منير عتيبة
كاتب مصري/ مدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية.
الإبداعُ لغة هو الخلق على غير مثال، لذا فالإبداعُ بطبيعته انحيازٌ إلى الحياة حتى ولو تحدث عن العدم، والإبداع هو نظرةٌ إلى المستقبل؛ لأنَّ خلق الجديد بالضرورة هو من أجل الآتي وليس بغية العودة إلى ما انقضى، هذا حتى ولو تناول الإبداع زمنًا ماضيًا، وتحدث عن أقوام انتهيت حياتهم، فالإبداع الذي يتوقف عند الماضي ولا تكون إحدى عينيه على الحاضر والأخرى على المستقبل لا خير فيه.
وقد توخيت في اختيار النماذج التي تتناولها هذه الدراسة أن يكون موضوعها الرئيس هو الموت، أو فضاؤها السردي هو التاريخ، لاختبار رؤية الكاتب تجاه الحياة والحاضر والمستقبل، والسؤال الأساس المطروح هنا: هل يفكر المبدع الأردني في مستقبل أمته وهو يكتب عن التاريخ، وفي الحياة وهو يكتب عن الموت؟ وسنشير في الختام إلى نموذج متميز من الأدب الأردني للتعامل التقني مع إبداعات المستقبل.
• "تراب الغريب".. الكتابةُ عن الموت تنتصر للحياة.
في روايته "تراب الغريب" (أزمنة للنشر والتوزيع-الأردن-ط. أولى2007م) يتناول الأديب "هزاع البراري" إشكالية الموت كنقيض للحياة، ومحاولة الحياة للانتصار على الموت، وذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "شعرية الموت" في مقابل "واقعية الحياة". تميل الرواية إلى التأكيد على أنَّ أرواح من ركبوا سفينة الموت لم تغادرنا، وإن غادرتنا أجسادهم، وبالتالي فنحن نعيش فعليًا فيما يمكن أن يكون طبقات متوازية من أشكال مختلفة من الحياة التي تعني الاستمرار في الوجود، بعكس الموت الذي هو العدم. والمفارقة التي يدخرها الكاتب لقارئه في نهاية الرواية أنَّ الساردَ شخصٌ ميت، وهو ما يصعب على القارئ استشفافه إلا عندما يكشف له الكاتب عنه، إذ لا يخطر ببال القارئ أنَّ ذلك الخائف من موت الأحبة والأحلام ومن موته الشخصي، والباحث عن أسباب الموت الخفية، وعن بعض دناءات البشر التي تؤدي إلى الموت بمحاربة الحب والنبل.. ربما لا يتصوّر القارئ أنَّ هذا السارد ميت، جاء من الشاطئ الآخر للحياة ليعيد النظر في شكل حياتنا الآن بعدما عرف ما كان يجهل. وربما تكون اللغة الشعرية والسرد الشعري معًا سببًا في انسحاب القارئ خلف الكاتب في رحلته لتشريح المجتمع والإنسان على ضوء الموت الذي يعدّه البعض نقيضًا للحياة وعدمًا. وربما لأنَّ الكاتب استخدم مهاراته المتميزة ككاتب مسرحي في إدارة حوار روائي ينبض بالحياة الواقعية ولا يخلو من عمق التأمل في موضوع روايته. فيجد القارئ نفسه؛ برغم متعة اللغة الشعرية، والسرد الشعري، والحوارات المتقنة، في المواجهة التي لا بدَّ منها، مواجهة فرد وحيد مقابل الموت، فيضطر لأن يعيد محاكمة الحياة، ربما جعلها أفضل، فهذه الرواية التي تجعل الموت موضوعها، والميت ساردها، لم تهدف إلا لجعل حياة قارئها أعمق بإثارة الأسئلة التي لا بدَّ أن تجعل القارئ يعيد النظر في الحياة مقابل الموت، لا ليذهب إلى الموت، بل ليطوّر الحياة وينميها ويرقيها بداخله وفيما حوله.
• "يحيى".. الكتابةُ عن الماضي تنتصر للمستقبل.
تخوض الأديبة سميحة خريس مغامرة فنية وفكرية بروايتها "يحيى" الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون-الأردن-2022م-ط2). إذ تنفسح الرقعة الجغرافية للرواية ما بين الكرك وصحراء سيناء والقاهرة ودمشق وإسطنبول والأندلس وأوروبا، ويمتدُّ الزمن منذ ما قبل ميلاد بطلها يحيى الكركي حتى إعدامه، لكن الأهم هو الانفتاح غير المحدود لتحليق الروح وأسئلة العقل والوجود على امتداد الرواية. تدور أحداث الرواية في القرون الوسطى بما لها من ثقل تاريخي، وتحرص خريس على أن لا يكون بطلها يحيى الكركي بوقًا لنقد الأفكار والسلطة بأشكالها المختلفة فكرية وفقهية ودنيوية، بل حرصت على أن يكون إنسانًا من لحم ودم، يتعذب، ويشعر بالألم، حتى يتعاطف معه القارئ، لكنَّها في الوقت ذاته تحرص بالقدر نفسه وضع مسافة ما بين القارئ وما يقرؤه فندخل في القديم حتى كأنَّنا من أهله، ونظل في حاضرنا حتى كأنَّنا لم ندخل بعد في أجواء الرواية. لأنَّها لا تريد أن تسلينا بحكايات يحيى الكركي، وبقية الحكايات التي تخصُّ باقي شخصيات الرواية؛ والتي منحتها الكاتبة من الاهتمام الفني الكثير فبدت للقارئ واضحةً متحركةً لا تقلُّ جلاءً عن شخصية البطل يحيى، وتساعد حكايتها في التنوير على جوانب من قصته، وعلى استكمال روح العصر، لكن الكاتبة التي قلت إنَّها لا تريد أن تسلينا؛ بل تريدنا أن نستمتع بلعبة الرواية والأشخاص والعقد والحلول والتنامي الدرامي والتشويق الذي تمسك بخيطه على طول الرواية رغم طولها الذي تجاوز 430 صفحة، فهي إذن تريدنا أن نستمتع ونتسلى، لكنَّها تحرص على أن لا نغرق في متعة مجانية، وكأنَّها يحيى الكركي نفسه الذي يبغي هزَّ النفوس لتفيق، وتحريك العقول لتفكر. فقد ذهبت بنا الكاتبة إلى الماضي لتناقش قضايا ما تزال مفتوحةً بقوّة في الحاضر، وتريد أن تضعها تحت أضواء عقولنا؛ لأنَّ الوصول إلى حلول ما لمثل هذه القضايا سيساعد في رسم المستقبل الذي كان الهدف الأول من كتابة الرواية.
• العتبات.. الكتابة عن الجغرافيا لصنع تاريخٍ جديد.
في روايته العتبات (الصادرة عن الدار الأهلية للنشر عام2013م) يحفر الأديب مفلح العدوان في طبقات جغرافيا الأرض، والطبقات الثقافية التي تحملها الجغرافيا في تفاعلها مع الناس والأزمنة. يقدم الكاتب في روايته نواة قصة بسيطة، قرية في كهوف الجبال تتحول إلى بيوت من حجر وطوب، ثم تنتقل إلى المدنية بالتدريج عبر مئات السنين، لكنَّه يقدم الحكاية في ثوبٍ ملحميٍّ من خلال لغة تسرد الوقائع وتسمو بها في الوقت ذاته بنَفَسٍ شعريٍّ لا يمكن أن يخطئه القارئ.
تسير الرواية في خطين سرديين متوازيين ومتقاطعين، حكاية انتقال القرية نفسها، وحكايات الغرباء. فقد كان أهل القرية يعيشون الشتاء في الكهوف، والصيف في خيام أمام الكهوف، ثم تنتقل تدريجيًا للبيوت المبنية بالحجارة، والغرباء الذين يمارسون السحر للسيطرة على أهل القرية، وكأنَّ هناك خطًّا يتحرك للأمام والحضارة وآخر يتمسك بالأسطورة، ، ويعضد الكاتب إحساس القارئ بالطبقات الزمنية في الرواية بترقيم الصفحات والفصول بالعربي والهندي والروماني، كما أنَّ أساطير الكهف تتجاور مع التحاور عبر الإيميل بين بعض شخصيات الرواية، وكأنَّ هذه القرية تجمع العالم كله في منطقة وتجمع الزمان كله في زمنها الخاص، فـــ(العتبات) هي مناطق/لحظات الوصل والفصل بين الأمكنة/الأزمنة.
لا يقدم الكاتب في روايته حكاية مجانية يستمتع فيها القارئ فقط باللغة والحدوتة، لكنَّه يجبر القارئ على إعادة التفكير في التاريخ الرسمي والتاريخ الشعبي؛ أيّهما أصدق وأيّهما أقرب إلى أن يكون حقا لا مجرد حقائق. وطبيعة الإنسان التي تحوّله من كائن سماوي قريب إلى الإله؛ لكائنٍ شيطانيٍّ يقتل من دون رحمة، بل ربما يقتل باستمتاع، وهل هذا ما كان وجرى في قرية أم العرقان؟ أم هذا ما يحدث ويجري في كلِّ مكانٍ يعيش فيه الإنسان الآن؟!
كل هذا الغوص في الجغرافيا والتاريخ بشقيه الرسمي والشعبي من أجل معرفة أكثر بالإنسان، وبالحياة، ليكون قادرًا على أن يعيش حياة مستقبلية ليس بها من أخطاء الماضي إلا أقل ما يمكن.
• في "ظلال الواحد" و"شات".. استخدامُ تقنية المستقبل.
استطاع الأديب محمد سناجلة الاحتفاظ للسرد الأردني بمقام الريادة في مجال الرواية الرقميّة بروايته (ظلال الواحد 2001م) والتي أتبعها بروايتين رقميتين هما (شات 2005م) و(صقيع 2006م) وبكتابه الورقي (رواية الواقعية الرقمية 2005م) الذي قدّم من خلاله نظريته لما قدّمه إبداعًا. ثم عاد في عام 2016م ليقدم عملين رقميين هما رواية (ظلال العاشق) و(تحفة النظارة في عجائب الإمارة- قصة أدب رحلات رقمية).
استخدمت الرواية الرقمية تقنيات جديدة موجودة في الحاضر، لكنَّها تتطلع إلى المستقبل، وتتجاوز الكتاب الورقي بعالمه المحدود التواصل في اتجاه واحد من الكاتب إلى القارئ، والمعتمد على الكلمة المكتوبة بالأساس؛ حتى وإن زُوّدت بعضُ الأعمال ببعض الصور أو الرسوم، لتعتمد الرواية الرقمية على حاستي البصر والسمع باستخدامها للصور والرسوم والألوان والموسيقى والحوار المسموع، كما تعتمد على التواصل باتجاهين من الكاتب إلى القارئ ومن القارئ إلى الكاتب، من خلال قدرة الإنترنت على تحقيق هذا التفاعل، وتزيد منح القارئ مساحة في بناء العمل واختيار مساراته. لقد استطاع محمد سناجلة استخدام التقنيات المتاحة عند إنتاج كل رواية من رواياته الرقمية بنجاح، لكنَّه لم يغفل المحتوى الذي تقدمه هذه الروايات، ولعلَّ هذا المحتوى هو الذي جعله يختار لها مسمّى رواية الواقعية الرقمية وليس الرواية التفاعلية أو الرواية الشبكية نسبة إلى شبكة الإنترنت مثلًا؛ لأنَّه لم يستخدم التقنية كلعبة جديدة يلهو بها طفلٌ فرحٌ، بل استخدمها بوعي عصري بأهمية هذه التقنية في الوصول إلى قارئ جديد ومختلف، وبقدرتها على إعادة طرح مشكلات الواقع الراهن من أجل تجاوزها إلى مستقبل يطمح الكاتب والقارئ معًا لأن يكون أفضل، لذلك تجد شخصيات روايات سناجلة مأخوذة من الواقع اليومي العربي المعيش، وليس من المجتمع الأردني فقط، وتناقش هذه الشخصيات بحرية قد لا يتيحها الورق مشاكلها الشخصية والعامة، تطرح أزماتها وهمومها الشخصية والمجتمعية، وتحاول البحث عن حلول. هذه المزاوجة بين التقنية والغوص في مشكلات الواقع هي التي أعطت لروايات سناجلة الرقمية تفردها، وإن كان من المؤسف أنَّ تجربة سناجلة لم يتم البناء عليها محليًّا ولا عربيًّا لتصبح تيارًا واضح الوجود في السرد العربي.
وأخيرًا
هذه الإشارات السريعة لعدد قليل جدًّا من الأعمال التي يزخر بها بحر السرد الأردني، إنَّما تشير إلى حيوية هذا البحر، وتدفقه في اتجاه مستمر إلى الأمام، إلى المستقبل، إلى الحياة. فالانحياز إلى الحياة هو انحياز إلى المستقبل بالضرورة والعكس صحيح، وهو الهدف الأسمى من كل الفنون والعلوم فيما أرى.