عن "فوزية أسعد" أكتبُ؛ رحلةُ صداقةٍ وحوار وفكر وقراءة.

هالة البدري
كاتبة وباحثة مصرية
لأنَّ رحيلَ الأصدقاء موجعٌ، حتى لو تركوا إنتاجًا عظيمًا يشعُّ بأرواحهم الخالدة ويبقى مدى الحياة.. أكتب اليوم عن صديقتي الفيلسوفة المفكّرة الباحثة والروائيّة المصرية القديرة فوزية أسعد التي رحلت عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عامًا، وهي تعمل وتكتب وتناضل حتى آخر لحظة من حياتها من أجل القضايا التي آمنت بها في محاولة دؤوبة لتغيير العالم ليكون أكثر تسامحًا ووعيًا وسلامًا.
عرفتُ فوزية أسعد منذ أكثر من ثلاثين عامًا، جمعتنا فعالياتٌ ثقافيةٌ كثيرة وصداقة لا يقلل منها الرحيل، فما جمعنا يبقى فكرًا وعملاً ومحبة خالصة لفنها وروحها الجميلة التي اتسعت لكل من عرفها. جمعتنا مناقشات لأعمالها وأعمالي والقضايا المطروحة والإنتاج الفلسفي والفكري والأدبي وكل ما طالته يدانا وتعرفنا عليه من إبداع. جمعنا أيضًا "نادي القلم الدولي"، كانت عضوًا في كلٍّ من "نادي سويسرا" و"نادي مصر" الذي قدمت له كلَّ الدعم، وتوحّدت بيننا المواقف في كل لقاء دولي للنادي. مثّلت فوزية "نادي القلم الدولي" في لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة كمراقب للدفاع عن حرية التعبير، ونقلت لنا كواليس اللقاءات الدولية التي كانت تنحاز ضدنا في بعض الأحيان؛ فتحاول جاهدة أن تصحّح الأوضاع وتغيّر وجهات النظر، وهو دورٌ لو تدرون عظيمًا. كما أنَّها كانت عضوًا في لجنة اختيار قائمة الأدباء المرشحين لمنحة الإقامة ب"قصر لافيني"، في سويسرا التي توفّر لستة كتّاب من أنحاء متفرقة من العالم التفرغ للكتابة والتعارف خلال فترة الضيافة، وكانت كذلك مديرة لـ "لجمعية الثقافية المصرية السويسرية" بجنيف.
فوزية أسعد مصريةٌ تكتب بالفرنسية، ولدت في القاهرة في يوليو 1929 في عائلة إقطاعيّة مسيحيّة عاشت في صعيد مصر، وكان جدها رئيسًا للوزراء. وهو ما انعكس على كتاباتها الأدبيّة والفكريّة بعد ذلك. درست الفلسفة في جامعة القاهرة، ثم سافرت بعد الحرب العالمية الثانية للحصول على الماجستير والدكتوراه في جامعة "السوربون" في فرنسا، وكانت تتمنى التخصّص والبحث في الفلسفة العربية في القرون الوسطى، لكنَّها لم تجد تشجيعًا من الأساتذة المتخصّصين في الفكر الإسلامي هناك، بمن فيهم المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون"، فتحوّلت لدراسة الفلسفة الغربية، ثم عادت إلى التدريس بجامعة عين شمس في مصر لمدة ثلاث سنوات.
تزوّجت من الطبيب فايز أسعد، وسافرت معه إلى "تايوان" حيث يعمل في منظمة الصحة العالمية، وهناك تعلّمت الصينية، ودرّست الفلسفة للصينيين بالإنجليزية والفرنسية. ثم نُقل الزوج إلى "جنيف" التي قضت بها أكثر من ستين عامًا؛ حيث عمل الزوج مسؤولاً عن أول برنامج لمكافحة الإيدز في منظمة الصحة العالمية. فتركت التدريس وتفرغت لرعاية أسرتها والكتابة. نشرت كتابها الأول والوحيد باللغة العربية عن "سورين كيرج جرد"، (أبو الوجودية)، وهو يُعدُّ أحد أمهات كتب الفلسفة، ثم تولّت ترجمته بنفسها إلى الفرنسية. وتوالت أعمالها الفلسفية في شكل مقالات نشرتها في مجلة "الميتافيزيقا والأخلاق" وهي مجلةٌ فرنسيةٌ شهيرةٌ رفيعةُ المستوى، كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت أستاذها "جان فال". وتخصّصت فوزية في الكتابة عن أعمال "نيتشه" بعد أن لاحظت أنَّ من يكتب عن "نيتشه" يفسّر فلسفته حسب مرجعياته الثقافية؛ فقرّرت أن تخضع "نيتشه" نفسه لهذا الاختبار، ووجدت أنَّه تأثر بالفلسفة المصرية القديمة؛ فقرّرت دراسة علم المصريات وتوصلت إلى أنَّ إيقاع حياة المجتمع المصري القديم وفكره محكومين بفكرة التضاد الذي لا يلغي التكامل، وهي فكرة مستمدة من حركة النيل الذي يجفُّ وينهض، وحركة الشمس التي تغيب وتظهر، والصحراء التي تمتد لتعود إلى الالتحام بالوادي من جديد، وبذرة الشعير التي تُزرع ثم تُحصد سنابلها وتعود عن طريق إحدى بذور سنبلتها التي تم حصادها.
هذه التأملاتُ شكّلت قراءة مخالفة لما هو متداول حول تاريخ الفلسفة، وتقول الكاتبة في حوار لها معي نشر في كتابي "غواية الحكي": "يكتشف دارس التراث الفرعوني المصري لغةً أخرى ونسقًا فكريًّا آخر له منطقه الداخلي الخالص". ففكرة الديالكتيك، التي يرجعها المعاصرون إلى "هيجل"، يجسّدها الفراعنة المصريون القدامى، وتجسّدها شخصية" أخناتون" – التي ظهرت بعد ذلك في كتابها "الفراعنة المارقون"- وعلى خلاف الفلسفة اليونانية التي تتمحور حول "الكينونة"؛ أن تكون، يتركز فكر الشرقيين حول الحركة والفعل؛ أن تفعل. ووجدت فوزية أسعد في مفهوم "الفرعونية" نفسه حضورًا لفكرة "إرادة القوة" التي ينسبها الدارسون إلى "نيتشه": "وقد آمن القدماء بالجدل، والأضداد وكرّروا الفكرة من صورة إلى صورة، لأنَّهم كانوا يكتبون عن طريق الصورة، ويتكلمون في الموضوع نفسه، ولكن بصور مختلفة. ففرعون يمثل البيت الكبير، أو القوة القاهرة، التي توحد المتضادات، وتوحد بين مصر العليا ومصر السفلى، وهذه القوة هي التي تحفظ بقاء الجماد والأحياء".. وهو ما يفتح الباب أيضًا لفكرة "التكرار الأبدي الذي تمثله حبة الشعير"، التي لا تقل حداثة ومعاصرة عن سابقاتها.
ربطت فوزية أسعد بين هذا التراث الفلسفي وبين فلسفة "نيتشه"، في كتاب بعنوان "الإرهاصات المصرية لفلسفة نيتشه". ثم نشرت بحثها الخطابات المتبادلة بين "نيتشه" و"كيرك جارد."
• الصدفةُ التي قادتها إلى الأدب
بمناسبة العقد العالمي للمرأة 1975-1985، طُلب منها أن تكتب كتابًا عن رحلة حياة سيدة مصرية، بشرط أن يكون الكتاب عن طريقة المعيشة، والتقاليد، والتفاصيل الصغيرة في حياة النساء تردّدت ثم وافقت بشرط أن تكتب بحرية، وكتبت جانبًا من سيرتها الذاتية بعنوان "مصرية"، ونقلت الكتاب إلى دار نشر جاليمار بعد تعذر نشره كما هو عند الجهة التي طلبته بسبب الفصل المكتوب عن "مذبحة دير ياسين" فصنفه الناشر على أنَّه رواية لاقت من النجاح ما لم تلقه كتبها الفلسفية التي تخصّصت بها، على حدّ روايتها لي. ولأنَّها كانت قد ذاقت عام1975 نجاح الكتابة المعتمدة على الإخلاص وحده. قررت أن تعيد التجربة في كتابة رواية أخرى تجمع بين رؤيتها الفلسفية وشغفها بالتاريخ والأساطير والتراث والحكايات المصرية القديمة. دفعتها معاناتها من مشكلة عائلية مع أخواتها للبحث عن نقطة نور وسط الظلام الذي تعاني منه؛ فتذكرت أنَّ القطط بكلِّ أنواعها من الهرِّ إلى الأسد تستطيع الرؤية في الظلام، وعادت إلى الأسطورة الشهيرة التي تقول إنَّ روح التوائم تترك أجسادهم في الليل وتسرح متلبسة أجساد القطط، وإنَّك إذا ضربت القطة كأنَّك تضرب هذا الطفل، وإذا أيقظت الطفل أثناء وجود روحه سارحة بعيدًا عن جسده فإنَّ هذا الطفل لن يستيقظ أبدًا.
اختارت لبطولة روايتها توأمين: أخ وأخته. وتساءلت: هل يمكن لأحدهما أو للاثنين معاً أن يشاهدا النور في الظلام مثل القط؟ أم سيكملون الحرب بينهما؟ في مصر القديمة هناك أسطورة الأخوين الأضداد اللذين يتعاركان، وهي أسطورة دائمًا ما تتكرر لحدِّ تحطيمهما معاً. فهل يتمكن التوأمان من جذب الضوء في الظلام، والوصول إلى برِّ الأمان؟ القصة ترمز إلى الحروب كلها، ومع هذا الطموح لم تعجبني الرواية بسبب تفككها وغياب فنيتها رغم جمال الفكرة وحين تحدثت معها عنها أخبرتني أنَّها لا تهتمُّ كثيرًا بتصنيف كتابتها. هي تهتم بموضوع ما، ثم تنطلق إلى الكتابة عنه. وهذا ما سنراه في كل أعمالها بعد ذلك.
في روايتها التالية "بيت الأقصر الكبير" التي أعتبرها روايتها الوحيدة. قدّمت لنا قصة عائلة أرستقراطية صعيدية مسيحية في مواجهة مصادرات ثورة يوليو، حكت تفاصيل واقتربت من مشاعر جماعة من البشر يحق لهم أن نسمع صوتهم بعد أن انقضت التجربة وراحت إلى زمنها بحلوها ومرها.. ورغم أنَّني أختلف مع الأفكار السياسية التي طرحتها الرواية إلا أنَّه لا يسعني إلا قبولها والاعتراف بأهميتها، ذلك أنَّها قدّمت لنا نماذج بشرية وأحداثًا دقيقة لم يسبق أن تم التعريف بها والتعرض لها في الأدب المصري المعاصر.
المجهودُ الجبارُ الذي بذلته فوزية أسعد لتقدم بطلتها سوسن أو "سشن زهرة اللوتس"؛ لتكون نسخة معاصرة وامتدادًا ل"حتشبسوت" جعل المادة البحثية تتراكم وأغراها بعمل كتاب عن "حتشبسوت" وجاء اهتمامها "بحتشبسوت" تكملة لإرهاصات كتابها عن فلسفة "نيتشه" الذي تتبعته بالمقارنة بكل الأسر الفرعونية وكل الأجيال في حين أنَّها ركزت في "حتشبسوت" على قصة حياتها الأسطورية. جمع الكتاب بين الفلسفة وعلم المصريات وفن الرواية أيضًا.
وبالفعل نشرته بمقدمة للكاتب الفرنسي الشهير "ميشيل بوتور" الذي كتب التماعات لأفكاره عن الكتاب في فقرات صغيرة ثم مقدمة أخرى كتبها بهاء طاهر عندما ترجم ماهر جويجاتي الكتاب إلى العربية. وكما اهتمت فوزية أسعد ب"حتشبسوت" اهتمت اهتمامًا خاصًّا ب"نفرتيتي" وصنفتهما كملكتين مصريتين من الأسرة (18)؛ الأولى لها تجربة حكم غير مسبوقة أدت إلى رخاء شعبها، والثانية عاشت تجربة فكرية غير مسبوقة مع زوجها حول توحيد الآلهة في إله واحد، ثم انتهت كل منهما بالاستبعاد. لم تذكر أي معلومات عن "حتشبسوت" بعد استيلاء أخوها تحتمس الثالث على الحكم بعد أن حكمت أخته مصر لمدة اثنين وعشرين عامًا، وابتعدت "نفرتيتي" لتعيش في قصر الشمال.
ناقشتُ فوزية أسعد طويلاً في موضوع كتابها التالي "أحلام وقمامة القاهرة"، قبل الطباعة، والذي تتبعت فيه مسيرة جامعي القمامة، ورحلتهم من قريتي "دير ناسا"، و"البداري"، من أعمال محافظة أسيوط، لكي يزاولوا عملاً وتهجيرًا مستمرًا. لفت أنظار الراهبة "إيمانويل"، فعاشت بينهم، وحولت قضية حياتهم إلى قضية عامة، لإكسابهم حياة تليق بالبشر، وتطوّر عملهم البدائي إلى عمل تدوير للمخلفات، واستقرار مكاني وصحي، لكنَّني حين طالعت الكتاب بعد صدوره بالعربية، عن المركز القومي للترجمة، وجدت أنَّ الناشر الفرنسي قد وضع عليه عنوان رواية، والغريب أنَّ فوزية أسعد أخبرتني بأنَّ الناشر الفرنسي كتب رواية على العمل بسبب لغته الشاعرية، وهو ما اختفي من الكتاب باللغة العربية تمامًا. وقد أغرتني صفحاته الأولي بتصديقه رغم كثير من المطبات الفنية التي أرجعتها في البداية إلى الترجمة، ثم سرعان ما أظهر العمل نفسه، موضحًا أنَّه بحثٌ اجتماعيٌّ ممتاز في حركة جماعة مصرية. ومع هذا فقد حظي بشهرة واهتمام عالمي بسبب موضوعه الذي يقدم بيئة فقيرة غير عادية من جامعي القمامة، وظهرت البطلة "أحلام" تقاوم كل ما حولها بأمل كبير في الوصول إلى عالم أرحب.
لم تنس فوزية أسعد أبدًا التاريخ المصري القديم؛ لهذا كان من الطبيعي أن نرى (أخناتون ونفرتيتي وحتشبسوت) في كتابها الأخير "الفراعنة المارقون" أي الذين شُطبت أسماؤهم من قائمة الملوك المصرية التي وجدت في معبد "دندره". ووصل الأمر إلى التبرؤ منهم، ومحاولة طمس آثارهم، بسبب النزاعات معظم الأحيان، إذ لعنتهم الأجيال اللاحقة، لأنَّهم خرجوا على التقاليد المتوارثة بشكل واضح. تقول فوزية إنَّ الفراعنة المارقين، عانوا في فترات حكمهم من دسائس من قبل معادين لهم، على رأسهم الكهنة الذين كانوا يشعرون بتهديد سلطاتهم ومكاسبهم طوال الوقت مع التغيرات التي استحدثها المارقون في مؤسسات الحكم وفي الحياة اليومية والتقاليد، حتى أنَّ الكهنة والملوك التاليين لهم قد أسرعوا بإخفاء أعمالهم ومحو الموجود فوق جدران المعابد والمسلات، ولولا الصدفة لاختفوا من التاريخ كله.
حصلت فوزية أسعد مرتين على الجائزة الكبرى للأدب ب"جنيف". وكُرّمت من المجلس الأعلى للثقافة في مؤتمر إبداع المرأة العربية عام 2019، ولم تُرشح أبدًا لجوائز الدولة المصرية؛ لكنَّها تركت إرثًا يبقى خالدًا ويطرح أسئلةً كثيرةً حول إنتاجها الذي يعرفه الغربُ أكثر كثيرًا من جمهورها المصري والعربي الذي تنتمي إليه، وعاشت مهمومةً به مدى حياتها.