معذرةً يا سيّدَ الألم والحريّة!

السيد نجم
قاص مصري
مع كلِّ صباحٍ جديد، منذ بداية مرضه، كان يبحثُ عن يومٍ آخر، عن غرفةٍ بلا أبواب ولا نوافذ.. بلا سقف. يحلم لو يسير فوق طريق أخرى غير التي وجد جسده عليها.
تمنى لو يعتنق دربًا يجهل الألم، فيه يسمع أصداءَ صوتِ خطواته عاليًّا، وأنفاسه رتيبة مستقرة مع صوت فكيه ولسانه يلوك جرعةَ ماء.. الماء الذي لم يتذوقه منذ بداية الوعكة.
آه.. يا لمذاق الماء! نعم للماء مذاقٌ، قالها ونظر إلى زائريه. بعد فترة دهشة صامتة أومأ بعضهم، وارتعشت جفون بعضهم للآخر.. قالوا معًا:
"نعم.. نعم، للماء لونٌ وطعمٌ ورائحة!"
خلال زيارته الأولى، اكتفى الطبيبُ المعالجُ بنظرته الباردة غير المبالية، لتؤكد ما صرح به لسانه:
-"سوف نفتح بطنك بنسبة سبعين في المائة، لعلنا نعرف سرَّ شللِ أمعائك ومعدتك، سر الانسداد المعوي الذي تشكو منه."
لما تعلقت عينا المسجّى في صمت بشفتي الرجل أكثر، سأله الطبيب إن كان قد أجرى عملية جراحيّة منذ فترة قريبة، فأومأ العليل، ووجد الطبيب ما يقوله:
-"أخشى ما أخشاه أن يعود الالتصاق ثانيةً وبسبب الجراحة الجديدة! "
فالتقط الهامدُ على سريره ومضةَ جبٍّ لا يعرفه ويخشاه.. لم يشأ أن يبوح بما راوده. لولا أنَّ الطبيب سأله عن نوع الجراحة السابقة.
عرف أنَّ مريضه لم يُصب في معارك أكتوبر 73، لكن بسببها.. حاصرت قواتُ العدو وحدته الطبيّة، نجحت في الوصول إليها بعد "الثغرة". فأسرع الجميع بحمل المصابين إلى السيارة "الزل" الوحيدة، أمروا السائق باجتياز مدقات جبل "عتاقة" بعيدًا عن الطريق الأسفلتي، وحتى مدينة السويس.. حيث المستشفى المركزي هناك.
وفورًا ترك الجميع أرضَ الوحدة الطبيّة، بعد إشاراتٍ كشفت عن قرب اقتحام القوات المعتدية لها.
عاد الجميعُ بعد اتفاقية فضِّ الاشتباك الثانية. كان العملُ شاقًّا في ترميم ما خربته قوات الاحتلال. سقط مغشيًّا عليه من شدة الألم، كان الألمُ بسبب "فتقٍ سري".. وأجروا له عمليةً جراحيّةً سريعة تحت ضوء الشمس وبين الأطلال.
لم يجد صاحبنا سببًا للبسمة التي تعلّقت بسحنة الطبيب المتابع لحديث الحرب والعملية الجراحيّة، كاد يسأله، لولا أنَّ الأول لحقه قائلاً:
- " دعنا نتابع الفحص.. ربما الجراحة الأولى أحدثت التصاقًا في أغشية البطن الداخلية"
إلا أن يموت وحيدًا، ذاك الذي يأتي من جهات شتى.. تحت رذاذ المطر وصفير البرد ووهج الشمس.. وفوق سرير العجز.
يوم ارتدى "بيادة" المجند مع زملاء كليته في زمن الحرب الأخيرة بعد النكسة، لم تطارده خفافيش الجب اللئيمة ليلاً، ولا أشواك الصبار.
تذكر أيام تجنيده الأولى، كانوا يمزحون بالموت وعليه، فنشروا نعي "سليم"، زميلهم (الراقد بينهم) في الجريدة الصباحية! لم يهاب أحدهم الجبَّ، وضحكوا لليلة كاملة، حتى وهم داخل محبسهم في سجن الوحدة، عقابًا لهم وتنفيذًا لأوامر قائد مركز تدريب الخدمات الطبية، وقد شاركهم الضحك فيما بعد قائلاً:
- "تمزحون بالموت.. الموت!!".
احتواه الأرقُ وشغل نفسه بالأسئلة لساعاتٍ طويلة. سأل أمعاءه العاجزة أن تلين، وربَّه أن يستجيب لدعاء الداعين، تلك الأدعية التي التقطها بأذنيه من بعضهم فور رؤيتهم له مسجّيًا في هدوء، والتقطها بعينيه في نظرات بعضهم الآخر.
لولا تلك البحوث المتتالية الكثيرة.. من أشعة مقطعيّة، ومنظار قولون، وأشعة تقليدية، وغيرها. لولاها لأعتقد أنَّ الهلاك أقرب مما يتوقع. كلما بدأ فحصًا جديدًا عاوده الأمل.
شعر وكأنَّه يحارب الآتي، وخلف عتبة الغرفة تنام جنوده البائسة...

ما كان يعرف عن جنوده إلا المشاكسة، غير مبالين. صوت انفجار هنا، وأزيز طائرة هناك، ودويّ مدفع بعيد، وآهات لا تنقطع في العنبر الذي يقوم على تمريض رواده بالمستشفى الميداني العسكري في زمن الحرب.. عند الكيلو 105 طريق القاهرة-السويس.
مع بداية المعارك صام الجنود والأطباء، المصابون والمعالجون.. بغيةَ ملاقاة ربهم تائبين، وفي فترة تالية وقد حاصرتهم القوات الإسرائيليّة بعد ثغرة "الدفرسوار"، نجحت في الوصول إلى طريق السويس الإسفلتي.
كان في البداية يتفاخر بقدرته على الصوم وأنَّه يعاف الطعام والشراب.. غير مجهد مع مشقة العمل ليل نهار، ومع آهات المصابين العائدين من أرض المعركة شرق قناة السويس بعد عبورهم القناة.
في ذاك اليوم البعيد، اليوم الخامس عشر من بداية المعارك انتابته وخزةٌ في أمعائه للمرة الأولى، لم يكن يستشعرها من قبل. يوم أن صدمه مشهد علمهم أمام حدود وحدته عندما لمح الخطّين الزرقاوين يحتضنا نجمةَ داود السداسيّة. تذكّر شعارهم: من النيل إلى الفرات!! في تلك الأيام البعيدة لم يشعر بالحصار.. غرفته الآن، موصدةُ الأبوابِ والنوافذ؛ هي الحصار.

راح المريضُ ينظر فيما حوله جاحظَ العينين، لم تستطع زوجته الردَّ على سؤاله:
- " شعوري بالألم، يعني عندي أنَّ هناك أملاً في شفائي..؟"
انقضت خمسةُ أيامٍ بلا طعام ولا شراب، مرشوقًا في سريره، معلقًا في كيس جمع إفرازات المعدة، وزجاجات المحاليل؟!
على غير توقع نظر بطرف عينيه نحوها.. زوجته التي تعلّقت بالصمت أكثر من المعتاد، فشعر بالندم. يبدو أنَّه أصبح عبئًا تنوء عن حمله، يعرف عنها قدرتها الفائقة على مداراة مشاعرها إلى غير حقيقتها. يعلو صوتها بالضحك مرةً، وبالصراخ في وجه الممرضات مرةً أخرى.. ودائمًا تبدو قوية أكثر من اللازم!

انقطعت صلة جماعة الرقباء الطبيين في المستشفى الميداني ليومين متتاليين منذ بدء المعركة. منذ اليوم الأول لتجنيدهم معًا، لم يفترقوا إلا خلال أيام اﻹجازات. مع بداية المعارك وهب الجميع نفسه لدشمته، يقوم بالعمل على رأس مجموعة الممرضين الجنود.
ولما كان المصابون قلةً، والعزلة مرة، ملوا محبسهم الاختياري. مع اليوم الثالث لبّوا نداء زميلهم "بطرس" الذي شقَّ هدوءَ المغربيّة، وصاح وسط الدشم قائلا:
"ميعاد الرضعة يا ولاد الكلب!".
خرجوا إليه مبتسمين وقد عرفوا جميعًا أنَّ زميلهم يقصدهم. دخلوا دشمته، تناولوا ما أعدّه من طعام. أكل معهم وقد صام يومه عفوًا أو جبرًا، فقط حقّق رغبته منذ أن التقوا للمرة الأولى بمركز تدريب الخدمات الطبية منذ سنوات.. ﺇن تأكل مجموعة الرقباء الطبيين معًا، حتى أيام الحرب!
حديثُ المسجّى على سريره لزوجته الصامتة عن مذاق الطعام وحلاوته في زمن الحرب، وهب هواءَ الغرفة نسمةً ندية، معبأ بكل روائح الأطعمة المحرمة عليه، فأصبح الجو منعشًا، وإلا لماذا علا صوته، وبدت بشرته هكذا مشرقة؟!
وافقت السلطات المركزيّة على دعم الحكومة الفيدرالية وإمدادها بكل الإمكانات المناسبة للقبض على السفاح الغامض في "واشنطن".
"بوش" رئيس الولايات المتحدة في تصريح له: "سوف نسقط النظام الحاكم في العراق وعلى رأسه صدام حسين.. إن لم يوافق على عودة المفتشين الدوليين، وإن وافق".
أحدهم أعلن أنَّ متعهد حفلات "أوبرا عايدة" لم يهرب، بدليل أنَّه ترك مدير أعماله في القاهرة، كما أعلن أنَّ مدير الأوبرا سدّد كلَّ مستحقات الفنانين من خزانة الأوبرا.

تعثّر ذهنه، لم يجد تفسيرًا للألم الذي لم يبرحه مع كلِّ محاولات الطبيب الكبير. آخرها قالها صريحةً:
- "سوف أنتهي من عمل منظار القولون، وهو الذي سيوضح الأمر كله بعد أخذ عينات لفحصها باثولوجيًّا."
أضاف مبتسمًا بعدها:
- "وسوف نحدّد الجزء الذي سنقطعه في العملية الجراحيّة.. إن كان قصيرًا أو طويلاً!"
عرف أنَّهم يبحثون عن ورم خبيث في أحشائه، فقال في نفسه:
-"ما زالت التفاصيلُ بعيدةً.. مازالت الحربُ مستمرةً!!"