أرابيسك الشخصيّة المصريّة؛ الدراما والتمثيل الجمالي للواقع.

د. أحمد يحيى علي
أكاديمي وباحث مصري

مفتتح:
إنَّ العلاقة بين الفن والواقع علاقة حتمية بديهية؛ فالأول ناتج تجربة تشكّلت من خلال علاقة الفرد الإنسان المعبر بعالمه وما يكون فيه، وموقفه إزاء ما يجري حوله في هذا العالم( )، والتعبيرُ الإنساني أنواعٌ من حيث شكل القالب الذي يضع فيه ذاك الفرد المعبر رؤيته المجردة تلك، كما أنَّه درجاتٌ من حيث المستوى؛ فهو إمَّا يقوم على الوضوح والمباشرة وإمَّا يقوم على الترميز والإيحاء الذي يحيل مكونات الرؤية المجردة للذات المعبرة إلى شفرات ورموز لها صلاحية البقاء ولها القدرة على الحضور في أنساق تفاعلية جدلية تقيم معها حواراتٍ بغرض التأويل والكشف عما يمكن تسميته احتمالات المعنى المراد من الذات صاحبة التعبير . ( )
والفنُّ بأطواره الثلاثة: الشفاهي، والمكتوب والمرئي يمكن إدراجه في إطار العملية التعبيرية التي تتغيا المجاز ولا تبغي الظهور صراحةً أمام فضاء التلقي، وبالنظر إلى الحالة المرئية المتصلة بالفنِّ نجد أنَّ النصَّ المكتوب بمعرفة المؤلف يُعاد تشكيله في ظلِّ اعتبارات عدة تتعلق بما يسمّى بالسيناريو والحوار، وتتعلق بالتصميمات الخاصة بالأماكن وهيئات الشخصيات وتتعلق بالموسيقى التصويرية التي تصاحب حركة الشخصية وتفاعلها مع من حولها وما حولها ومحتوى المشهد والحالة النفسية والانفعالية....إلخ.
إذن؛ فإنَّ الطابع الاستعاري الذي يمثّل الطقس الغالب في النصِّ الأدبي الورقي سيتجلّى أمام المتلقي في ضوء علاقة تضافرية عناصرها متعددة، سيتحوّل فيها ما هو ورقي إلى بنية حركية تخاطب جمهورًا أكبر من حيث العدد ومن حيث الكيف كذلك إذا ما نظرنا إلى جمهور النصوص المكتوبة التي تنتمي إلى ما يسمّى بأدب النخبة أو أدب الخاصة، وهذا الجمهور الكبير الذي يُعدُّ سمةً مميزة للنص الدرامي المرئي يتفاوت في علمه وثقافته واهتماماته وفي وعيه؛ ومن ثم فإنَّ المادة الدرامية المعروضة أمامه تبقى قاصرةً أو جامدةً عند المستوى الأول في المعنى؛ ذاك المستوى الذي يكتفي بالظاهر من الحكاية ومتنها دون الغوص أو محاولة الغوص في مقاصد وأبعاد تأويلية ثقافية ذات صلة وثيقة بلا شك بالتوجه الفكري للمؤلف وبانحيازاته الأيديولوجية . ( )

• البنية الضدية للشخصية ومرجعية الرؤية
وبالوقوف أمام مسلسل "أرابيسك" الذي أعدّه الكاتب أسامة أنور عكاشة وتم تمثيله وخرج إلى الجمهور في 41 حلقة تليفزيونية في العام1994م نجد أنفسنا بصدد لوحة درامية مركبة معقدة لشخصية البطل فيها الدور البارز المسؤول عن هذا التركيب؛ فنحن أمام حسن فتح الله النعماني وشهرته حسن أرابيسك انتسابًا لمهنة ورثها عن أبيه وعن أجداده، ومع المادة الدرامية نسافر بعيدًا في الزمن إلى جذور تعانق ما هو تاريخي حيث الحد الزمني الفاصل بين نهاية دولة المماليك وبداية حقبة العثمانيين في السيطرة على مصر وتحويلها إلا ولاية تابعة للسلطة المركزية في الأستانة/استانبول؛ ومع هذه البدايات يظهر أمامنا الجد النعماني الكبير وهو في طريقه إلى الأستانة مع غيره من أصحاب الحرف الذين تم اختيارهم للذهاب إلى العاصمة لإعمارها، وذلك كان نهج اتبعته الدولة العثمانية في انتقاء أصحاب المهارة والإجادة من أهل المهن المختلفة في الولايات؛ ليعملوا في العاصمة المركزية لدولة الخلافة. وحسن فتح الله النعماني أو حسن أرابيسك ذاك الحفيد الذي يمثل الحالة المصرية في القرن العشرين بكل تناقضاتها يبدو أمامنا في "خان دوادار" ضمن حي الغورية بالقاهرة الإسلامية المملوكية القديمة، شخصية تجمع بين عدد من الأضداد في مزيج مركب؛ فهو على الرغم من حبه لأهل حارته وحرصه على مشاركتهم همومهم والتدخل بفاعلية في مشكلاتهم تدخلاً يكشف عن حماسة وصدق ورغبة في العون والنفع؛ فإنَّنا نجده في الوقت نفسه سلبيًّا كسولاً يميل إلى إهدار وقته وماله وصحته في جلسات تعاطي المخدرات والحشيش، يصحو متأخرًا ويسهر مع صحبة المخدرات حتى مطلع الفجر، ذا همة في معونة غيره، لكنَّه متراخٍ مهمل مقصّر في حق صنعته على الرغم من عشقه لها وإتقانه لها، تلك الأسرة الكبيرة التي يأنس بها وهي أسرة الحارة لا تنفي عنه أنَّ بيته متهاوٍ؛ فهو مطلِّق لم يفلح في ضمان استمرار حياة زوجية مستقرة يقوم على رعايتها، تؤكد لنا حيويته بالنظر إلى حضوره الفاعل داخل حارته أنَّه بمثابة شخصية غيرية لا تحيا لذاتها بقدر ما تحيا لمن حولها.
هذه الحالة الضدية المفارقة التي تتجلّى من خلالها شخصية البطل حسن تضعنا بمعرفة أسامة أنور عكاشة أمام تساؤلات يطرحها فضاء نشط للتلقي يتجاوز عتبة المشاهدة لأجل المتعة والتسلية بعد تناول وجبة الإفطار في يوم من أيام شهر رمضان إلى عتبة المشاركة الحوارية مع العمل؛ بوصفه رسالة، ومن ورائها مرسِلها؛ أي مؤلفها؛ من هذه التساؤلات: ما العوامل التي أوصلت الشخصية إلى تلك الحالة الجامعة بين النقيضين؟ إنَّ حسن الذي كان جنديًّا مشاركًا ومحاربًا في أكتوبر 1973م قد شهد ما طرأ على الشخصية المصرية عمومًا من تقلبات بدأت حدتها منذ سبعينيات القرن الماضي؛ مع الانفتاح والإقبال على اقتصاد السوق( ) ومحاولة التخلي تدريجيًّا عن فكرة الاشتراكية، التي حرص عليها وروّج لها جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؛ بوصفها حالةً اقتصاديّةً واجتماعية، تسير موازية لها فكرة القومية العربية التي تسعى إلى جمع أبناء البيت العربي الواحد عى امتداد أقطاره وتعددها في إطار تكتل يضمن له حيويته وقوّته وهُويته في مواجهة تحديات العالم المحيط وما يجري فيه من متغيرات.
• البطل وصراع القيم
إنَّ حسن أرابيسك بقيم المحب للفن الأصيل ممثلاً في صنعة أبيه وأجداده المتمسك بها في مواجهة آلة لا يعنيها الجمال بقدر ما يعنيها الكسب المادي السريع اليسير الحصول عليه؛ لم يستطع بقيمه أن يصمد أمام هذه الحالة المتعدية الغالبة؛ فكانت النتيجة تراجعًا وانكماشًا في مقابل مد زاحف غاية المال عنده مقدمة على غيرها، في إطار منظومة القيم التي يتبناها أصحابه، ويمثلهم في داخل المادة الدرامية الممثلة زوج الأخت رمضان الخضري، وعتوقة بائع التحف المقلدة بجانب المجوهرات التي يتم بيعها للسائحين الأجانب بالعملة الصعبة في خان الخليلي.
وفي البناء الاجتماعي وداخل الإطار المكاني الذي تمثله الحارة/خان دوادار النطق العامي المصري لدويدار نجد أنفسنا أمام تمثيلات استعارية لقيم يمكن نعتها بالمتصارعة، قيمة المادة والنفعية في مقابل قيم الفكر والجمال والانحياز للأصالة وللماضي يتمسك بها البطل على الرغم من كل مستجدات الواقع شديدة الوطأة على وعيه؛ فرمضان الخضري مع عتوقة يمثلان البراجماتية التي تتوسع وتتمدد وتستقطب لها بشكل كبير وسريع عناصر جديدة دون توقف، في مقابل قيمة الفكر والعلم والثقافة والأصالة التي ينحاز لها حسن أرابيسك وتجد لها مؤيدين بدرجة من الدرجات، أمثال الأستاذ وفائي جار البطل الساكن في بيته، لكنَّنا نلحظ أنَّ هذا الجار المساعد للبطل بدعمه المعنوي لموقفه يبدو ضعيفًا بحكم سنه وبحكم مرضه، هذا المرض الذي يمكن القول إنَّه يمثّل حالةً رمزيّةً تتجاوز عتبة ما هو ظاهر؛ فالأستاذ وفائي نموذج لأصحاب وجهة النظر الداعمة للتمسك بقيم الفكر والثقافة عمومًا، لكن موقفهم يعاني ضعفًا ووهنًا وعدم قدرة على التأثير بفاعلية وعلى حشد مؤيدين كثيرين، وبجانب الأستاذ وفائي هناك الأسطى عمارة كبير العاملين في ورشة حسن أرابيسك الذي يبقى مع حسن وفيًا حريصًا على الاستمرار في الورشة على الرغم من حالة الجمود التي صارت عليها، انطلاقًا من صداقة تجمعهما لم تقتصر على رابط المهنة والعمل وحده.
وفي المسافات الفاصلة بين الموقفين نجد رفقاء المقهى الذين يمثلون في قرب البطل منهم واتصاله بهم منطقة الهروب والانسحاب في حياة حسن أرابيسك؛ فتعاطي مخدر الحشيش ليس سوى انعكاس لحالة انهزامية أمام الواقع الذي لم يستطع البطل حسن على الرغم من مقاومته له أن يغير ملامحه لصالحه.
• البطلُ واجهةٌ جماليّةٌ لرؤية المؤلف
تبقى هذه الوضعية مهيمنة حتى نصل إلى حالة من التغير ستبدأ تشهدها حياة حسن مع ظهور شخصية شريف ظاظا وتمدد حضورها؛ إنَّ شريف الذي تجمعه بحسن علاقة مزيج بين الصداقة والعمل يطلب منه في مرحلة لاحقة العمل في منزل عالم عائد للتو من أمريكا ويرغب في الإقامة في بلده، ويسعى بناء على رغبة زوجته المولعة بالدراسات الإنسانية في بعديها الأنثروبولوجي والاجتماعي إلى إعادة تصميم منزله على طراز جامع لأطوار الحضارة التي مرت على الدولة المصرية في مزيج كاشف عن البناء المركب لها.
هنا كأنَّ البذرة التي منها يتشكّل نص عكاشة برمته تبدأ تظهر أمامنا؛ سؤال الهُوية: من نحن؟ إنَّ الشخصية المصرية الجمعية التي مرّت بمراحل تاريخية متعاقبة متتالية من فرعونية وهكسوسية ويونانية وبطلمية ورومانية وعربية إسلامية تفرض على عكاشة سؤالاً ملحًا: أين الروح المصرية أو الجوهر المصري وسط كل هذا؟ وإلى من تنحاز الشخصية المصرية؛ كي يبدو بريقها أو أصلها الحقيقي؟.
إنَّ حسن النعماني ينطق في نهاية العمل موضحًا طبيعة هذه الحالة التي يبدو أنَّ عكاشة يتبناها؛ لقد سقط وتهاوى منزل دكتور برهان بفعل عمليات التكسير والهدم التي قام بها حسن رغبةً منه في التأسيس أو البناء من الصفر على أرضية ممهدة، وكأنَّ بيت دكتور برهان في نهاية العمل هو موطأ القدم الدرامي الذي يضيئ حاملاً رؤية أسامة أنور عكاشة للحالة المصرية ولسؤال الهُوية من نحن في خضم كل هذا التعاقب الحضاري والثقافي على الشخصية المصرية؟
ولعلَّ هذه الرؤية التي كشفت عن نفسها من خلال صنيع البطل حسن النعماني في النهايات تأتي متفقةً مع روح أسامة أنور عكاشة المنحازة بدرجة كبيرة للتأصيل وللنزعة المحلية للشخصية المصرية ولامتدادها الإقليمي في محيطها العربي الذي تأوي إليه ويأوي إليها.
إنَّ التسمية الدراجة للبطل في داخل هذه المادة الدرامية التي ربطت بين اسمه والحرفة التي يعمل بها (حسن أرابيسك) كأنَّ هُويته هو لا تُعرف إلا بها، تضعنا أمام طبيعة هذه الحرفة ذاتها؛ بوصفها تقوم على مصنوع تتداخل تتضافر فيه عناصر عديدة من خشب ونحاس وفضة بطريقة تجعل من التفاصيل الصغيرة الملتصقة والمتجاورة هي سرُّ الجمال في ذلك المصنوع؛ ليظهر في النهاية بهذا المسمى قطعة أرابيسك أو باللهجة المصرية حتة أرابيسك.
• الشخصيّةُ وتمدّدُ الرؤية
ومن أرابيسك الحرفة إلى أرابيسك الشخصية الفردية شخصية حسن كما قلنا بتناقضاتها وجمعها بين أضداد، إلى أرابيسك الحالة المصرية على اتساعها نسير في حركة أفقية؛ لنجد أنفسنا أمام بنية استعارية تمثيلية تجليها دراميًّا شخصية البطل حسن أرابيسك التي تعكس البناء المعماري للشخصية المصرية المتعدد الطوابق في مسيرها عبر الزمن، وقد أضيف إلى مبناها مكوّنات ثقافية متتابعة، نرصدها في محطات زمنية يلتقي فيها ما هو سياسي بما هو اجتماعي وما هو عقدي:
- فرعونية
- هكسوسية
- يهودية
- يونانية بطلمية
- رومانية
- مسيحية
- عربية إسلامية
والبحثُ عن الذات المصرية هو في حقيقته حفرٌ جيولوجيٌّ في أرض شديدة السُّمك: من نحن في خضم هذا التعدد شديد التضافر؟سؤال وجودي يطرح نفسه، قد حاول الفن تشكيله بطريقته؛ فرأينا نصَّ أسامة أنورعكاشة يرصده دراميًّا من خلال مسلسل "أرابيسك" وبطله التائه في ظلمات الجمود والكسل والسائل في الوقت ذاته والباحث؛ إنَّه حسن النعماني، الذي جاء على بيت د. برهان في خاتمة العمل ليقدم رؤية جمالية تبين بجلاء وبإلحاح سؤال الهُوية هذا الذي فرض وصايته على وعي ذاك البطل؛.في محاولة منه للتخلص من المرجعي الراسخ سابق التجهيز وإعادة التفكير ومحاولة الوصول إلى نقطة صفر وإعادة البناء بطريقة جديدة تغاير، وتحاول الابتعاد عن المتعارف عليه، وما يترتب عليه من أنساق سلبية نرصد كثيرًا منها في دفتر يوميات هذا البطل الجامع بين كثير من الأضداد. (حسن أرابيسك) التي تجعل منه إلى حدٍّ كبير اختزالاً فنيًّا للشخصية المصرية في بعدها الجمعي ومسيرها التاريخي الممتد في الزمن.
 


- انظر: نبيل سليمان، وعي الذات والعالم، ص10، 11، الطبعة الأولى، دار الحوار للنشر، اللاذقية، سوريا.
- انظر: د.أحمد يحيى علي، التعبير الإنساني والمحاكاة، عدد أغسطس، مجلة الديوان الجديد، القاهرة.
- انظر: د.أحمد يحيى علي، الاستعارة بين الواقع والدراما، عدد مارس، 2021م، مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.