حاوره: محمود منير
كاتب وصحافي أردني
mahmoudmunir@gmail.com
نحاور الشاعر والناقد والباحث اللبناني شربل داغر حول حالة مركّبة من الاستعصاء تواجه المثقف العربي؛ تفريغ السلطات العربيّة لجميع القوى الحيّة داخل مجتمعاتها، وانغماس متزايد على مستوى المنطقة بالانغلاق والبحث عن الهويّات الفرعيّة، وانسداد دولي أمام أيّ احتماليّة للتَّغيير، بل ربّما نحن نعيش أقصى حالات شراسة الأنظمة الأبويّة الوصائيّة المعتمدة على هرميّة تسلسليّة في احتكار السلطة والمعرفة في وجه أخصامها.
تُلحُّ العديد من التساؤلات والمراجعات على وقع الصراعات الأهلية الدموية في أكثر من بلدٍ عربي، وانكشاف بقية الدول العربية أمام إخفاقات مدوّية في التنمية، وفي الحفاظ على سيادتها، وهزيمتها في مواجهة الاحتلال الصهيوني؛ حربًا وتفاوضًا، واندلاع موجة ثانية من الاحتجاجات في لبنان والعراق والجزائر والسودان ما تزال تداعياتها مفتوحة، وتصطدم بحائط مسدود لا آفاق متوقّعة لاختراقه.
ويرى صاحب كتاب "الفن والشرق.. الملكية والمعنى في التداول" أنّ وعي المثقف العربي لواقعه، ولماضيه القريب أو البعيد، يبقى ضعيفًا، وهو ينصرف، في أحوال كثيرة، إلى إسقاطات أيديولوجية أو مذهبية في الوعي والتعقل.
حاز داغر على شهادتي الدكتوراه في الآداب العربيّة وفي جماليّات الفنون، وله عدّة مجاميع شعريّة منها "القصيدة لمن يشتهيها" و"حاطب ليل" و"فتات البياض"، كما صدرت له روايات مثل "شهوة الترجمان" و"ابنة بونابرت المصرية" و"بدل من ضائع"، إلى جانب كتب "العربية والتمدن" و"ما الجمالية؟"، و"مذاهب الحسن: قراءة معجمية- تاريخ للفنون في العربية" وغيرها.
• بعد الانتفاضات الشعبية العربية عام 2011، برز التساؤل من جديد عن دور المثقف في التغيير، ومدى فاعليّته في المجتمعات العربية بعد الاستقلال وحتى اليوم، وقدرته على التحرّر من قبضة السلطة، لتنتهي العشرية الأخيرة إلى مزيد من الإلحاق والخضوع لهذا المثقف وانكفائه ليعبّر عن أحد الأطراف المتصارعة في عدد من البلدان العربية، وتبريره لتموضعها ضمن تحالفات إقليمية في نزاعات بلا طائل... هل تبدو هذه الخلاصة متشائمة؟ وما الذي حدث لمكانة المثقف ودوره خلال العقد الماضي؟ وهل من أفق أمام المثقف العربي؟
= هذه الخلاصة ليست متشائمة، وإن كنتُ لا أشاركها في مجموعها. هي ترسمُ واقعَ حال، ما يصيب أبعد من المثقف نفسه، وهو أحوال البلدان العربية نفسها. والأشد مفارقة، في هذا الأمر، هو أنَّ ما كان يُسمى "الأنظمة التقدميّة" فقدَ المتبقي من شرعيّة -محدودة بأيّ حال- لحكوماته، عدا أنه (سواء في سورية أو ليبيا، أو مصر في عهد مبارك) تحوَّل إلى حكم وراثي... فيما لا يقوى الحزب الحاكم في الجزائر على تجديد "طاقمه" السياسي... بالمقابل الأنظمة الأخرى، التي كانت توصف بالرجعيّة وغيرها، تبدو بشرعيتها التقليدية الموروثة أشد أمنًا وأكثر استقرارًا، وتتطلّع إلى أفق أكثر وضوحًا من غيرها.
هذا يعني -في خلاصة أولى- أنَّ الحكومات "الثورية" (الناشئة واقعًا عن انقلابات عسكرية) لم تنعم، ولم تحسن إنتاج "شرعيّة" ما، مستقرة، ومرضي عنها من قبل قوى المجتمع. وتكشَّفت، في العشرية الأخيرة، معادلة قاسية: الاستبداد ونهبُ ميزانيات البلاد وخيراتها، ابتداءً من قمة السلطة وبطانتها، أو الحرب الأهلية.
في هذه المعمعة، المفتوحة، دور المثقف محدود ومعدود، على الرغم من الضجيج العالي في المواقف والآراء والكتب.
في واقع الأمر، دارَ التفكر والسّجال، منذ مطلع القرن التاسع عشر، في أوساط المثقفين، حول مسائل الدين والدستور وأحوال المجتمع والتربية والأدب والثقافة وغيرها. واشتملت التصورات والمقترحات على بعض مشروعات في الوحدة (الإسلامية خصوصًا)، والتقدم، والتجديد، والحكم، دون أن تبلغ تنظيمات جديدة، سياسية وغيرها، لقوى في المجتمع. بدا المثقف -وهو الكاتب عمومًا- يتحدَّث في الإصلاح والبناء لكنه كان يبني خصوصًا موقعًا له. هذا ما تمثل خصوصًا في قيام دورٍ صريحٍ لرجل الدين، في ظلِّ السلطان، أو في الانفصال عنه (الكواكبي)، أو في بناء سلطة مرجعيّة (محمد عبده)، ما لم يؤدِّ، في جميع الأحوال، إلى تنظيم قوى المجتمع وفعاليّتها. وما بدأ بالتشكل في أحزاب، في ظل الاستعمار واقعًا، أتى، في أحوال عديدة، اجتماعًا حول "زعيم"، أو حول أيديولوجيا ذات شروط ثقافيّة وأيديولوجيّة في المقام الأوَّل. هذا ما جعل المثقف حاضرًا، إثر رجل الدين ومعه، دون أن تبلغ المشروعات المختلفة مسألة تنظيم قوى المجتمع، وإمكان تبلور تشكلات فيه، سياسية وأيديولوجية. هذا ما جعل الضابط الانقلابي يطيح بعجلة مسار المثقفين، أصحاب الدعاوى، وما جعله يسعى -في المقام الأول- إلى تقييد المثقفين بالسجن والرقابة (كما يتَّضح في تجربة عبدالناصر وغيره).
لهذا يمكن القول إنَّ معوّقات الشرعية والتقدُّم -المتمادية والمتبدِّلة في بعض أوجهها وأحوالها- ما تزال راسخة في "البنية العميقة" (إذا جاز القول)، في قاع المجتمعات، دون تغييرات ممكنة. وما يزال الاحتباس سائدًا، لقوى المجتمع، وقبل المثقف نفسه، وهو ما لا تساعد التحولات الاقتصادية (في تشكلاتها الاجتماعية) في إحداثه، هي الأخرى.
• مرة أخرى، نزلت الجماهير في الجزائر والسودان ولبنان والعراق عام 2019، في موجة ثانية من الهبّات الشعبية العربية، وربما بزخم جماهيري أكبر، لكنها اصطدمت بجدار من الاستعصاء؛ مجتمعات تمّ تجريفها طوال عقود من بناها المدنيّة، وأنظمة تسلطيّة تقاتل بشراسة للبقاء على الرغم من انتهاء صلاحيّتها، وعوامل دوليّة تحول دون تغيير جذري. لماذا هذا الانفصام التام أو القطيعة المطلقة بين المثقف ومجتمعه وجماعته وطبقته؟ هل غدا المثقف كائنًا من ورق، ولا حضور لأفكاره ومقارباته في الواقع؟
= أسميتُ، سابقًا، الربيع العربي "الحَراك"؛ وهو ما أحافظ على تسميته، إذ أتت الوقائع، أو "الهبّات" (وهو تعبير مناسب)، لتؤكد أنَّ أحوال مجتمعاتنا ما تزال تفرز وتبلور دفعات ودفعات من رحم التفاعلات في هذه البنية العميقة. وما اتَّضح، مؤخَّرًا، هو أنها موجات أكثر اتساعًا، وأكثر قربًا من تناول السياسة نفسها. والموجة هذه -وإن انكفأت حاليًا- فهي قابلة للتجدُّد والانطلاق من جديد. هذا ما يشير إلى تواصل، بل إلى شيء من التراكم الإيجابي، إذا صحَّ القول. غير أنه مسار غير قابل لإحداث نقلات أكيدة... ما خلا التجربة السودانية، التي تحتاج إلى متابعة جديرة بالفحص، إذ إنّها تمثل نقلة لا نجدها بعدُ في جميع التجارب الأخرى.
فالانقسامات العامودية -ومنها مسألة الهويّة المتعيّنة خصوصًا في مذهب، أو التكوكبات "الجهوية" أو "المناطقية"، كما في ليبيا- ما تزال تتحكَّم بالكثير من الانشدادات والتطلعات في أوساط "شبابية" خصوصًا، لا تمتلك -في أحوال عديدة- غير صعوبات عيشها ورزقها وغير توثُّبها إلى التغيير. لا يحتاج المتابع إلى درس شديد لكي يتحقق من الفشل المتفاقم، ومن النهب المتعاظم لموارد أكثر من بلد، ومن قيام "كيانات" و"أحزاب" أقوى تحكُّمًا بالسياسات من مؤسسات الدولة نفسها. هذا ما يمكن التحقق منه في دعوات أو "حنين" بعضهم إلى عهد الديكتاتوريات البائد: ما كان يشبه قيام "الدولة" فيها، كان انتظام عمل "السلطة" واقعًا، فيما يتمُّ، حاليًا، إسقاط الدولة، و"تفريغ" السلطة من قواها وطواقمها الإدارية، وربّما "الخبيرة"، لصالح المتنفذين وصغار الكَسَبة من العنف الأهلي...
الحراك قائم، ولو توقَّف. مستديم، وإنْ يشهد حاليًّا فترة ركود. فالحكومات، بما فيها ذات الموارد الضخمة، لم تعُد قادرة على البقاء والاستمرار إلا بالقمع، أو بخطاب "هَلْوَسي" و"خرافي" حول الهويّة والدين "الصحيح"... لهذا أمَدُ الحراك مفتوح، لكنه -على ما أرى- لن يكون منتجًا إلا بالقدر الذي يتعيّن في صورة مزيدة في السياسة، بمعانيها الدستورية والشرعية والديمقراطية، المشتملة على تشكُّلات اجتماعية واسعة، وقوى أميل إلى التنظيم منها إلى الانتشار المتناثر...
• لطالما تساءل بعضهم عن عدم وجود مراجعة حقيقية لهزيمتنا/ هزائمنا العربية، أسوة بشعوب عاشت انحطاط أكبر لكنَّ مثقفها استطاع أنْ يواجه هزيمته ويفكّر ويساهم في التخلّص منها، تحضرني هنا نماذج مثل روسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى ثورة أكتوبر، أو ألمانيا واليابان بعد الحرب الكونية الثانية. لماذا يبدو المثقف العربي حالة اسثنائية في استلابه للهزيمة، أهي أزمة وعي أم أزمة سلطة، أم ماذا؟
= لا أريد التوقف عند أحوال مجتمعات أخرى، ولا إجراء مقارنات بين أحوالنا وأحوالها، إذ لا تفيد بالضرورة، وإنْ يميل المثقف إليها، خاصة وأنَّ ما يحرِّكه، في المقام الأوَّل، يتعيَّن في الوعي، في الإدراك، في التثقف، في المقارنات واستخلاص العبر من التاريخ وأحوال المجتمعات.
ما يفتقر إليه المثقف، في نطاق الفحص والوعي للمشاكل المتراكمة في هذا التاريخ، هو النَّظر التاريخي (والاجتماعي حكمًا) إلى هذه الأحوال. ما نجح فيه ابن خلدون، في أيامه -وهي أيام بل عهودُ تراجعِ السلطان في اختصار- أي استخلاص أسباب بناء الدولة، و"العصبية" وغيرها من أحوال العمران والصناعات، لا يتوافر للمثقف العربي اليوم عن أحوال مجتمعاته، وعن مصاعب تقدُّمها. فكثير من هذه المسائل لم تنعم بعدُ -عند المثقف، في دائرة الفكر والتأليف والوعي- بأطر مناسبة في النَّظر، ولا بمفاهيم فاهمة لاشتغال السياسة، ولأحوال المجتمعات... وهو ما يتحقق منه المتابع إذ يلحظ أنَّ المساعي التاريخية، أو الاجتماعية، أو السياسية، معدودة، وهي -إن توافرت- تتوزَّع في كتب ومؤتمرات أجنبية.
وعيُ المثقف العربي لواقعه، ولماضيه القريب أو البعيد، يبقى ضعيفًا، وهو ينصرف، في أحوال كثيرة، إلى إسقاطات أيديولوجية أو مذهبية في الوعي والتعقل. وهو ما يصيب التجربة الإسلامية نفسها، إذ لا تتوافر بعدُ قراءة تاريخية وسليمة، لا للقرآن أو التجربة المحمدية، أو لقيام الخلافة وتحوُّلاتها... كيف لهذا الوعي أن يتبلور، والكثير من الكتابات والمواقف تبقى في حدود التقيد "بما ورد"، أو تقوم بإعادة تفسير التاريخ وفق مساعٍ "تاويليّة"، بل أسطورية المنحى.
• عادت إشكاليّة الدين والسلطة إلى الواجهة مع تصاعد قوى الإسلام السياسي ووصول بعضها إلى السلطة قبل انكفائها، ومع بروز داعش ثم تراجُع نفوذه، وترافق ذلك مع عنف في اللغة وفي الواقع، هل يشبه الواقع العربي ما تعيشه المؤسسة الدينية في العديد من البلدان والثقافات حول العالم من أزمة، أم أنَّ ما نعيشه هو تراكم أكثر من عشرة قرون من انتصار التيار المحافظ داخل الإسلام؟
= يتزايد الانشغال بالدين والسلطة منذ الثورة الخمينية، ما أصبح يُسمى "الإسلام السياسي". وهو تفسيرٌ قاصر، على ما أقول، إذْ إنَّ هذا الانشغال قديم، لم ينقطع على مدى تاريخ المجتمعات المعنيّة. أشدِّد على هذا، دون أن أنكر، بل أشدِّد أيضًا على أنَّ "دينيّة" السلطان في هذا التاريخ لا تخفي -مع ذلك- إفادة المتحكمِين، وتصرُّفهم بها، على حساب رجال الدين. أمّا استفاقة رجال الدين، منذ جمال الدين الأفغاني على الأقل، وصولًا إلى "السلفيّة الوهابيّة" في سلطات وأحوال خليجية، ودعاوى "الإخوان المسلمين" و"ولاية الفقيه"، هنا وهناك، لم تجلب إصلاحًا -لازمًا في حسابي- في الدين الإسلامي، بل عنت عمليًا النكوص عمّا جرى، بل اللجوء إلى تمكين "أمير"، أو "وليٍّ فقيه"، من جماعته، وبالتالي من مجتمعه (وأبعد منه أحيانًا)، ما هو أقرب إلى صيغة الديكتاتور... المنزَّه، أو المعصوم. هذا ما يجمع الستالينية، على سبيل المثال، بـ"الإسلام السياسي"، بل بصيغة "حرب العصابات" وغيرها مع "داعش" وخلافها.
لهذا يظهر المشهد في حال من التشرذم العنيف، وإن تتمكّن هذه القوى المسلمة، في بعض تجاربها، من التحكُّم بمنطقة، بجماعة، بمجتمع. فهذه التجارب "تتصرّف"، عمليًا، بالقرآن، بالحديث، بالسيرة، تصرُّفًا لم يعرفه التاريخ الإسلامي حتى في فترات تأخُّره الشديدة.
وإذا كان التاريخ المتأخّر قد شهدَ وحملَ بعض التبدُّل، بعض الإصلاح، بعض الحرص الدستوري، فإنَّ ما يجري حاليًّا يطيح بهذا كله، ويجعل من التحكم بـ"المؤمنِين" شاغلَه الأول، قبل الغرب وإسرائيل وغيرها.
مثل هذه القوى تبيد الوقت التاريخي، وتصرفه على هواها، وتجعلنا على عدائية "بدائية" مع دول مجاورة أو بعيدة، بدل أن تكون حقوقنا ومصالحنا هي عنوان العلاقات في الاقتراب أو الابتعاد منها أو في الحرب معها.
• أنتقل إلى مسألة تتعلّق بحق كل فرد بالثقافة، ويخطر ببالي السؤال عن خسارة مضاعفة تعانيها معظم الشعوب العربية التي لم تحافظ على تراثها، فلا تُعلِّم أغلب المدارس العربية الربابة واليرغول والدف والعود، ولا هيّ علّمت طلبتها البيانو والكمان والساكسفون، وينسحب الأمر على أنواع الآداب والفنون قاطبة؛ لم تتوطّن الحداثة، ولا بقي الموروث. كيف تقارب المسألة، وما مستقبل الثقافة في العالم العربي؟
= خلاصةٌ مناسبة إذ تقول: لم تتوطّن الحداثة، ولا بقي الموروث. بل يمكن صياغة الخلاصة بكيفية معدَّلة لتصبح كالتالي: الحداثة توطَّنت، ولكن بشكل مشوَّه، أو ناقص، أو محوَّر؛ كما أنَّ الموروث استمرَّ، ولكن مشوَّهًا أو محوَّرًا.
تراث المجتمعات لا يبقى من تلقاء نفسه، إن لم تتوكّل به سياسات ومؤسسات ترعاه وتجعله شأنًا "احترافيًّا"، أي تتوكَّل بحفظه سياسات وفِرَق وخبراء... هذا ما ظهر في مساعٍ وفِرَق في الستينات دون أن يستمرّ بالفعاليّة ذاتها... سؤال على سبيل المثال: هل توجد متاحف لحفظ هذا الموروث في جانبه المادي على سبيل المثال؟ هناك بعضُها لكنَّها معدودة للغاية، ولا تفي بالغرض، إذ تبقى تفتقر إلى الدّرس، من جهة، الذي له أنْ يقوّي تجذُّرها في الجماعات، كما تبقى دون تجديد وجاذبية في العرض والحفظ، من جهة ثانية.
أمّا الحديث عن الحداثة فواسع وشائك، إذ إنّها "تصل إلينا"، بجوانبها التكنولوجية، دون حرج. وهذا ما يَظهر في حداثة "تقنية" مترامية، تراها في مواد الاستهلاك المختلفة، التي لا نحسن -على الأقل- إنتاج بدائل محليّة عنها. وهو ما يعني ضعف الصناعة المحلية بتجلّياتها وإنتاجاتها المختلفة...
أمّا لجهة فكر الحداثة -إذا جاز هذا الاختصار- فهو يحتاج إلى أكثر من إصلاح في النَّظر، في التأليف، في تجديد المناهج والمقاربات... فعقلية "الأسطرة"، أو التأويل الميسّر، أو القبول "بما ورد" وغيرها، يُبطل أيّ نظر، وأيّ تجديد له.
• تنتشر الخطابات اليمينيّة المتطرِّفة حول العالم؛ شرقًا وغربًا، ربّما أخطرها "الترامبيّة" التي برزت بوصفها تعبيرًا عن أفكارٍ وممارسات خارج المؤسسة، بل ومُعادية لها حدّ إمكانية الانقلاب ضّدها، كما حصل في اقتحام مبنى الكابيتول مؤخرًا. كيف تنظر إلى تصاعد اليمين المتطرِّف عالميًّا، و"الترامبية" بشكل أساسي، وما تأثير ذلك على العالم العربي؟
= لعلَّ كثيرين نسوا أو تناسوا ما كتبه "فوكوياما"، في العقد الأخير من القرن المنصرم، عن "نهاية التاريخ"، وسيطرة الديمقراطية في العالم، وصراع الأديان... طبعًا هذه النظرات تراجعت، وبدا أنَّ التاريخ لا يهدأ، وأنه لا يتقدَّم بالضرورة وفق خط تراكمي، تصاعدي... حتى الكلام عن الصراع الديني بين الإسلام وغيره -وإن تُذكِّر به بعض الوقائع الدامية- يتعيّن في السياسة، وإن يتخذ لبوسات تتجلّى في "رسم" النبي، أو وجوب "الحجاب"، أو اندماج المسلمين من انفصالهم عن المجتمعات التي يقيمون فيها في أوروبا وغيرها.
أعتقد أنَّ "نظام الجبّارَين"، إذْ اهتزَّ وانتفى بمعنى من المعاني، أربَكَ مثلما سهَّلَ وسرَّعَ أسباب قيام السياسة وغيرها في التجارب التاريخية. وهو ما يَظهر -في صورة مبسّطة- في تراجع روسيا، وصعود الصين. وهو ما يتحكم بصورة مزيدة في العلاقات الدولية في العقد المنصرم، وفي قادم العقود.
كما أنَّ الثورة التكنولوجية، الإلكترونية، بدَّلت العلم والعمل والتواصل والقيمة وغيرها، وبدَّلت السياسات والمرجو منها. وباتت "اللعبة"، إذا جاز القول، مفتوحة أكثر، والمخاطر متعاظمة، هي الأخرى.