اسماعيل بوزيد
كاتب وباحث مغربي في الفلسفة والفكر المعاصر
تعدُّ إشكاليَّة الإرهاب من بين الإشكاليات الأساسيَّة والمهمَّة التي حظيت، وتحظى اليوم باهتمامٍ كبيرٍ من قبل ثلة من الفلاسفة والمفكرين والباحثين، المهتمين بالفلسفة الأخلاقيَّة والسياسيَّة والقانونيَّة، ويكاد لا توجد إشكاليَّة تدرس وتناقش على نطاق واسع وباستفاضة، وفي كلِّ الأمكنة والأزمنة مثل إشكاليَّة الإرهاب؛ فهذه الأخيرة شغلت الفلاسفة والمفكرين والباحثين، وهذا الانشغالُ له ما يفسّره، يتمثل أساساً في كون أعمال الإرهاب لم تكن موجودة من قبل في كل الأمكنة والأزمنة، وبالحدة نفسها والدرجة التي توجد بها في الزمكان الراهن. ولذلك، عمل الفلاسفة والمفكرين والباحثين على بحث ودراسة وإعمال النظر في إشكاليَّة الإرهاب؛ وذلك من أجل تقديم تصوّراً عقلانياً مُؤسساً على حجج وبراهين مُقنعة، من شأنها أن تنبذ التطرف، وتسهم في القضاء على الإرهاب المفضي إلى قتل أبرياء لم يفعلوا شيئاً، ومن ثم ترسيخ السلم والتسامح والتعايش المشترك.
لكن؛ وقبل الخوض في تحليل هذه الإشكالية وتفكيكها، وإبراز مختلف القضايا التي تثيرها، لا بدَّ أولاً من أن نصيغ بعض الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع، وهي إشكالات مهمَّة وأساسيَّة، لأنَّها تفتح المجال لإعمال التفكير بكل آلياته التي تصبو إلى التجديد والإبداع، وليس إلى النقل والاجترار، وهذا ما سنسعى إلى تبيانه في هذا المقال؛ فما المقصود بالإرهاب؟ وما المقصود بالإرهابي؟ وما علاقة الفلسفة بإشكاليَّة الإرهاب؟ أين تكمن أهميَّة الفلسفة في ظلِّ تصدُّع الواقع؟ أليست الفلسفة كفلية باستئصال كل الأفكار والآراء المُحرّضة على فعل الإرهاب، ومن ثم استنبات القيم الكونيَّة؟
يبدو أنَّ الفلسفة مثل "بوما منيرفا"، إذ لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يُسبل الليل ستائره، ويتصدع الواقع ويمرض بلغة "هيغل"، ويتفشّى العنف وينتشر الإرهاب في المجتمعات، هاهنا تكون الحاجة ملحة إلى تدخل الفلسفة بتصوّراتها الأخلاقيَّة والسياسيَّة والقانونيَّة، قصد معالجة هذه المجتمعات من خلال العمل على ترميم التصدع، واستئصال المرض، والقضاء على العنف الذي يُعد تجليّاً من تجليات شرور الإرهاب، ومن ثم اقتلاع جذوره، وترسيخ قيم السلم والتسامح والتعايش المشترك.
تُسهم الفلسفة بشكلٍ كبيرٍ في دراسة إشكاليَّة الإرهاب، إذ تحلّل وتفكّك مختلف الخطابات الإرهابيَّة، وذلك قصد نقدها وتقويضها. وتحظى هذه المساهمة بأهميَّة كبيرة مقارنة مع غيرها من المساهمات التي تقدمها الحقول المعرفيَّة الأخرى، من قبيل العلوم الإنسانيَّة المُهتمة بإشكاليَّة الإرهاب، لا لشيء إلا لأنَّ الفلسفة تصبو إلى القضاء على العنف . وحينما يهتمُّ الفلاسفة بإشكاليَّة الإرهاب، فإنَّهم يسعون من وراء هذا الاهتمام إلى تحليل وتبيّان المفاهيم المتعلقة بهذه الإشكاليَّة، ومن ثم العمل على وضع المبادئ القيميَّة الرامية إلى استنبات قيم السلم والتسامح والتعايش المشترك.
وفضلاً عن ذلك، إذا كانت العلوم الإنسانيَّة تدرس أسباب الإرهاب وتاريخه وأنواعه وآثاره النفسيَّة والاجتماعيَّة على الإنسان، وكذا تكشف وتبيّن الكيفيَّة التي انتشر من خلالها الإرهاب في مختلف الأمكنة مع توالي السنوات؛ فإنَّ الفلاسفة يركّزون على سؤالين أساسيين، هما: أولاً، ما هو الإرهاب؟ وثانياً، هل يمكن تبريره أخلاقيّاً؟ بالنسبة للسؤال الأول يَنصب على الجانب المفهومي الذي يحظى بأهميَّة كبيرة في مناقشة إشكاليَّة الإرهاب، سواء في مجال الفلسفة أو في مجال علمي آخر، وحتى في المناقشات العموميَّة، إذ لا يمكن مناقشة هذه الإشكاليَّة بدون التطرق أولاً للجانب المفهومي. أمَّا فيما يخصّ السؤال الثاني المتعلق بالتبرير الأخلاقي للإرهاب، فإنَّه لا يمكن تناوله ومناقشته إلا بعد أن نكوِّن ــ من خلال الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة ــ تصوّراً دقيقاً وواضحاً حول مفهوم الإرهاب، ومن ثم نقرّر ما ينبغي قوله فيما يتعلق بردنا الأخلاقي والسياسي والقانوني على الإرهاب ومُرتكبيه .
ولا غرو إن قلنا هاهنا إنَّ هناك صعوبة في إيجاد تعريف جامع مانع لمفهوم الإرهاب، لأنَّ لفظة إرهابي هي وصف لما يتبناه فرد أو جماعة على الإطلاق طوعاً، وإنَّما يصفهم به الآخرون، وبالدرجة الأولى من قبل حكومات الدول التي يُهاجمها هؤلاء. ولم تتردد الدول بتاتاً في وصف خصُومِها الذين يُمارسون أعمال العنف بهذا اللقب، الذي يحمل في طياته معاني الشر والإجرام والعدوان وغياب الإنسانيَّة، وغيرها من المعاني الرديئة والبشعة. وبموجب هذا اللقب، يصبح الإرهابي منبوذاً، وغير مرغوب فيه داخل المجتمع؛ لأنَّه يشكّل تهديداً حقيقيّاً على حياة الأفراد وسلامتهم النفسيَّة والجسديَّة .
وحينما نبحث عن تعريف للشخص الإرهابي، نجد هذا الأخير هو لفظ مشتق من لفظ الإرهاب، ويقصد به غالباً، كل من يلجأ إلى ممارسة الإرهاب من خلال الاختطاف أو التعذيب أو التعنيف أو الاغتيال أو إلقاء القنابل والمتفجرات في أمكنة خاصَّة أو عموميَّة .وفضلاً عن ذلك، إنَّ الإرهابي هو شخصٌ مُقاتلٌ فدائي، يُضحي بنفسه في سبيل الدفاع عن الدين أو العقيدة أو بعض الإيديولوجيات العقيمة والسَّامة المُميتة المعادية للإنسان، قصد تحقيق بعض الأهداف المكنونة والمتوارية عن الأنظار، ولا يعرفها إلا هُوَ، من قبيل الفوز بالجنة، وتحقيق الخلاص الذي يكاد لا يتحقق بحسب المنظور الإرهابي إلا عبر ممارسة الأعمال الإرهابيَّة؛ فهي هاهنا تمثل مدخلاً رئيساً لتحقيق هذا المسعى.
يمكن تحديد معنى الإرهاب من خلال مدخلين أساسيين، هما: أولاً، إنَّ الإرهاب هو نوعٌ من أنواع العنف. وثانياً، إنَّه فعلٌ شنيعٌ وشائن، يلزم أن نرفضه ونحتج عليه، وليس فعلاً معظّماً نفتخر ونعتز به، ونؤيده ونسوّغه. بيد أنَّ لا أحد يأخذ بهذا التصوّر المُقدم لمفهوم الإرهاب ويطبقه على ذاته وأفعاله وتصرفاته، ومن ثم يتأكد من مدى عقلانيَّة وصحة أفكاره ومعتقداته وإيديولوجيَّاته، وكذا مدى إيمانه بالاختلاف وتقبله للمناقشة، ومناهضته لشرور الإرهاب. وفضلاً عن ذلك، يقدّم الفيلسوف الأمريكي "مايكل بويلان" "Michael Boylan" جُملة من التعريفات لمفهوم الإرهاب، يمكن إبرازها على الشكل التالي: أولاً، يعدُّ الإرهاب استراتيجيَّة سياسيَّة أو عسكريَّة، تتمثل في استعمال العنف عن سابق تصوُّرٍ وتصميم. وثانياً، يعتبر الإرهاب وسيلة لترهيب بعض أعضاء الفئة الاجتماعيَّة أو السياسيَّة من أجل تحقيق أهداف سياسيَّة أو عسكريَّة. وثالثاً، يستند الإرهاب إلى العنف الذي يحظى بقدر كبير من الدعاية، وذلك لإثارة الخوف على نطاق واسع في الجماعة السياسيَّة المستهدفة من هذا الفعل الإرهابي .
ومن الواضح أنَّ مناقشة إشكاليَّة الإرهاب، تخضع لمعيارين مختلفين، يتمثل المعيار الأول في الجهة التي تُمارس الإرهاب؛ أي من قام بالأعمال والأفعال الإرهابيَّة. أمَّا المعيار الثاني الذي يُعدُّ عائقاً حقيقياً يَحُول دون تكوين فهم صحيح ودقيق حول مفهوم الإرهاب، يتمثل أساساً في اتهام المتمردين الذين يلجأون إلى العنف بأنَّهم يمارسون الأعمال والأفعال الإرهابيَّة، ومن يَطلق هذا الحكم المسبق يُماثل بين العنف والإرهاب، دون تعليق الحكم لمعرفة نوع العنف المستعمل. وعلى العكس من ذلك، ترفض الدول الجائرة الحديث عن الإرهاب، حينما يتم الحديث عن السيَّاسات والأفعال العنيفة التي تمارسها في حقِّ المدنيين الأبرياء، وخاصَّةً عندما يتعلق الأمر بالمدنيين الذين تختلف مرجعيَّاتهم وتصوّراتهم الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة عن مرجعيَّات وتصوّرات الدولة التي ينتمون إليها. وبموجب هذا الرفض، يَكتسب الافتراض الشائع حول الإرهاب، الذي تقدمه المنظمات غير الحكوميَّة، والمتمثل أساساً في كون الإرهاب كيفما كان هو بمثابة رد فعل يقوم به المتمردون وليست الدولة، شرعيَّته وحقيقته، وأحقيَّته في الوجود . غير أنَّ الإرهاب الحقيقي هو الذي تمارسه الدول الجائرة في حق المدنيين الأبرياء، الذين لا يفعلون شيئاً، عدا مطالبتهم بحقوقهم المسلوبة، التي يكفلها لهم البيان العالمي لحقوق الإنسان.
يُقدم الفيلسوف "إيغور بريوراتز" في هذا السياق الصراع الفلسطيني والإسرائيلي باعتباره مثالاً على الإرهاب الذي تمارسه الدول الجائرة في حق المدنيين الأبرياء، حيث ترتكب إسرائيل جرائم إنسانيَّة بشعة، تكاد تفوق الإرهاب. ولكنَّ مع ذلك، تنكر إسرائيل تورطها في الإرهاب، وفي مقابل ذلك، تتهم الفلسطينيين بأنَّهم إرهابيون، وتحاول بذلك تبرير العنف الذي تستعمله في حقهم من خلال تلفيق تهمة الإرهاب للفلسطينيين، ومن ثم القول بأنَّها تدافع فقط عن أراضيها وسيادتها وشعبها .
بيد أنَّ الفلسطينيين يقرون بأنَّ نضالهم مشروع وعادل لطرد الاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس عليهم القمع والاضطهاد والتعذيب، وكذا حقهم في تقرير المصير، الذي تكفله لهم المواثيق والمعاهدات الدوليَّة، ومن ثم استنبات السلم والأمن. ولتحقيق هذه الغاية يقرُّ الفلسطينيون بأنَّ من حقهم سواء معنوياً أو قانونياً، استعمال العنف باعتباره وسيلة من وسائل التحرر ونيل الاستقلال، وهذا الاستعمال ليس إرهاباً بحسب تصوّر "إيغور بريوراتز"، وإنَّما كفاحٌ من أجل الحريَّة. غير أنَّ الإسرائيليين يرفضون هذه الأفكار، ويؤكدون بالمقابل أنَّ دولة إسرائيل لا تمارس الإرهاب، بقدر ما تواجه هجوماً إرهابيّاً؛ فهي تفعل ما يحق، وما ينبغي لأي دولة فعله في مثل هذه الظروف، لأنَّه سواء معنوياً أو قانونياً، فإنَّ الدولة مُلزمة باستخدام قوتها المسلحة وأجهزتها الأمنيَّة من أجل الدفاع عن سيادة الدولة وممتلكاتها، وأمن واستقرار مواطنيها .
يرى "إيغور بريوراتز" أنَّ من يتحدث نيابة عن الفلسطينيين، يفترض بأنَّ المعيار الفاصل للتمييز بين فعل إرهابي وفعل غير إرهابي، يتمثل أساساً في الغاية الأسمى التي تجعل الفلسطينيين يلجأون إلى العنف؛ فإذا كانت غاية مشروعة، من قبيل الحق في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عن وطنهم، فإنَّه لا يمكن بتاتاً اعتباره إرهاباً، ومن ثم لا يمكن أن نعتبر من يُكافح من أجل الحريَّة والتحرّر من الاستعمار إرهاباً؛ لأنَّ القول بأنَّ الإرهابيين يُكافحون من أجل الحريَّة، فهذا تناقض صارخ في المفاهيم. وفي مقابل ذلك، فإنَّ من يتحدث نيابةً عن إسرائيل يفترض أنَّ القصديَّة هي التي تحدّد ما إذا كان اللجوء إلى العنف إرهاباً أم لا، بحيث إذا مُورسَ العنف من قبَل المُتمردين، فإنَّه يُعتبر إرهاباً، ولكنَّ إذا مُورسَ من قِبَلِ الدولة، فإنَّه إمَّا يدخل في اختصاصات عمل الشرطة الذي يرمي إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة وأمن واستقرار مواطنيها، أو في نطاق الحرب العادلة، التي تصبو إلى استرجاع أراضي الآباء والأجداد المقدسة؛ ولهذا فالقول هاهنا بدولة الإرهاب، هو تناقض صارخ في المفاهيم .
وبِحَسَبِ وجهة نظر الدفاع عن النفس المُبرَّر، فإنَّه يمكن للشخص أخلاقياً أن يُدافع عن نفسه، إذا حاول المهاجم إلحاق الأذى بالمُدافع عن النفس، وكان المُهاجم سينجح في فعله هذا إذا لم يتدخل المُدافع، ولذلك فإنَّ الطريقة الوحيدة الناجعة لكي يتدخل المُدافع عن النفس بنجاح، ومن ثم يُبعد الخطر المهدّد لسلامة جسده، ويظلّ على قيد الحياة هي أن يُدافع عن نفسه بكل الطرق المُمكنة. غير أنَّه يلزم علينا أن نميز بين الدفاع عن النفس في سياق المجتمع الديمقراطي الليبرالي، الذي يوفر لمواطنيه الأمن والاستقرار، والدفاع عن النفس في سياق الحرب، بالنسبة للدفاع الأول، فإنَّه يكون ضد أشخاص ينتمون للدولة نفسها، على سبيل المثال لا الحصر، الشخص المُختلف في الدين أو في الانتماء الساسي، أمَّا الدفاع الثاني، فإنَّه يكون ضد الاحتلال أو المُستعمِر الذي يشنُّ حرباً ظالمة من أجل سلب أراضي الغير واستعمارها، مثل ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي الذي يصبو إلى سلب الأراضي الفلسطينيَّة . ممَّا يعني هذا القول، إنَّ الدولة الإسرائيليَّة تمارس الإرهاب بشتى أشكاله في حق الفلسطينيين الأبرياء، الذين يُدافعون عن أنفسهم قصد درء جبروت الإرهاب الإسرائيلي، ولكنَّ مع ذلك، تتنصل الدولة الإسرائيليَّة من ممارستها للإرهاب، وفي مقابل ذلك تتهم الشعب الفلسطيني باعتباره مسؤولاً حقيقيّاً عن مُمارسة الإرهاب.
حاصل القول؛ إنَّ اهتمام الفلسفة بإشكاليَّة الإرهاب التي تندرج في إطار مجالاتها الأخلاقيَّة والحقوقيَّة، يأتي في إطار البحث عن حلٍّ للمشاكل والأزمات والتصدعات التي يعاني منها الإنسان في العالم المعيش. ولكنَّ قبل ذلك، تصبو الفلسفة في هذا الصدد إلى تحقيق هدفين أو مطلبين أساسيين، هما: أولاً، البحث عن تصوّر دقيق لمفهوم الإرهاب، يأخذ بعين الاعتبار مختلف الأبعاد التي يتكوَّن منها، وذلك قصد درء الغموض الذي يكتنفه. ثانيّاً، تبيان مختلف أشكال الإرهاب المتعددة والمختلفة، من قبيل الإرهاب الذي تمارسه المنظمات والجماعات المسلحة في حقِّ المدنيين الأبرياء، وكذا الإرهاب الذي تمارسه الدول الجائرة في حقِّ مواطنيها، الذين يختلفون معها في مرجعيَّاتها وخلفيَّاتها الفكريَّة، الدينيَّة، الثقافيَّة والسياسيَّة، والرافضين لسياستها العقيمة، إضافةً إلى الإرهاب الذي تمارسه الدول الجائرة المُستعمِرة في حقِّ الشعوب المُستعمَرة والمُحتلة. وتبقى هذه الصورة الأخيرة أكثر مأساويَّة وبشاعة، مقارنةً بباقي الصور التي يأخذها الفعل الإرهابي، ومن ثم تقديم تصوّر لتجاوز شرور الإرهاب، والعمل على ترسيخ القيم الكونيَّة، وإشاعتها في العالم المعيش، قصدَ تحقيق العيش الإنسانيّ المشترك.