محمد ياسر منصور
كاتب وباحث سوري
نزاعاتُ ما بعد الحرب الباردة هي غالباً نزاعات سياسيِّة أو عِرقيِّة تحدث داخِل الدُّول. وأصبح العنف لهذا السَّبب عنفاً غريباً، وذلك جرَّاء التداخل بين المتقاتلين وبقية السكَّان من ناحية، ومن ناحية ثانية، جرَّاء سقوط عدد كبير من القتلى بوساطة الأسلحة الخفيفة الحديثة الرخيصة الثَّمن والمُستخدَمة في تلك النِّزاعات.
فَفي أفريقية تُستخدم البندقية AK التي لا تُكلِّف أكثر من ثَمَن دجاجة، وذات استخدام "وِلاَّدي" أي يَسهل على الأولاد استخدامها. وضحاياها الأساسيون هم النساء والأطفال الذين يُستخدَمون، قَصداً، كأدوات في الحرب الجديدة الرامية إلى تدمير العدو نفسيَّاً.
إنَّ تقرير الأمم المتحدة، بعنوان "نتائج النِّزاعات المُسلَّحة على الأطفال" الذي وضعَته السيدة (غراسا مارشل)، وعُرِض على الجمعية العامة سنة 1996، يكشف عمق تلك المشكلة كلّها ويقترح اعتماد إجراءات حِماية تُطبَّق مَيدانيَّاً بِبِطء. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، كانت نسبة الضحايا من المدنيين نحو 5%، وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية، بلغت هذه النسبة 50%. ومنذ ذلك الحين لم تفتأ تلك النسبة تتزايد، وتدلّ بعض الإحصاءات اليوم إلى أن تلك النسبة أصبحت 80%.
وخلال العقد الماضي، قُتل زهاء (15 ) مليون طفل في الحرب، وأربعة ملايين آخرين صاروا مُعاقين مُشوَّهين أو عُمياناً. وفي إحدى المراحل خلال الثمانينيات كان (25) طفلاً في إفريقية يموتون كل ساعة نتيجة النزاعات، وأعداد لا تُحصى من الأطفال جُرحوا، أو تُخُلِّيَ عنهم، أو يُتِّموا، أو أُخِذوا رَهينة. ومن العام 1945 إلى العام 1982، حَدَث نحو (150) نِزاعاً سَقطَ فيه نحو (20) مليون ضحيّة بشريّة، معظمها من النساء والأطفال. وخلال السنوات العشرين الأخيرة، قُتِل أكثر من مليون ونصف المليون طفل، وأكثر من أربعة ملايين إلى معسكرات لِلاَّجئين، وَوَجد أكثر من عشرة ملايين أنفسهم دون مأوى، ومَحرومين من كل شيء. وفي نحو ثلاثين بلداً، ثَمَّة أطفال أعمارهم بين 9 و 18 سنة يُؤدُّون الخِدمَة العسكريّة كالجنود. وهناك أكثر من عشرة ملايين طفل، مَحرومين من كل سَنَد عائلي اجتماعي وتعليمي تَمَّ تجنيدهم بِالقوَّة أو من دُونِها، بِدافِع الانتقام أو الحاجة إلى البَقاء، كانوا ضَحيّة تلك النِّزاعات وعانوا صَدمات عميقة مُؤثِّرة ودائمة (الكوابيس، الصَّمَم والبُكم، بتر الأعضاء...).
• أطفالٌ ضحايا وأطفالٌ جنود
من أنغولا إلى الصومال مروراً بالعراق ويوغسلافيا السابقة والسلفادور وأثيوبيا وبرمانيا وكمبوديا وليبيا وسورية واليمن، واللائحة تطول كثيراً، ثمَّة نِزاعات مُسلَّحة تمسّ خصوصاً بلداناً نامِية، حيث يُشكِّل الأطفال نِصف السكَّان. وهذه الظاهرة من "الأطفال الضحايا" و"الأطفال الجنود" ظاهرة شاملة وتقوم بالاتساع لأن العُنف والحِقد المنتشرين بين الشبيبة يُؤدِّيان حَتماً إلى حروب جديدة. وإعادة إدماج أولئك الشبَّان في المجتمع يُمثِّل مشكلة عويصة بل قد يكون ضَرباً من المُحال. وهكذا سينتشر الحِقد مُستقبلاً. فهؤلاء الأطفال ضَحايا الحُروب، من أولاد وبنات ينتمون إلى عَوالِم تختلط فيها الحرب بِالفَقر والعُنف والمَجاعة والاضطراب السياسي وتدمير البيئة. وفي بعض النِّزاعات، كما في الصومال أو أثيوبيا، فإنَّ المَجاعة التي سبَّبتها الحرب كانت مَسؤولة عن 80% من الوفيَّات. ونِصف الجهاز المَدرَسي تمَّ تدميره في موزامبيق. وفَقَد الأطفال ثِقتهم بِعالَم الكبار. ذلك أن الكبار تَخلُّوا عنهم، أو تَركوهم يَتامى أو ضائعين، كما في رواندا، حيث بلغَ تعدادهم (150000) طفل حَرمَتهم الحرب من كلّ أحبَّائهم وأحياناً أمام ناظريهم وعلى مَرأى منهم.
• بذورُ النزاعات المسلحة المستقبليّة
إنَّهم يُجنَّدون بإرادتهم أو بِالقوَّة، ويُخطَفون أحياناً من مَدارسهم أو قُراهم، وتَضعُف قُواهم ويخضعون للإرهاب والمُخدِّرات، وعندئذٍ يُمكن لهم أن يُصبحوا "الأطفال الجُنود " القادرين على الاضطلاع بِالمَهامّ الأكثر خَطراً؛ بل الأكثر فَظاعة. كما يُستخدم أولئك الصِبيان والبَنات لِلخدمة في المَطابِخ، أو لِلحراسة، أو لِنَقل البريد أو التجسُّس، أو لِلقتال، فَيُستخدَمون أيضاً كَرُماة أو كانتحاريين. ويُقدِّر "سادَة الحَرب" شجاعة أولئك الأطفال وجاهِزيَّتهم. وهُم كما قال قادة الخمير الحُمر "لا يَخشون شيئاً". ويُقدَّر عدد "الأطفال الجُنود" بِنَحو (250.000) طفل. وفي ليبيريا، كان هناك 10% من أصل (60.000) مُقاتِل من الأطفال، إبَّان الحرب الأهليِّة التي اندلعت في العام 1989. وفي السلفادور، كان هناك 20% من الأطفال في القوات المسلَّحة. وفي أفغانستان هناك 10% من المُجاهِدين أعمارهم دون 16 سنة. وفي فلسطين، حيث يُشارك نحو ثلاثة أرباع الأطفال الفلسطينيين في رَجم القوات الإسرائيلية بالحجارة مُتحدِّين قوات الاحتلال الاسرائيلي التي تُواجِههم بالقنابل الدُخانيَّة والرصاص المطاطي وحتى الرصاص الحَيّ مُوقِعةً فيهم العديد من القتلى والجرحى والمُصابين.. إضافةً الى اعتقال أعداد كبيرة منهم. وحرب أنغولا التي وَضعَت أوزارها في العام 1994 بِوَقف لإطلاق النار، تَركَت نحو (10) ملايين لُغم أرضي مَدفونة تحت التراب، ولم تعرف عدّة أجيال سوى الحَرب. ولم يعرف هذا البلد أيضاً كيف يُسرِّح آلاف الشبَّان من الجنود ويُعيد دَمجهم في المجتمع المَدني.
وفي سورية جَنَّد تنظيم داعِش الإرهابي وغيره من التنظيمات المسلَّحة مئات الأطفال والشبَّان.. واستخدموهم في كثير من عمليَّاتهم الانتحاريِّة.. كما استخدموهم للقيام بأعمال قَتل وتعذيب مُروِّعَة وَصلَت الى حَدّ الذبح وقطع الرؤوس وإطلاق الرَّصاص وإراقة الدِّماء.
عَسكرة الشبيبة مُنتشرة في كل مكان، وتحمل في طيَّاتها بُذور النِّزاعات المُسلَّحة المُستقبليِّة.
• اتفاق حقوق الأطفال
منذ بداية القَرن الحالي، يُحاوِل المجتمع الدولي تطوير الأدوات الشَّرعيِّة القادِرة على حِماية الأطفال في الحروب. فهنالك اتفاقات جنيف للعام 1949 الخاصَّة بِحماية ضحايا الحرب، وهي على شاكلة بروتوكولَيّ العام 1977، اللَّذين يُنظِّمان حِماية عامِّة وخاصَّة للأطفال. ولكن هناك اتفاق "حقوق الطفل" الذي شارَك فيه أكثر من (160) بلداً، والذي يُشكِّل بالتأكيد الإطار الذي يُقدِّم أكثر الإمكانات. وقد انصبَّت الجُهود الحَديثة العَهد على "الأطفال الجُنود" خاصَّةً، ولا سيَّما مَن هُم في سِنّ أدنى من سِنّ تَطويعهم في الجيش. وما زالت هناك بعض التصريحات أو الإجراءات الضعيفة الإلزام وتتعلَّق إمَّا بِـ"الأطفال والأُسَر التي تذهب ضَحيّة الحَرب"، ونَذكُر على سبيل المِثال شَرح مَفهوم "منطقة سلام" المُطبَّقة على الأطفال، وإمَّا بِالتردُّدات المُتعلِّقة بِقرارات إخلاء العائلات وتفريقها، وإمَّا أخيراً بِالأَخذ في الحُسبان تقديم مُساعدة اجتماعيِّة ونَفسيِّة وتعليميِّة لإعادة إدماج الأطفال عَقب النِّزاعات التي راحُوا ضَحيَّتها. غَيرَ أنَّه ما زالت هناك عَقبَات كثيرة أمام تصديق اتفاق شامِل لحماية الأطفال. والجِهات النشيطة والفعَّالة التي لا تُمثِّل دُوَلاً مُعيَّنة لا تُوقِّع على ذلك الاتفاق، ومُعاهدات السَّلام ووَقف إطلاق النَّار لا تتوقَّع دائماً إجراءات لِتَسريح الجُنود الشُبَّان، ولا سيَّما تحديد مَن هو الطفل الحقيقي حَسب المَفاهيم والثقافات. أخيراً؛ إنَّ الرأي العام لا يملك معلومات كامِلة عن اتِّساع المشكلة.
• من أجل سياسة وقائية شاملة
في فَجر القَرن الحادي والعشرين، يتزايد أعداد الأطفال الذين يُصبِحون أدوات لِلعُنف أو لِلحَرب في مجتمعات لم تَعُد تُحقِّق لهم الحِماية. وإذا ما تَضاعَفت هذه النَّوعيِّة الجديدة من النِّزاعات في البُلدان النَّامية، فَلنَحذَر من انتشارها أيضاً في البُلدان الغنيِّة والمُتقدِّمة. وتَتنبَّأ بعض المُؤلَّفات بِعَودة العُنف، سواء العُنف المُسلَّح أو غَير المُسلَّح، وعلى حَدّ سَواء في المجتمعات التقليدية غير المتوازنة في عُمقها جَرَّاء هَجمة الحَداثة وفي المجتمعات الصناعية المُتقدِّمة لِلغاية التي تكتشف ثانيةً المُنعكسات الأولى لِلصراع من أجل البقاء.
وقد استشعرَ الكاتِب الفرنسي المَعروف "آندريه مالرو" Andre Malraux ذلك التطوُّر عندما قالَ لِلعالِم الذَّرِّي "ألبرت إينشتاين" في مُؤلَّفه "أشجار السنديان التي تُقطع":" لن يكون لِلَفظة التقدُّم أي مَعنى ما دامَ هُناك أطفال تُعَساء".
إنَّ مِشكلة الأطفال ضَحايا الحُروب تُطرَح على المُجتمع الدّولي بِرُمَّته. وبهذا الصَّدد، لم يَعُد المَقصود البَحث عن الإثارة بَل تقويم نتائج هذه الظواهر الواسعة الانتشار في المجتمعات المُستقبليِّة. وثَمَّة سياسة لِلوقاية الشَّامِلة من الفَقر والاضطهاد من كل الأنواع هي من الأُمور الضروريِّة. وعلى تِلك السياسة الأَخذ في حُسبانِها حُقوق الأطفال، وعَسكرة المُجتمعات، والإمدادات بالأسلحة. والقوَّات المُسلَّحة التي تَقَع في الخَطّ الأوَّل في عمليَّات المُحافَظة على السَّلام أو إعادة نَشره، عليها بِوُضوح زيادة تَدخُّلها لِمَصلحة السكَّان الشَّباب، ولا سيَّما مِن خِلال مُشاركتِها في إعداد إصلاح بيئتهم الاجتماعية والعائليِّة والصِّحيِّة والمَدرسيِّة. و"الاتفاق الدّولي لِحقوق الطفل " يَنصّ في الواقع على أنَّه "يجب على الدول الأعضاء اتِّخاذ جميع الإجراءات لكي يتمكَّن الأطفال المُتضرِّرون من نِزاع مُسلَّح من الاستفادة من الحِماية والرِّعاية". فَكيفَ يُمكِن تَطبيق هذا النَّصّ على صَعيد الواقِع؟.