فتحي الضمور
قاص أردني
لم تكن أمنية الزواج من الشّاب الوسيم، محمد الريحاوي حكراً على واحدة من فتيات بلدتي "كفرعانة" الواقعة شرق مدينة يافا، لفرط جماله ووسامته. وبالرغم من طلاقي المبكّر، وكثرة وافرة من جميلات البلدة، إلا أنَّني كنت واحدة ممّن يحلمن بتلك الأمنية.
سرعان ما تبددت أمنيات الجميلات، بعد أن توالت الأنباء عن زحف قوات "الهاغاناه"، للاستيلاء على البلدة، وعزل عروس المتوسط عن باقي البلدات المحيطة بها، من أجل الاستيلاء عليها.
كنتُ أجهل أنّ محمد الريحاوي، الذي أكبره بسنتين، يُخفي في ظلال جماله، كلّ هذه الشجاعة. لقد فاجأ البلدة بأكملها عندما جمع أهلها بعد صلاة الجمعة، ولم يكن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره، مرتدياً البدلة العسكرية "الفوتيك" المجرّدة من أيّ رتبة، ودعاهم إلى قتال عصابة "الإرغون الجبهي"، والتصدي لهم.
بينما كانت البلدة في حالة ترقّب وفزع، كان أخي ينادي بملءِ صوته: يا مريم!. أسرعت إليه وقد بدت عليه ابتسامة لم أعهدها فيه من قبل، وقال: لقد طلب يدكِ مني أشجع شاب في البلدة. قلت وقلبي يرتجف: من؟ قال: محمد الريحاوي. أحسست أنَّ قلبي توقف عن النبض، وأنّي أتهاوى على الأرض كورقة توت خريفيّة، لكنّني سرعان ما استعدتُ رشدي أمام جبروت أخي الذي لا تعجبه ردود أفعالي، منذ أن انفصلت عن زوجي.
كيف أنّه فكّر بي، وأنا مطلّقة؟ هل بحقّ أنا أجمل فتيات البلدة؟ هل أنا حلمه، كما هو أمنيتي؟ كلّ هذه التساؤلات تلاشت عندما جاء إلى بيت أخي، قائلاً في أقلّ من دقيقة خلسةً بيني وبينه: "من زمان بحبك ومن زمان.. بس أبوي الله يرحمه اللي ما كان موافق علشان كان يكره أخوكي". وقفتُ أمام هيبته وقوامه كرماد سيجارة توشك أنْ تتهاوى على الأرض. لم أعدْ أريد أن أعرف أيّ شيءٍ، ولم أسمع أيّ شيء بعدما انصهر قلبي من كلمته "بحبك".
جرت العادة أنّ بلدات الساحل تشارك جاراتها في الأفراح والأتراح، إلا أنّ العزلة التي فرضتها تلك العصابة، منعتهم من ذلك. أمَّا أنا فانتهيت من زينتي له، ولم أصدق بعد أنّني سأكون الليلة بين يديه.
أدخلني أهلي وأقاربي بيته، وذهبوا للعرس. وجلست أنتظر أنّ يزفّه أهل البلدة إليّ. وما أن سمعتهم على باب البيت يتغنون بأهزوجة "تهيا يا تخت تهيا" حتّى بدأتُ أرتجف وكاد نفسي ينقطع.
دخل بطل الساحل البيت، وغمرني بكلّ أسباب الحياة بضمّة واحدة. لكنّ أزيز الرصاص أفسد عليّ فرحتي؛ فلقد دخل اليهود "كفرعانة" يقتلون كلّ ما يتحرّك فيها. فاستُشهد من استُشهد وهرب من هرب، وتحصّن الباقون في بيوتهم. اتّسعت رقعة الدماء، ولم يبقَ سوى أن يفرّ الناس من الموت إلى الموت.
سبعة أشهر أنا وزوجي محمد في البيت، يخرج فقط إمّا ليقتل أحدهم، أو يأتي لنا بقوت لا يكفي ليومين.
قرّر –بعد عناء طويل- أن يلوذ بي وبطفلي الذي أحمله في أحشائي إلى أريحا. ثمّ يعود إلى مواصلة القتال مع الثوّار. خرجنا مع الكثير من أهل البلدة كلّ حسب وجهته التي يريد.
في طريقنا إلى أريحا سقطتُ أرضاً في حالة ولادة تامة. وضعني تحت شجرة عارية أوراقها مهيب شموخها. وقبل أن يذهب لإحضار بعض النسوة لمساعدتي على الولادة، أخرج من جيبه رسالة، وقال: " هاي كتبتها ليلة دخلتنا.. ما تفتحيها قبل ما تخلفي".
تأخرّ كثيراً في العودة، وفي اللحظة التي أطلق طفلي صرخته الأولى، جاءت مجموعة من أهالي البلدة بجسد محمد ودمه يروي أرضه التي أقسم أن لا يدخلها الغرباء إلا على جثته. حملوني وطفلي وحبيبي على عربة الاغتراب والتهجير، حتى وصلنا أريحا، حيث تمّ دفنه هناك.
بعد أنْ استقرّ بنا المقام في أريحا، أخرجت رسالته التي أخفيتها، فتحتها وقرأت: "إذا الله رزقني بنت سميها فلسطين، وإذا رزقني ولد سميه أحمد العربي".
انتقلنا إلى رام الله، وكبر أحمد العربيّ على دم أبيه وبطولاته. وتزوّج فيما بعد من فتاة السّاحل زينب. انطلقت الانتفاضة الفلسطينيّة في العام 1987 ضد الصهاينة. استقيظ أحمد على صوت الرصاص، نهض من فراشه وكأنّه يحلم بأبيه. لبس سريعاً وقال لي بحنيّة: "أمّي أودعتك زوجتي وطفلي الذي ينمو في أحشائها، وهذه رسالة لا تقرأيها إلا بعد أن أعود. استحضرت أباه ودمه وقتها. ضممته إليّ بحرقة وتوسلته أن لا يذهب. قال: أنتِ يا أماه من تمنعي ولدك للمضي نحو الشهادة؟! ماذا لو لم يكن أبوك وأخوك وزوجك شهداء؟. نظرت إليه وكأنّ وجه أبيه في عينيه، وذهب.
جاء المساء ولم يأتِ أحمد، بدأت أشتمّ رائحة الشهادة والرحيل من جديد، دم أبيه وخاله. رفعت يديّ إلى السماء ودعوت ربي: "يا رب إنَّك تعلم فجيعتي ومصابي بأخي وزوجي، يا رب... بجاه حبيبك محمد ترجّع أحمد ابني سالمًا يا رب". وما إنْ مسحت دموعي التي بلّلت أرض صلاتي ودعائي، حتّى حضر "العريس" لكنّه لم يأتِ وحده كانت جموع الناس تزفّه على أكتافهم وهم يرتّلون الأهزوجه ذاتها "والشهيد حبيب الله". فتحت الباب على أصواتهم، وهجمت عليه أقبّل قدميه وأعفّر وجهي بثيابه، بدمه، برائحته الزكيّة، وأنحب تارةً وأزغرد تارةً أخرى، وأقول: "خذني معك إلى أبيك وأخي خذني". حتى عندما قلت: "ها هي رسالتك يا ولدي ما زالت في جيبي"، بتّ مغشيّةً عليّ ثلاثة أيام، ما بين يقظة ونوم.
استعدتُ رشدي على صوت وصراخ رضيعة في البيت. كانت بنت أحمد، التي جاءت إلى هذه الدنيا على رحيل أبيها، كما جاء هو على رحيل أبيه. تذكرت رسالته فتحتها، جاء فيها: " أمّي الحبيبة، أشعر أنّ طفلةً تنمو في أحشاء زوجتي، فإنْ أخطأت وجاء الولد، سمّه كما تشائين، وإنْ أصبتُ، وسأصيب، فسمّها يافا.
ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم وبيتنا والحيّ والحارة والمدينة تنادي يافا!