أحمد فرّاس الطراونة
كاتب أردني
كنتُ حينها أقتفي أثرَ أبي لأعبُرَ زقاقَ إحدى المدنِ مبتورة القدم، تخيّلت ملاكاً صغيراً يلبس معطفاً مزركشاً ويجلس على حافّة مدرّج عتيق، يحمل معه فانوساً من الطين قد نفد ضَوؤُه، يرتّل بصوتٍ نائس لجوقة تردّد خلفه وهي تجلس على الشرفات بلا ملامح.
أمسكتُ بيد والدي، كنت أريد أن أسألَه عن بعض الكلمات التي جاءت مغبَرّة ومتعبة من فمِ هذا الملاك، إلا أنَّ سؤالاً آخرَ قفزَ مُلِحّاً عليّ بعد أن لمستُ يده: لماذا يدُك خشنة بهذا الشكل؟
لم تكن الابتسامةُ التي علّقها على حافّة سؤالي قد منحَتني الإجابة، لكنَّها سرقتْ مني المعرفة، وجعلتني أركضُ خلفَ وهمٍ من الأسئلة، أوّلُها: هل ستكون إجابتُه هي نفسُها لو كنت سألتُه السؤالَ الأول؟
حين تصيبكَ الدهشة الأولى يولَد السؤالُ من رحم الفقر، الفقر بالمعرفة، يولَد على بساطٍ واسع من الخيال، فتبدأ بالتعبير عن وعيك تحتَ سوطِ السؤال الملِحّ، فيكون هو خُطاك التي تأخُذك إلى حافّة النهر، وهنا يبدأ الوهمُ بحيازة المعرفة جسراً لتعبُرَ به إلى الضفة الأخرى، أو ضفّة الوعي.
"الولدُ سرُّ أبيه"، والدهشةُ سرُّ سؤالِها، والغموضُ مساحةٌ مرعبة تضيق كلّما اتسعت الرغبة بالاندهاش. هكذا كانت الخطوةُ الأولى إلى الكتابة، حين بسطتُ يدي لها فقبضتُ كفَّها متعالية، فتحايلتُ عليها ورصفتُ الطريق ببعض الإجابات، فتمنّعتْ.
في البداية لم أكن أعرفُ ما أريد، أصابتني لعنةُ "سيزيف"، حملتُ صرّةٌ من الحروف غير المكتملة لأصنعَ منها جملةً واحدةً، حملتُها حتى آخرِ الجدار المعلّق على فوّهة الممكن، لكنَّها سقطتْ، فعدتُ أدراجي ألملمُها، فسقطتْ، فحاولت أن أحتالَ على الجملة، رمّمتُها، أعدتُ تقسيمَ ملامحها كي تقرأ، لكنَّها سقطتْ..
سقطتُ مرة أخرى في شرْكِ المعرفة، فعدتُ أدراجي لأعرف، ولم أستطع، حينها كرهتُ الحكايات...كرهتُ الخداع من أجل وضوحِ الحقيقة، وأدركتُ حينها أنّ الحقيقةَ التي تتكئ على الخداع لتكون واضحةً، ليستْ سوى خداع..
لملمتُ بعضي حينَها، حاولتُ أن أثقبَ ثقباً آخرَ في ناي ذلك الفتى الموجوع، لعلّني أساعدُ في فهمِ ذلك الأنين الذي اختفى، لم أستطع، كانت رائحةُ الألم مرعبة، تركتُ النايَ بلا ثقوب..
في لحظةِ الخوف الأولى، حين كانت خُطاي بلا حذاء أُولى الأبجديات، وأولَ الوشم على ظاهرِ كفِّ الأرض التي حضَنتْني شقيّاً وخفّفتْ من بؤسي. حلمتُ للمرة الأولى بقلمٍ.. قلم يسيرُ مثلي، بلا حذاء، سمعتُه يتنفّس بعمق، بعث فيَّ السكينةَ حينها، وحين ثملتُ بأسئلتي "الأنثروبومورفية" تخلّقَ لي القلمُ عصا تستفزُّ فيّ البصيرة، وتشعلُ فيّ غوايةَ الحكاية، حتى صارت الخرابيشُ الأولى مساراتِ طريق وعلائمَ وعي...
وحين أدركتُ لاحقاً أنَّ الكتابة تعبّر عن الوعي، كما هي أداةٌ للحوار معه وإنتاجه، وشمتُ على يدي أولى الروايات، تلك التي نقضتُ فيها غَزْلي مرّات ومرّات كي أعيدَ غزلَهُ على مِغزلٍ من طين لم يوقِدْ هامان نارَهُ، فتجلَّت الحكاية وفضَحت سرّي، وكنتُ في جوف كلّ الذين صرخوا بحثاً عن حرية، وكنت أموت مع كلّ مَن يموت، وتدلّتْ رقبتي على مِقصلةٍ يختفي في جوفها الصراخ، فخفتُ حينها، وتذكرتُ كلَّ الذين أحاطت برقابهم تلك المقصلةُ، سمعتُ صراخَهم دفعة واحدة، صرخة الحرية التي شَقّت من "وادي الصفصافة" طريقَها إلى السماء.
يومَها أخرجتُ الناي من جيبي وتفحّصتُ الثقوبَ مرّة أخرى، لم أجدها، كان النايُ حينَها قصبةً جفّت من قلّة الأنفاس، قصبة تيبّستْ من فرط الحنين بلا أنين، التوى عنقُها حتى كادت تبدو كأنَّها معلّقةٌ على حبل موتٍ هو الآخر جريح، فخرمتُ أولَ ثقبٍ برأس القلم ثم الثقب الثاني، سمعتُ صوتاً شفيفاً ينادي، كمواء قطّ في زاويةٍ موحشة من الحياة، ينادي: لقد غزلتَ ذاتَك المرهونةَ ثم فككتَها في "وادي الصفصافة"، كنتَ رهينَ الحلم، ورهينَ الخيال الموجِع، وقد حققتَ ما تريد، أسمعتَ صرخاتِ الذين سروا في ليلٍ مظلم لكلّ مَن يريد أن يسمع، فهل لكَ أن تعرفَ أنّ ما كتبْتَهُ خيالٌ ستجرحُه المعرفة حين تسقط في شرِكها.
لم أكنْ أدركُ ما يقول الفتى تماماً، كلّ ما سمعتُه فقط هو صوتُ نايٍ مبحوح.. غرستُ القلمَ مرةً أخرى في الثقب الثالث، نفختُ فيه فتغيّرَ صوتُ المواء، استندَ فيّ القِطّ الجريحُ وعاد يخربشُ فوق صفحةِ الروح وأنا أكتب، وأكتب، حتى اكتشفتُ أن ما أكتبه وطنٌ يبحث عن الانفلات..
كتبتُ في الخرابيش التالية سرّاً آخرَ في وجهٍ شاحب يبحثُ عن لقمةِ الخبز، أو لهفةٍ في ثنايا عينِ أُمٍّ تبحث عن حلمِ وليدها الذي سار هو الآخرُ يتتبعُ أنينَ النّاي في القصبات..
كتبتُ صورةَ الأخت في مرايا الخذلان وهي تمشّطُ شَعرها في سرِّها خوفاً من صرخةٍ بلا زمان ولا مكان تفورُ في وجهها رغم كلّ الحنين..
كتبتُ قلبَ الأخ الذي يجرح قلبَ أخيه بلا مبالاة.. كتبتُ حلمي وهو يتبخّر باحثاً عن الحقيقة في زقاقٍ مليء بالمرايا المشظّاة، لكن أيّ حقيقة؟ وفي أيّ المرايا أو العيون تكتمل الحقيقة؟ فما أراه أنا حقيقةً يراه الآخرون مجردَ وهم، ومنذ ذلك الحين والليلُ يخطفُ الحقيقةَ حين يطفئُ المرايا، والنهارُ يسحقُ الرعاةَ تحت شمسِه بلا أدنى رحمة، تلك هي الـ"خبز والشاي".. وجبةُ الإفلاس على كل التلال، وجبةُ الفقر رغم كل الغلال.
واليوم يتدحرج الحرفُ كسيرَ الساقين بلا أيّ جبيرة، لا يعرف أن ينحاز، يغرق أحياناً في وهمِ المعرفة الزائف، لكنَّه سرعان ما يكتشفُ ذلك الوهم، سرعان ما يكتشفُ أنّ كل المعرفة ما هي إلّا مجرد طريق لصناعة الخيال، واستجرار الدمع الرقيق أمام ماكينة القسوة.
ذلك هو مشروعُ الخيبات والنكسات، طريق الكتابة الموحش، المفضي حتماً إلى لا معرفة، المفضي إلى ساحةٍ واسعة من التشتُّت والتبعثُر والتفكُّك بين وهم المعرفة وسراب الخيال، وعند الحافة التي قد لا نصلُ إليها أحياناً نسأل: هل جُرحكَ هو سببُ هذا التجلّي الرقيق؟، أم هي الشقوقُ التي لاحتْ لك في يدِ والدك أولَ الطريق؟ أم إنَّك بلا جراح لكنَّك تنحازُ إلى جراح الآخرين كي تعتصرَها ألماً وتمارسَ فيها الغواية؟
ويَبرز القولُ الفصل: إنّ من لا جُرحَ له لا سطوةَ له على الحرف، وإنّ مَن لا جُرحَ له يمتطيه الحرف ويسوقه حيث شهوتُه وغرورُه، فالجرح لجامُ أحصنةِ الحروف، يسوقها إلى حيث معركة الوعي والمعرفة الناضجة، والتي غالباً ما تنتكس أمامَ أسراب الخيال لتعودَ إلى القتال من جديد، في معركةٍ أو دوامة من الجدل والصراع الذي لا نهاية له.
فأيّهما أَولى أن نؤمنَ به نحن كتبَة "سيزيف"؟ خيالُه بأن يكون بجوارِ الإله، أم ما يكتشفُ من معرفةٍ في طريق صعودهِ إلى العذاب كلَّ مرة؟