اَلْكَرَاسِي وَالْأَقْدَام

نصرالدين شردال
قاص مغربي
تشرق الشّمسُ كعادتها كلّ صباح، فيأتي النّاسُ إلى المقهى، وتأتي قبله القطّة الصّغيرة فتتمسّحُ بين الكراسي والأقدام، تشم رائحته، تنظر إليه، يناديها:
ــ "بس، بس، بسس...".
فتصل إليه، تتمسح بأقدامه، وتدخل بينهما في جلباب الصّوف، يربت عليها، وهي تلعب بذيلها كالأفعى، يأخذ من فطوره قطعتين من مربّى الحليب، ويضعهما لها جنب رِجلِ الطاولة، يشرب القهوة المرّة بلا سكر، يغمس قطعة الخبز الصّغيرة في صحن الزّيت الصّغير، ويأكل حبات الزّيتون السّوداء بنهم الطّيور، وهو يقرأ الجريدة أو يحدّق صوب التّلفاز في الجدار وفلا يرى تفاصيل الصّور المتحركة... يطلب من النّادل أن يزيد من إيقاع الصّوت، لتغني فيروز بصوتها الشّجي لصباحات الرّبيع الجميلة.
يدخن السّيجارة تلوى الأخرى بشراهة الشّباب المدمنين، إلى أن تمتلأ المنفضة بالأعقاب المدعوكة في الرّماد.
أقول له:
ــ"رويدك أ. البقالي".
يحدّقُ صوبي، ويجيب مبتسما:
ــ"الأستاذ... لم يبق لي ما أحزن عليه، لا صحة لا مال!!".
وبعد ساعتين، يؤدي الثّمن للنادل، ويخرج من باب المقهى، ينزل الأدراج ببطء شديد، ينعطف يمينًا حيث حديقةُ المقهى، وينصرفُ مترعًا بالكبرياء القديم والرّضى النّادر، بينما القطة تنزوي وحيدةً في باب الحديقة عند حوض ورود حمراء.
تشرق الشّمس كعادتها كلّ صباح.
لكنّها لم تشرق هذا الصّباح، حجبتها الغيومُ الكثيفةُ الّتي تتكدّس في سماء المدينة ولا تمطر.
صباحٌ مضبّبٌ ومثقل بالحسرة والأسى، ومع ذلك، دخل المقهى أناسٌ، وانصرف آخرون، مرّت ساعتان، لكنّه لم يأت.
تجمّدت دمعةٌ حارةٌ في عين النّادل، ولم يعلُ صوت فيروزَ على ضجيج المقهى الخفيف، وظلّت الطّاولة في الزّاوية شاغرة، والقطّة تذهب وتجيء، وهي تتمسح بين الكراسي والأقدام...
ومع منتصف النّهار، مرّت جنازةٌ صغيرةٌ بجانب المقهى...
انسلّت القطّة الصّغيرة من بين الكراسي، خرجت من باب المقهى، قفزت على الأدراج بسرعة، ظلّت وحيدةً تموءُ مواءً متواصلاً، تراوحُ بين باب المقهى وباب الحديقة، وتنظر في النّادل الدّامع العينين، وفي لحظة تعبٍ ويأسٍ، تَبَعَتِ الجنازةَ نحو المقبرة، وغابت بين الأقدام في زحام المدينة إلى الأبد!.