أيمن يوسف أبو لبن
قاص أردني
تتسلل ليلى خلسةً إلى حقيبة الطالب المشاغب أمجد، الذي تكنُّ له مشاعر حب مجنونة دون أن يدري، تريد أن تعبّر عن حبّها المكنون، ولكنَّها في الوقت ذاته تحاول جاهدةً ألا تكشف هُويتها. هي تعتقد أنَّ هذه الرسائل هي جسرُ التعارف بينهما، جسر العبور إلى داخله، أو ربما هي رحلة اكتشاف الذات بالنسبة لها.
ليلى شابةٌ خجولةٌ مفعمةُ العواطف ذات بصيرة لا تخفى على أحد، في حين أنَّ أمجد هو شاب أرعن ذاع صيته في الكلية الجامعية بسبب مشاكساته وازدرائه للآخرين، يقود حفنة من الشباب الذين يمارسون هوايتهم في السخرية من الطلاب الأقل حظًا، ومن الفتيات تعيسات الحظ، بل ومن الهيئة التدريسية.
في كلِّ يومٍ تزرع رسالة في حقيبته وترفقها بوردة، وتنجح بشكل لافت في أن لا تلفت انتباه أحد، وأن تبقى بعيدًا عن الشبهات، تتحدث في رسائلها عن أمور الحياة، وتطلعه على دواخلها، وتناقش معه تصرفاته الطائشة، وترسم له صورة عنه مخالفة لواقعه.
في بداية الأمر، يستخفُّ أمجد بتلك الرسائل وتلك المشاعر، ولكنَّه مع مرور الوقت يعتاد على نظامه الحياتي الجديد، بل إنَّه يسابق الزمن حتى يعود إلى غرفته ويفتح حقيبته ويبعثر أشياءها باحثًا عن تلك الورقة الخفيّة وتلك الوردة التي يتجدد لونها وعبيرها باختلاف فصول السنة، وتجعل ليومه طعمًا آخر.
كانت هذه الرسائل نافذةً له يبصر من خلالها حقيقة ذاته، ويتفهّم من خلالها تصرفاته وهفواته وخيباته، وطبيعة مشاعره.
وكانت لها نافذةٌ تبصر من خلالها النور، وتعبر فيها عن ذاتها، بالطريقة التي لا تجرأ فيها أن تعبّر عنها في العلن.
وهكذا كانت هذه الرسائل هي جسرُ التعارف بينهما، ولهما، يفهمان من خلالها الحياة بطريقة أخرى، ويغوصان في أعماق ذاتهما أكثر وأكثر.
في صبيحة يوم ماطر تتعرض ليلى لمشاكسة رفاق أمجد وهي في طريقها إلى قاعة المحاضرات، يُسقطون حقيبتها ويتقاذفونها فيما بينهم، ويتبادلون الضحكات وهي تجمع أغراضها المبعثرة من فوق الأرض المبللة، تمتد يدٌ مجهولة تعاونها، وحين ترفع عينيها تجد أمجد وهو يجثو على ركبتيه قبالتها، لم تتمالك نفسها من المفاجأة وبقيت يدها معلقة في الهواء، وما أن أكمل أمجد جمع أغراضها حتى توجه إلى رفقائه المشدوهين وانهال عليهم بكلمات التوبيخ والتقريع!
شكرته ليلى على موقفه، وهي تتلعثم خجلاً، مدّ أمجد يده لها قائلاً: هل تقبلينني صديقًا؟، محاولاً نجدتها من خجلها ورفع الحرج عنها.
ومنذ ذلك اليوم، افترق أمجد عن رفاقه، كانت هذه هي نقطة التحوّل في سلوك أمجد، كانت الشرارة التي طال انتظارها، كي يبدأ عملية التحوّل، من أمجد الأرعن، إلى أمجد المتعاطف والمتفهّم لمشاعره ومشاعر من حوله، كانت هذه الخطوة هي النتيجة الحتمية للرحلة التي خاضها وهو يعيد اكتشاف ذاته عبر رسائل ليلى.
وبدأت صفحة جديدة بين أمجد وصديقته الجديدة ليلى، بات يحدثها عن نفسه، وعن أحلامه ورحلته المتخبطة في الحياة، حدثها عن الفتاة الغامضة وعن رسائلها، حدثها عن رحلة اكتشاف الذات التي خاضها، وأخبرها بأنَّ هذه الفتاة هي وحدها التي عرّفته على حقيقته، أو بالأصح هي من قادته لفهم ذاته، هي التي أخرجت كل شيء جميل مدفون فيه، وساعدته كي يصبح شخصًا "أفضل"، قال لها إنَّ هذه الرسائل علمته أنَّ من يحب ليس هو الشخص الذي يقبل الآخر بنواقصه وعيوبه فقط، بل هو الشخص الذي يخرج أفضل ما فيه، ويدعوه دوماً لأن يكون جميلاً دون أن يشعر، ودون أن يطلق الأحكام، ويلقي المحاضرات، ويشعره بالنقص أو تأنيب الضمير، ودون أن يحاول تغييره رغماً عنه!
كانت سعادة ليلى على اتساعها، مدعاةً للأسى، وباتت تعيش في تناقض شائك لا يخلو من سخرية القدر، فعلى الرغم من سعادتها بكل تلك المشاعر التي يكنّها لها، والشعور بالعرفان والتقدير، إلا أنَّها في الوقت ذاته، تشعر بأنَّ هذه المشاعر لا تعنيها بشيء، بل تخصُّ تلك الفتاة الغامضة السريّة!
تعيش ليلى في تلك الحالة المتناقضة، وتستمر في لعب دور الصديقة، والحبيبة السرية، وكأنَّهما شخصيتان مستقلتان تماماً!
تستمر في كتابة الرسائل ليلاً، وزرعها خلسة في حقيبته نهارًا، والاستماع إلى أمجد وانطباعاته عن تلك الرسائل، بل وإسداء النصح له كصديقة محايدة!
سألته ذات يوم، لماذا لا تكتب لها؟ قال: لا أجيد الكتابة ولا أعرف ماذا أكتب، قالت: اكتب أي شيء يخطر على بالك، اكتب لها ما تقوله لي. ولكن أمجد لم يكتب شيئاً.
استمرت ليلى في خوفها من كشف حقيقتها، وعجزها عن مصارحة أمجد بمشاعرها خوفًا من أن تخسره، واستمر أمجد في الإدمان على رسائل الحب، التي باتت المتنفس الوحيد له في هذه الحياة.
وفي أحد الأيام، أخبرها أمجد أنَّه يريد أن يتكلم معها في موضوع مهم..
- لقد كتبت لها رسالة مساء أمس، ولكني أريد أن أقرأها لك قبل أن أدسها في حقيبتي.
تستغرب ليلى بعض الشيء وتشعر في تلك اللحظة بنوبة المتناقضات التي تغشاها كل مساء، تتحامل على نفسها وتقول: كلي آذان صاغية!
يقرأ أمجد عليها رسالته التي يطلب فيها من فتاته الغامضة، بأن تتوقف عن الكتابة له، ويشكرها على كل تلك المشاعر الإيجابية، وكل ذلك الحب الذي غمرته به، ويوضح لها بأنَّه قد قرّر أن يعيش واقعه، وأن يعيش حياته الطبيعية، خاتمًا رسالته بأنَّ قصة الحب هذه لا بدَّ وأن تترجم إلى الواقع، وأنَّ هذا الحب إذا كُتبت له الحياة فإنَّه لا بدَّ أن تتقاطع طريقهما يومًا ما، ولا بدّ له أن يتعرّف عليها، وأن يرشده قلبه إليها!
اغرورقت عينا ليلى بالدموع، ولم تقو على الكلام، صمت الكون في تلك اللحظة، ولم تعد تسمع سوى شهيقها وزفيرها، تراقب شفتي أمجد وهي تتحرك بلا صوت، وترصد الأشخاص حولها، وكأنَّهم شخوص مسرحية صامتة!
يمسك أمجد يدها، ويربت على كتفها:
- ما بكِ؟!
تصحو من حالة انعدام الوزن تلك، ترسم ابتسامة على وجنتيها المخضبتين بالدموع، هل هي دموع الفرح؟، أم ابتسامة الحزن؟، لا تدري، ولكنَّها تتوجه بسؤال خارج المألوف، تقول وهي تمدّ يدها له:
- هل تقبلني رفيقة أبديّة وصديقة صدوقةً لك؟
أدركت ليلى بفطنتها، أنَّها في اللحظة التي تكشف فيها لأمجد عن شخصية الفتاة الغامضة، سينهار كل شيء بينهما، فاختارت أن تكسب صداقة أمجد، وأن يبقى حبها حبيساً لدفاتر أشعارها!
يقبض أمجد على يدها، ويهزّها بشدة:
- بل توأم روحي!
في ذلك اليوم تسلّلت ليلى إلى حقيبة أمجد، ولكنَّها هذه المرة لم تضع رسالةً له، بل التقطت رسالته وزرعتها في حقيبتها، ودسّت آخر وردة قطفتها مكانها، كتذكار أخير!
ينهي أمجد وليلى دراستهما الجامعية وينخرطان في حياتهما المهنيّة، ولكنَّهما لا يفترقان أبدًا، يلتقيان ليتبادلا الحديث في كل شيء وأي شيء، يبوحان لبعضهما البعض بكل صغيرة وكبيرة في أعماقهما، وكأنَّهما نفسٌ واحدة تعيش في جسدين، نُفخت فيهما روح واحدة، لم يعرف أمجد هوية فتاتة السرية، كما أنَّ ليلى لم تخبره بمشاعر الحب المترعة في داخلها إلى آخر حياتها، وبقي هو يحنّ إلى حبيبته الأولى، تلك التي علّمته كيف يُحب!