أنا و"أفكار" في طريقٍ طويل

يوسف الغزو
كاتب أردني
ويمتدُّ الطريقُ بي وبنا مع مجلتنا الحبيبة "أفكار" وما قطعناه - والله أعلم- أبعد مما قد بقي، وحينما عرفتُ رقم العدد الأخير لأفكار أصابتني دهشةٌ زمنيّة رقميّةٌ طارئة ذكرتني بتسلّل الزمن في غفلةٍ كتسلل الزئبق من بين الأصابع، وتساءلتُ: كيف ومتى قطعنا هذه المسافة معًا أنا وأفكار؟
حطّت في ذاكرتي سلسلةٌ من حلقات التواصل بيني وبين "أفكار". وأحصيتُ المقالات المتنوّعة في ذاكرتي فوجدتها تقترب من ال "65"؛ فكيف لو ضربنا هذا الرقم في أشهر وحولناه إلى سنوات؟ فسوف نتأكد أنَّ الزمن كاللص، يتسلّل، ويسرق العمر، ويمضي دون ضجيج.
منشوراتي كان أولها قصة قصيرة بعنوان: "المشروع الكبير "التي نُشرت في العدد 21، والقصة التي بعدها كانت في العدد 25 بعنوان: "غصن الزيتون " وقد خُيّل إليَّ وأنا أستوعب هذه الحقيقة أنَّ منشوراتي القديمة في مجلة أفكار وفي غيرها كانت كلها في مجال القصة القصيرة.
فقد كنّا فرسان تلك المرحلة في سبعينيات القرن الماضي، أربعة تنكّبوا طريق هذا الفنِّ الصعب وعُرفوا به وهم: أنا والمرحومان: أحمد عودة وإبراهيم العبسي، والصديق يوسف ضمرة، أطال الله في عمره.
وكان حولنا ممن هم أساتذة لنا: المرحوم خليل السواحري وفخري قعوار شفاه الله. ولكنَّهما لم يكونا مكرسين مثلنا لهذا الفن الجديد القديم، فقد كانا مشغولين بأمورٍ أخرى: خليل السواحري كان مشغولًا بدار نشر يملكها هي دار الكرمل للنشر والتوزيع، فيما كان فخري قعوار مشغولًا بإدارة الرابطة والعمل السياسي النيابيّ، وقبل ذلك العمل الصحفي وكتابة زاويته اليوميّة في الرأي (شيء ما) علاوة على تحريره الملحق الأدبي فيها لزمن غير قصير.
ومن طرائف تلك المرحلة ما حدث لنا نحن الأربعة الممارسين للقصة القصيرة، إذ تقدمنا لمسابقة في القصة القصيرة نظّمتها جريدة الدستور الأردنية. ومن الغريب أنَّنا نحن الأربعة قد فزنا بالجوائز جميعها، وهي أربعة على النحو التالي: يوسف ضمرة بالجائزة الأولى وهي تذكرة سفر على أي خط من خطوط الملكية الأردنية. بينما فزت أنا وأحمد عودة بالجائزة الثانية ومقدارها 40 دينارًا، وهذا المبلغ يعادل بل ربما يزيد عن راتبي الشهري آنذاك. بينما فاز إبراهيم العبسي بالجائزة الرابعة وهي 30 دينارًا.
وحينما التقينا بزميلنا يوسف ضمرة صاحب الجائزة الأولى، بدأنا نتباهى أمامه بالمبلغ الذي قبضناه، فيما هو تسلّم تذكرة سفر فماذا سيفعل بها؟ ولكنَّه فاجأنا بعد أيام بأنَّه قد باع التذكرة بمئة دينار، وهو ما يعادل جوائزنا مجتمعةً.
وأعودُ إلى "أفكار"، وإلى أعدادها الأولى، حينما كان مقرُّ "دائرة الثقافة والفنون" في جبل اللويبدة الذي انتقلت إليه من الدوار الثالث في جبل عمان قبل أن تنشأ وزارة الثقافة والشباب في العام 1977 وكان يرأس تحريرَ المجلة مؤسسُ القصة القصيرة في الأردن الكاتب: "محمود سيف الدين الإيراني" الذي خلفه الدكتور حسين جمعة، ثم الصديق المرحوم "إبراهيم العجلوني.
وكانت بداية صداقتي وتعارفي بالصديق المرحوم إبراهيم الذي يتميّز بالطيبة، وحسن الخلق، فضلاً عن ثقافته الواسعة، ولغته العربية المتطوّرة. وكان ما يميّزه هو استعاراته اللغويّة من القرآن الكريم الذي كان يرى فيه كنزًا من كنوز اللغة العربيّة، ودستورًا للأمة الإسلاميّة في الاتجاهات الأربعة كافة.
ونعود إلى مجلة أفكار لنقول إنَّها مجلة واكبت الثقافة منذ كانت "دائرة الثقافة والفنون" دائرة ملحقة بوزارة الإعلام أي قبل أن تصبح الوزارة هي الجهة الوحيدة التي تناط بها مهمة الإشراف على الحياة الثقافية بما فيها المجلات. وقد كانت المجلة- وما تزال- متميزةً ملتزمةً بالعلم والثقافة منذ تأسيسها. وكان الكُتّاب يفخرون بأنَّهم قد نشروا موادهم فيها. وراحت المجلة تكبر كلما امتدَّ الزمن. وراحت أرقامُ الأعداد تتصاعد موثقةً أعدادَ المجلة وأعدادَ سنواتِ أعمارنا.
لم نَخف من الزمن، وواصلنا الطريق بأفكارنا مع مجلتنا الأثيرة "أفكار". ومما أذكره أنَّ الوزارة ذات مرة اعتزمت توثيق أعداد مجلة أفكار، وأرشفتها، وراحوا يبحثون عن الأعداد القديمة فكنت من الذين أسهموا في تنفيذ هذا العمل وزوّدتُ الوزارة بعشرة من الأعداد القديمة؛ حيث لم يكن في حوزتي سوى الأعداد التي كنت قد كتبتُ فيها.
فمكتبتي لم تكن قادرةً على استيعاب كلِّ أعداد المجلات التي أتعاملُ معها، فكنت أختارُ منها ما كتبت فيها، وأعترفُ الآن أنَّها أنانيّةٌ ربما تكون مشروعة.
ويمتدُّ الطريقُ؛ طريقُ "أفكار"، الذي سيبقى منارةً لأبنائنا وأحفادنا، وربما سيتصفحون بعضَ هذه الأعداد فيقولون: "رحم الله الأجداد فقد تركوا لنا كنزًا ثمينًا".
أمَّا مسيرتي مع "أفكار" فلم تقتصر على القصص القصيرة بل شملت الكثيرَ من النصوصِ المسرحيّة، وبعض الدراسات الأدبيّة. كما تعاملتُ في أكثر من عدد مع صفحاتها الفنيّة؛ فكتبتُ دراساتٍ عن عمالقة الفنِّ العربيّ من أمثال فريد الأطرش، وأم كلثوم، وفيروز، وعبد الحليم حافظ. وقارنتُ ذات عددٍ بين عملاقيّ الموسيقى في الشرق محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش مبيّنًا خصائص كلٍّ منهما في مجال الإبداع الموسيقيّ.
حتى إنَّ أحد الأصدقاء داعبني ذات مرة فقال: "يبدو أنَّك تخطّط لتكون خليفة للمرحوم "حسّان أبو غنيمة" الذي كان محررًا للشؤون الفنيّة في جريدة الرأي الأردنيّة".
أتمنى ل"أفكار" أنَّ تظلَّ رافدًا لكلِّ فكرٍ جميلٍ متطوّرٍ، وشعلة تضيء دروبَ حياتنا لتصل بنا إلى مبتغى الأمة من تقدمٍ ومجدٍ وخلود.