من الاتصال بالعالَم إلى انقطاع سيرورة الحياة؛ عن كتاب (التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ)

معاذ بني عامر
كاتب وباحث أردني

الصدمة النفسية Trauma ليست محض تجربة نفسية قاسية تقترن بالألم فحسب، بل هي انقطاع فجائي في سيرورة الزَّمن المُتعارف عليها بين الناس، بما يضع صاحب تلك التجربة في عُزلةٍ تفصله عن هذه السيرورة، أو تخرجه منها بالأحرى، فيصبح غير قادر على التكيِّف مع اشتراطاتها كما يتعايش معها بقية الناس. إنَّ الزَّمن الأصلي، الزَّمن الذي يجري ويجري الناس وفقاً لاعتباراته، ليس بالضرورة أنَّه الأفضل إنسانياً، لكن البشرية اصطلحت عليه كنمطٍ أمثل للعيش، لذا صار حالة معيارية في الحُكم على بقية الأزمنة التي يمكن أن تنشأ على هامشه، ومن ضمنها زمن الصدمة، بما هو زمن مُتخارج عن الزَّمن المعياري المُعاش.
هذه المُعاينة للصدمة واستطلاع إمكاناتها أرَّخت لها "كاثي كاروث" Gathy Garuth في كتابها Unclaimed Experience، الذي قام بترجمته إلى العربية "يوسف حمدان" أستاذ النقد الحديث في الجامعة الأردنية، تحت عنوان: (التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ)، وصدر عن دار ألكا أواخر العام 2021.
في الوضع الطبيعي يسير الزَّمن وفق تراتبية بطيئة، رتيبة، وتخلو من الحوادث الفارقة التي تُربك حياة الأفراد أو المجتمعات، وتصدم، بالتالي، سيرورة تواجدهم وتفاعلهم داخل إحداثية هذا الزمن. فجأةً يحدث خلل جوهري في بنية واحدة من حلقات السلسلة الزمنية، ما يترتب عليه رؤية مغايرة للأحداث ينتج عنها صدمة كبيرة تُحْدِثُ جرحاً عميقاً في البنيتين الداخلية والخارجية: النفسية والزمنية؛ للفرد أو للمجتمع، فلا يعود بعدها يُنظر إلى الحياة إلا وفق اعتبارات تلك الصدمة. يتم تصفير عدَّاد الحياة، وتُصبح الصدمة هي النقطة المركزية التي تفرض سطوتها في رؤية الفرد أو المجتمع للحياة. بمعنى من المعاني يتحوَّل الجرح المعنوي- وهو جرحٌ ناتجٌ بالضّرورة عن صدمة كبيرة في الواقع المعيش، كالموت أو الانتحار أو المجاعات أو الحروب...إلخ. إلى "زمن محوري" وفقاً لتعبير الفيلسوف "كارل ياسيرز"، بالنسبة للفرد أو المجتمع الذي تعرَّض لصدمة قاسية ومؤلمة. فهي تُخلخل بنية الزَّمن المُتعارف عليه في المجتمع، وتُؤسِّس لزمنٍ محوري يفرض قوانينه بقوةٍ طاغية على أي تصرّف لاحق، إلى أن يتم التحرّر من هذا الزمن الاستثنائي والعودة إلى الزمن القاعدي. فالفراغ أو التفريغ الهائل الذي تحدثه الصدمة على مستوى البنية الروحية للإنسان، نتيجة الاختلال الواقع عليه بفعل حدث خارجي قاس كالموت أو الانتحار أو الحرب أو المجاعة، يُؤسِّس لنظرة جديدة للحياة، نظرة ضيقة، محصورة، موتورة، مريضة، تُعاني من قصور في الرؤية، فهو مثل بطل رواية الجحيم لهنري باربوس، الذي أطلَّ على الحياة من شِقٍّ صغير في الجِدار.
وفي سعيها لتجلية هذه الصدمة والآثار المترتبة عليها في حياة الأفراد أو المجتمعات، لم تلجأ "كاثي كاروث" إلى أساليب التحليل النفسي التقليدية في استكشاف واستبصار مآلات من تعرَّضوا للصدمة، وما يُطلق عليه عادة باضطراب ما بعد الصدمة. بل تلجأ إلى نصوص أدبية وفكرية وأعمال سينمائية لتفكيك بنية الصدمة؛ نظراً لانطواء الصدمة على تاريخ أصلي مفقود لا يمكن اكتشافه أو تجليته إلا من خلال أعمال تنطوي هي الأخرى على رمزية عالية. وهذا هو مكمن الإضافة في رؤية "كاثي كاروث" في كتابها التجربة المنبوذة، إذ تحاول تجسير الهوّة بين عالمين مليئين بالرموز والإحالات:
العالَم الأول: التاريخ الأصلي للصدمة، فهو تاريخ يعتوره النقص وعدم الفهم، نظراً لحجم الإرباك والضغط الشديد الذي يقع على الفرد أو المجتمع لحظة التعرّض للصدمة، إذ (يَغيب/ يُغيَّب) الوعي نظراً لانجراحه وتعرّضه لخدش عميق، فلا يعود قادراً مِنْ ثمَّ على استيعاب ما يحدث في تلك اللحظة.
العالَم الثاني: النصوص الأدبية والفكرية والأعمال السينمائية، فهي الأخرى تنطوي على رموز وإحالات مُلْبِسة ومُربكة، يمكنها أن تكشف عن جزء من تاريخ الصدمة المستور.
إنَّ تجسير الهوّة بين الزَّمن القاعدي أو الزَّمن المُتعارف عليه، وبين الزَّمن المحوري أو زمن حدوث الصدمة، يتطلب لغة أعلى من اللغة اليومية، لذا تلجأ "كاثي كاروث" إلى أعمال ذات رمزية عالية، تأخذ طابع العمل الفكري أو الأدبي أو السينمائي، المُحمَّل بالدلالات الكاشفة لذلك الزمن المحوري، وآليات تمظهره في زمن لاحق. فالكتاب، في مجمله، "يُقدّم رؤية شاملة لقراءة سرديّات الصدمة النفسية من خلال الجمع بين نظرية التحليل النفسي ونظرية الأدب" ولتمثيل ذلك، فقد جاء كتاب (التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ) ضمن أربعة محاور رئيسية:
ناقشت الكاتبة في المحور الأول كتابيّ: (ما وراء مبدأ اللذة) و(موسى والتوحيد) لـ "سيغموند فرويد" مؤسس مدرسة التحليل النفسي. فالسرد الفرويدي للتاريخ اليهودي، مُتمثلاً بصدمة الرَّحيل والشتات، سيحلّ على فرويد نفسه يوم أن اضطرّ للرَّحيل عن بلده النمسا ويُهاجر إلى بريطانيا فيُكمل كتابة كتابه (موسى والتوحيد). فالرَّحيل كان حدثاً صادماً لكنَّه –وفقاً لما أفصح عنه فرويد- يمنح الإنسان حريته أو يُحرِّره من استلابه الذي يقع عليه وهو في بلده الأصلي. فالصدمة الجمعية التي وقعت على الشعب اليهودي، تنعكس لحظة كتابة فرويد لكتابه موسى والتوحيد، فكتاب مثل كتاب "موسى والتوحيد"، يُفصح عن تاريخٍ منسي.
والمحور الثاني خصّصته لمناقشة فيلم "حبيبتي هيروشيما" للمخرج الفرنسي "آلان رينسيه Alain Resnais"، فالفيلم انطوى على رمزية عالية لم يكن لها أن تتجسد في حال أخرج على شكل فيلم وثائقي، لغنى الفيلم الروائي بالرمزية وافتقاد الفيلم الوثائقي إليها. وهذا ما عبَّر عنه مخرج الفيلم بعد أن جمع مادة أرشيفية لإنتاج الفيلم: "يشير رينسيه في رفضه عمل فيلم وثائقي عن هيروشيما إلى أنه من المفارقات أن لقطات أرشيفية مباشرة لا يمكنها الحفاظ على خصوصية الحدث. ويبدو من المفارقات المشابهة أنَّه من خلال القصة الخيالية التي لا تتحدث عن هيروشيما، ولكنَّها تحدث فيها، يعتقد "رينسيه" و"دوراس" أنَّ هذه الخصوصية التاريخية قد تم نقلها"
والمحور الثالث ناقشت فيه "كاري كاروث" مقالة (مقاومة النظرية) لـ "بول دو مان"، وهي بمثابة ردٍّ على عدم إمكانية اللغة على فهم العالَم، وقدرتها على تبصّر الصدمة. ففي "أعقاب التطوّرات البنيوية وما بعد البنيوية في النظرية الأدبية، نشأ قدر كبير من القلق من أن نظريات القراءة المُوجهة لغوياً تنكر إمكانية أن تتيح لنا اللغة الوصول إلى التاريخ. ويبدو أنَّ تركيز البنيويين المستمر على الأجهزة اللغوية التي يَنتج بها المعنى، وتركيز التفكيكية على الصعوبات التي تخلقها هذه الأجهزة لفهمنا النص، يرقى إلى مستوى الادّعاء بأنَّ اللغة لا يمكن أن تشير بشكل كاف إلى العالم، وربما لا تشير حقاً إلى أي شيء على الإطلاق، فيُترك الأدب واللغة، وحتى الوعي عموماً، في عزلة عن الواقع التاريخي. وفي الرد على هذا القلق، يقول "بول دو مان" في مقالته عام 1982 "مقاومة النظرية": "إنَّ النظريات المُوجَّهة لغوياً لا تنكر بالضرورة الإحالة، ولكنَّها بالأحرى تنكر إمكانية صياغة مبادئ للإحالة بالاعتماد على مبادئ القانون الطبيعي، أو نقول، تنكر إمكانية الإحالة بالاعتماد على مبادئ القانون الطبيعي".
فالنصُّ بما هو سياق لغوي، قادر على تبصّر العالَم بما في ذلك عالَم الصدمة النفسية عبر ردم ثغراتها الأصلية، أو ملء فراغاتها برموز لغوية مليئة بالدلالات أيضاً.
والمحور الرابع خُصّص لقراءة "جاك لاكان" لحلم الأب –رواه فرويد في كتابه تفسير الأحلام- الذي فقد طفله والذي يحلم فيه في الليلة التي تعقب وفاته. "يقترح لاكان [في ندوته الحظ والتكرار] أنَّ جوهر هذا المثال هو ما سيصبح فيما بعد في "ما وراء مبدأ اللذة" فكرة فرويد عن التكرار الصادم نفسياً، وخاصة الكوابيس الصادمة نفسياً التي، كما يقول فرويد، توقظ الحالم من خوف آخر"
إنَّ كتاب (التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ) ليس علاجاً نفسياً من صدمة فاجعة، بقدر ما هو محاولة للفهم، أو لتجسير الهُوة بين التاريخ الأصلي للصدمة وفهمنا لها. فالأفكار والآداب والفنون أدوات ناجحة وناجعة في تحقيق فهم أفضل لعالَم الصدمة النفسية، بما يجعل من وجودها –كما يظهر الكتاب- ضرورة مُلحّة في المجتمعات التي تتعرّض لصدمات مُفجعة ومؤلمة. فالجَرح [بفتح الجيم] العقلي وما ينطوي عليه من إمكان تأويلي أداة لاستيعاب جُرح [بضم الجيم] الصدمة على المستوى الرمزي، أو التحقّق في الفهم بما هو إنجاز معرفي بحدِّ ذاته.
بموازاة هذا الفهم للصدمة من خلال الأفكار والآداب والفنون، لا بُدَّ أن تنشط صناعة الأفكار والآداب والفنون بما هي حواضن لرعاية الصحتين: النفسية والعقلية، بالنسبة للأفراد كما للمجتمعات. ففي نشاط تلك الحواضن تأشير كبير على عُمق تطوِّر المجتمعات البشرية، واهتمامها بالصحة الروحية للإنسان، كما اهتمامها بصحته الجسدية. ففعل الطبَّابة الروحية، والحالة هذه، انتصارٌ كبيرٌ للقيم الإنسانية العليا، وتنشيط لدور الإنسان القيمي في هذا العالم، والدور العلاجي الذي يقوم به لعودة الزمن كما كان في ذهن المرء أو المجتمع قبل تعرّضه للصدمة النفسية بتجلياتها المختلفة.


كاثي كاروث، التجربة المنبوذة: الصدمة النفسية، السرد والتاريخ، ترجمة يوسف حمدان، دار ألكا، بروكسل، بلجيكيا، ط1، 2021
من مقدمة المترجم، ص 6.
المرجع السابق، ص 48
المرجع السابق، ص 110.
السابق، ص 131.