عارف هلال
كاتب وباحث أردني
يخطئ من يظنُّ أنَّ الكتابة الإبداعية تقوم على تنميق التعبير فحسب، فتأتي قولاً متباعد المقاصد غير محكم الأطراف، لتنقل الأحداث مجردة من الكوامن التي تدفع بها إلى الظهور على لسان كاتبها جنسًا أدبيًّا رفيعًا، أو تدوّن الأحوال خالية من الخصائص المستكنة في ثناياها لتتولد نصًّا يتوافق معناه مع مبناه، فينشأ الإبداع الذي يحمل فكرًا إنسانيًّا عميقًا، بسرد يترقرق بين حروفه ماء الحياة.
كثيرٌ من الكتاب تأخذهم الحماسة في مبتدأ مسيرتهم الإبداعية، فيتعجلون الولوج إلى معترك الثقافة بإصدارات ركيكة يتبرأون منها عمّا قريب، لانحرافهم عن الجادة جراء اندفاعهم وراء الاستسهال قبل امتلاك العنان، فتتملكهم النشوة بادئ الأمر، ثم يمسهم التردي.
القاصُّ، والروائيُّ، والكاتبُ المسرحيُّ هاشم غرايبة من غير أولئك الذين تبيّن لهم الرشد بعد حين، فبواكير إنتاجه القصصي تشي بالاحترافية المتينة( 1 )، والملكة الراسخة، فلا يتبين بها موضع يحتاج إلى التمكين، لا بل لو أعاد صياغتها بعد سني الخبرة الطويلة لما اختلفت عن سياقها الأول، فقد جاءت جميع قصصه -القصار منها والمطولات- محكمة النسج، بينة الدلالة، واضحة المعنى، دقيقة الوصف، جلية التعبير، لا ضعف فيها ولا اختلال، ويزيد على ذلك بأن حملت جميعها مفاهيم: فكرية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو إنسانية، وأحيانًا عقائدية، تتجاوز ظاهر الموضوع الذي تم توظيفه حاملاً طيعًا وبمرونة سلسة لتلك المغازي، لتخرج القصة من دور الحكاية إلى طور الحكمة .
ومن القصة التامة تولدت الرواية الكاملة، ذات الدلالة العميقة بمحتواها المتماسك، يوجه الكاتب شخوصها إلى حيث الفكرة التي يبتغي طرقها، فتنقاد له انقيادًا سهلاً لا عناد فيه، فيرسل متنها متريثًا وهو يقبض عنانها، ويجمع أطرافها كي لا تحيد عن غايتها، فإن أذعنت له أطلق سراحها لتلحق بأخواتها من بنات جنسها.
على مثل هذا جاءت "المقامة الرملية"( 2) مع أوائل إصداراته، وكأنَّها آخر رواياته إبرامًا وإحكامًا، متماسكة المتن، شيقة العبارة، متينة الحبك، قوية السبك، تتنقل في خضم الزمان، لتجوب الفيافي والقفار بسلطان القوّة، وغزارة المعرفة، ونباهة العقل، وحضور البديهة، وحدة الفطنة، ممتلئة بالأحداث القاسية التي تمثل دواليك الحياة على مرِّ الحقب، يسوقها الروائي على ألسنة شخوصها سوقًا حثيثًا حينًا، ولينًا حينًا آخر، ليقف بها على قمة شاهقة، وطود شامخ .
ثم روايته ذات الأشجان "الشهبندر"( 3 ) التي أحيت المكان بما حوت، فطافت بين فواصل الزمان ليلاً ونهارًا، وجالت بين الفصول بردًا وحرًّا، وأفسحت مجالاً واسعًا لما يختلج في صدر الإنسان على اختلاف أحواله، غنى وفقرًا، شقاءً ورخاءً، فجاء البوح المكتظ على قدر الحاجة للكلام، فخرجت درة مجلوة في وقتها، تزداد ألقًا براقًا كلما تعتقت، وتتأصل أكثر مع مرور الأيام، لتوحي بأحوال انطمست معالمها، وبقيت حكاياتها حيّة بين طيات الرواية العتيدة التي أتبعها كاتبها بعد أكثر من عقد من الزمن برواية "جنة الشهبندر"( 4) ذات المحتوى المختلف عن الأولى، والمتن المتين، ضمنها فيضًا من المعارف، وأردفها بروحانية النفس، ورغبات الذات، لتنشأ رواية ما بين الواقع والخيال، تعيش جفاء الحياة، وترنو إلى رغد عوالم الغيب.
ومن بعد تصدر رواية "بترا- ملحمة العرب الأنباط"( 5)، وإن كنت أختلف مع كاتبها على عروبة النبط، إلا أنَّ الرواية تجلّت ببراعة صاحبها، ومرونة بنائه لأحداثها، وقدرته على رصِّ فصولها، وسعة خياله فيما وصل إليه من عمق الزمان في أوابد المكان، لتنسلخ عنها بعد عام واحد روايته "أوراق معبد الكُتَبَا"( 6)، والتي جاءت مغايرة تمام المغايرة عن الأصل، فقارئ الروايتين لا يحسبهما للكاتب ذاته، فالأولى سيَّرَ فيها الروائي الأحداث بالشخوص، وفي الثانية جعل الشخوص هم الذين يسيِّرون الأحداث .
حديثي عن هذه الروايات دون سواها، ليس لأنَّ غيرها دونها في احتراف الكتابة، بل لاقتران كل واحدة بالأخرى، فجاءت كل رواية لا تشبه تلك التي انبتت عنها، وظهرت برداء يختلف عن ثوب سابقتها، وبطريقة غير موافقة لأسلوب التي قبلها، مما ينبئ بقدرة الكاتب على الانعتاق من الأسر، واستطاعته الابتداء دون الالتفات إلى الأثر، بحيث يتمكن من اجتراح النص بكرًا، وإن كان هنالك ما يشير إليه من قريب، وتلك جادة وعرة لا تتأتي للكاتب رغبة من لدنه بلا مران، بل يؤتاها بالدربة التي تكسبه مرونة تجعله يختلف عن نفسه ما بين نص وآخر، لينسج إبداعًا على النول ذاته، يعطي نتاجًا مختلفًا ألوانه.
فالتباين، والمغايرة، والاختلاف القائم على البناء والسرد والحوار، سمة من سمات أعماله الروائية، وهي أكثر جلاء، وأبين وضوحًا في أعماله القصصية، التي كانت مبتدأ نتاجه الثقافي، وربما أكسبته قصصه المطولات المران ليسلك دروب الرواية، ويختط طريقًا في الكتابة المسرحية(7)، فأبدع نصًّا، وأحسن وصفًا، وأجاد عملاً.
ومما تحسن الإشارة إليه في هذا السياق، تماهي الكاتب مع نصّه الذي يواكبه، وبراعته في اقتناص ما يواتي موضوعه من البيئة بعموم أركانها، فيستغرق بتجسيد شعور الشخوص الجسدي واقِعَ حال، ووصف إحساسهم أمانِيَّ خيال، غير متجاوز عن صيرورة الزمان وشواخص المكان، لتبعث جميعها حيوية تملأ وجدان القارئ، فيتقمص بملء إدراكه الحدث وكأنَّه يحياه على حقيقته.
زاوج الكاتب في نصوصه السردية كافة بين اللغة الفصيحة واللهجة المحكية، عذره في ذلك أنَّه يوائم ما بين شخوص أعماله وحكاياتهم، فإن عاد القول له لم يجانب الفصحى، ولعلَّ تلك الثيمة( 8) أعطته قدرة على إحياء الحدث بالكلام، وإضفاء الشعور بالكلمات، وبثّ الإحساس بالحروف، ليأخذ المتلقي بمهارته الإبداعية، وقدرته الإنشائية، وعمق تعبيره الإنساني إلى غير المكان الذي هو فيه، ليعيش زمنًا آخر وكأنَّه يدركه .
هاشم غرايبة الذي تخطّى حدود الوطن ثقافيًّا إلى الساحة العربية، وتجاوزها إلى الآفاق العالمية بما تُرجِمَ له لأكثر من لغة، ليس أنانيًّا البتة، فلا ينطوي على نفسه بإنتاجه، ولا يستكبر على من حوله كحال بعض "المثقفين" الذين لا يرون إلا ذواتهم، بل تجده قريبًا من أصدقائه، لطيفًا مع أصحابه، يأخذ بآرائهم فيما يكتب، ويمحضهم نصحه إذا كتبوا، فالتواضع فيه خصلة من مناقبه الجمة .
لم يكتف صديقنا بغزير عطائه الثقافي في مختلف الأجناس الأدبية، الذي يعتبره –حسب ظني- أمرًا لا يجب التوقف عنده، بل على الكاتب أن يتعداه إلى ما هو أبعد أثرًا فيمن ينشد الأدب، ليتسع مجلسه لزواره، ويكتظ مكانه بروّاد الثقافة من المبتدئين، فيبدو رحب الصدر لكثرتهم، هادئ الطبع مع جلبة ضجيجهم، فيأخذ بأيديهم تثبيتًا لخطاهم، ليجعل منهم جيلاً ناشئًا حريًّا بمواصلة المسيرة، تتلمذ على يد مثقفٍ راسخ.
1- الأعمال القصصية الكاملة، هاشم غرايبة، البنك الأهلي الأردني- عمان، 2007
2- رواية المقامة الرملية، هاشم غرايبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، 1982.
3- رواية الشهبندر، هاشم غرايبة، دار الآداب- بيروت، 2003.
4-رواية جنة الشهبندر، هاشم غرايبة، دار مدارك للنشر- دبي، الإمارات العربية المتحدة، 2016.
5- رواية بترا- ملحمة العرب الأنباط، هاشم غرايبة، مطبعة السفير- عمان، 2007.
6- رواية أوراق معبد الكتبا، هاشم غرايبة، وزارة الثقافة الأردنية- عمان، 2008.
7- صدرت للكاتب هاشم غرايبة المسرحيات: (الباب المسحور، مصرع مقبول بن مقبول، كان ولا يزال، الوقوف على قدم واحدة، هي وهو والببغاء، الرائحة، الباشا باشا، السؤال، تفاحة آدم، ومسرحية الصرح).
8- الثيمة: القدرة على توجيه النص السردي وفقًا للفكرة المبتغاة.