظم قوتهن الإنجابية من شدة الخوف، والرجال يقضون لياليهم في التسلية نيابةً عن الخوض في حرب ليست لهم!
تذكرت آخر ولد نزل بين يديها؛ كان أنيس الذي وضعته أمُّه أثناء غارة على المخيم، عندما تعذر على الإسعاف أن يصل إليها، كانت المستشفيات ندّها الأول وسببًا في كسادها. استعادت عزمها مع طلقات الزوجة، فطلبت ماء جديدًا وشراشف. صرخت الزوجة صرخة، حرَّضت الرعد، وبصوت تعالى معه الدعاء والاستجارة بالله، صرخ الوليدُ مع صوت الرعد، ليحمل اسمه: "رعد".
هدأ البيت، فطلبت غزلان من داود التدخل في قصِّ سرة الوليد، لضعف نظرها، تحرّر رعد من ظلماته، وغابت الزوجة في أمومتها، بعد أن لفّته الداية وأودعته حضن والديه. نظرا إلى بعضهما البعض بمحبة، ونظر كل من غزلان وداود للآخر بألفة وفخر.
حمل داود حقيبة غزلان، وعدَّلت له قبعته الصوفية، وطلبا من أنيس أن يبقى إلى جانب زوجته. مشيا تحت الثلج بضعف واضح، وإعياء أكبر. تمشّيا فوق الثلج في الحي الذي يملكان فيه أربع عمارات مأجورة للسكان؛ فبعد أن ضعف الطلب على غزلان، عملت وسيطًا مع داود. فكانت تدخل كلَّ البيوت تعرف عوزها وحاجتها، وتسارع في حجزها لداود قبل أن يسبقه تاجر آخر إلى شرائها.
دارت في رأسها كلُّ الأحاديث التي كانت تسمعها في البيوت، تذكّرت كيف كانت تنهر نساء تلك البيوت بنبرة قوية:
- لا تقلن أمامي أي شيء من أسرار بيوتكن، فأنا لا أستطيع ألا أتسلى بالكلام وأنا أولدكن.
نظرا إلى الحارة التي كانا يقطعانها عشراتِ المرات في الساعة، واليوم باتا غير قادرين على قطعها لمرة واحدة في عشر ساعات.
انغرزا في الثلج، رفع داود قدم غزلان، العالقة، وتابع بضحك عندما ذكّرها بقصته مع بيت الفرّان وبيت تاجر الجلود.
قضيا ثلث النهار، حتى وصلا لبيتهما والثلج يتوّج كتفيهما كمَلَكين.
فتحا الباب. جلس كلُّ واحدٍ منهما على أريكة. راح داود في نومةٍ قصيرة، وراحت غزلان في نومةٍ أخيرة محتضنة حقيبتها وضحكتها.