ربيع محمود ربيع
باحث وأكاديمي أردني
rymoon1984@yahoo.com
تخضعُ الصُّور التي يلتقطها صانعو الهويّة لأحداث التاريخ إلى انتقائيّة تعزّز تلك الهويّة وتجعلها أكثر مصداقيّة ومعقوليّة لدى الفئة المستهدَفة؛ فالهويّة مرتبطة بفكرة الانحياز وبفكرة الجماعة عن نفسها وماضيها. وحوْل موقف المثقف من الهويّة، يرى كاتب هذا المقال أنّ المثقف يصوغ الخطوط الرئيسة للهويّة الجمعيّة ويصبح تابعًا لها بمجرّد أن تتشكّل، وأنَّ هويّة الجماعة قابلة للتحوُّل والتغيُّر؛ فالمجموعة البشرية في منطقة معيّنة تُعيد إنتاج هويّتها بما يتفق مع الدّوافع والمحرّكات الجديدة، ناهيك عن أنَّ فكرة الهويّات تحتمل التجاور والاختلاف داخل البيئة الواحدة.
كل هويّة تستند إلى نوع من العمى كي تصوغ نفسها وتراها بوضوح، وقد يبدو لنا أنَّ استخدام مصطلح "التعامي" أفضل من "العمى"؛ كي لا نقع في تناقض الجمع بين العمى والرُّؤية، فصانع الهويّة (المثقف) يجد أمامه مجموعة كبيرة من العوامل والمشكلات التي تقف وراء تشكيل هويّة الجماعة التي ينتمي إليها، لكنه ينهج نهجًا انتقائيًّا في اختيار أو استبعاد هذه العوامل والمشكلات. فنجده يختار ما يعزّز الرُّؤية التي اختارها لهويّته ويستبعد كل المعطيات التي تناقض هذه الرُّؤية أو تهدمها، ويتعامى عن رؤيتها، غير أنّ الجماعة (الجماهير) التي ستتبنّى هذه الهويّة لن تعي هذه القصديّة في الرُّؤية والتَّعامي، لذلك سنعود إلى اعتماد مصطلح (العمى) في صوغ الهويّة.
كما أنّ الصور التي سيلتقطها صانعو الهويّة وممارسوها لأحداث التاريخ ستخضع لهذه الانتقائيّة بشكل يعزّز الهويّة ويجعلها أكثر مصداقية ومعقولية لدى الفئة المستهدَفة؛ فلو أخذنا حدثًا مفصليًا في التاريخ العربي الحديث مثل "الثورة العربية الكبرى"، فإنّ الصورة التي ستُصنع عن هذا الحدث ستعتمد على موقف صانع الهويّة منه. فأبناء الهويّات ذات الطابع الإسلامي، التي تتخذ موقفًا معاديًا من الثورة لصالح الحكم العثماني، سترى في الثورة خيانة لفكرة الدولة الإسلاميّة واستعانةً بالكفّار على الأتراك المسلمين، وفي المقابل فإنهم سيتعامون عن رؤية القادة الألمان والبلغار الذين قادوا جيوش العثمانيين في المعارك ذاتها!
ويتم تصغير المساحة التي يمكن أن تتخذها المظالم والجرائم التركية في الصورة؛ إذ تُختصَر تحت شعار السنوات الخمسين الأخيرة للحكم العثماني في المنطقة العربية، وأنه لا يجوز أن نحكم على دولة عمرها ستّة قرون من خلال هذه السنوات الأخيرة. كما أنها سترى الثورة من خلال النتائج التي ترتَّبت عليها؛ فهي العامل المساعد لسايكس-بيكو وسان ريمو وتحمِّلها كل النتائج من استعمار وتقسيم للبلاد العربية، وفي المقابل يُسلّط الضوء على أبرز الانتصارات والإنجازات العثمانية عبر ستمئة عام مقارنةً بهزائم العرب بعد سقوط الحكم التركي.
أمّا أبناء الهويات ذات الطابع القومي، التي تعدُّ نفسها امتدادًا للثورة، فإنها ستسلّط الضوء على وحشية الأتراك وظلمهم في المنطقة، لذلك سترى في الصورة جرائم الأتراك ومجازرهم الوحشية وتنكيلهم بأبناء العرب. كما سترى صورة التجهيل والأمية التي تركتها الدولة العثمانية خلفها، بينما يسعى مثقفو العرب إلى استرداد حقوقهم ومكانتهم بين أمم المنطقة. وفي المقابل ستصغّر صورة السلبيات التي يكبّرها أبناء الهويات الإسلامية وتقلل من أهميّتها تحت بند غدر دول الحلفاء ونكثهم بالعهود، وستحلّ محلّها الإنجازات التي حاول أبناء المشروع العربي تحقيقها.
ليس الهدف من هذا الاستشهاد بيان وجه الحقيقة في الأحداث التاريخية، بل بيان أنَّ الهويّة مرتبطة بفكرة الانحياز وبفكرة الجماعة عن نفسها وماضيها، ولا يمكن أن نخلق هويّة دون هاتين النقطتين. كما أننا نحتاج أن نوضّح عدّة نقاط فيما يخص موقف المثقف من الهويّة:
الأولى: أنّه على الرغم من أنّ المثقف يصوغ الخطوط الرئيسة للهويّة الجمعيّة، فإنه لا يملك السيطرة عليها، بل يصبح تابعًا لها بمجرّد أن تتشكّل، ولا يملك سوى دغدغة مشاعر الجماهير التي تنتمي إليها.
الثانية: لا يمكن صوغ هويّة الجماعة دون دعم سلطة ما، ولا يمكن للسلطة أن تفعل ذلك دون الاعتماد على مثقفيها.
الثالثة: إنْ كانت آليّة عمل الهويّة ثابتة، فإنّ الدوافع والمحرّكات تختلف وتتحوّل تبعًا للتغيّرات والتحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الرابعة: هويّة الجماعة قابلة للتحوّل والتغيّر؛ فالمجموعة البشرية في منطقة معيّنة تُعيد إنتاج هويتها بما يتفق مع الدوافع والمحركات الجديدة.
الخامسة: فكرة الهويّات تحتمل التجاور والاختلاف داخل البيئة الواحدة باختلاف المرجعيات التي يستند إليها الأشخاص داخل هذه البيئة؛ فصاحب المرجعية القومية يحمل هويّة مختلفة عن أصحاب الهويات الإسلامية والوطنية والماركسية.
فالناس في بلاد الشام -على سبيل المثال- في العصر الحديث أعادوا إنتاج هويّتهم عدّة مرات في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا، إذا ما قورنت بهويّاتهم المتجدّدة، فالبداية كانت بدعم من السلطنة العثمانية التي أحيَت فكرة الرابطة الإسلامية والتفاف الناس حول الخلافة في القرن التاسع عشر. ومن ثم قابلها إحساس الناس بالرابطة القوميّة (العروبة) التي تحاول سحب الشرعيّة من العنصر التركي الذي يحكم البلاد العربيّة باسم الرابطة الدينيّة، لتتداخل معها فكرة إقامة سوريا الطبيعيّة التي هي فكرة قوميّة بطموحات أقلّ اتساعًا من طموحات القوميّة العربيّة.
وبعد تحطُّم الآمال الوحدوية والتوسعية تعزّزت فكرة الرابطة الوطنية التي ترتكز على الحدود التي أوجدها الانتداب البريطاني- الفرنسي، وانتقلت الدعوة من فكرة الوحدة الكونية (الإسلامية) إلى فكرة الوحدة القومية، مرورًا بالوحدة الإقليمية، وانتهاءً بالوحدة الوطنيّة.
وإذْ نؤكّد على مبدأ إمكانية تجاور هذه الهويات بشكل متزامن، فإنّ الهويّة الوطنيّة هي السمة التي تطبع الوطن العربي في القرن الحادي والعشرين، والتي تمتلك الشرعيّة المستمدّة من السلطة. وهي هويّة مُهدَّدة بالزوال لصالح مجموعة من الهويّات الطائفيّة والعرقيّة الأصغر حجمًا مثلما يحدث في العراق ولبنان.
وإذا عدنا إلى النقطة الثالثة، فإنّنا نستطيع أن نحدِّد فاصلًا زمنيًّا لتغيّر دوافع الهويّة ومحركاتها في الوطن العربي، وهو مرتبط بهزيمة عام 67؛ فقبل هذا التاريخ كانت دوافع الهويّة وحدويّة توسعيّة تهدف إلى تجاوز حدود الدولة الوطنية ولا تعترف بها. لذلك كان المثقفون يصوغون خطابات السلطة (سلطة الدولة أو المعارضة) بما ينسجم مع هذا الطموح، فنجده خطابًا ينادي بالوحدة ويرفع شعاراتها أمميًّا أو إسلاميًّا أو قوميًّا. أمّا بعد هذا التاريخ، فبدأ خطاب الانكماش على الذات داخل الحدود الوطنية هو الخطاب السائد، وبعد أن كانت إزالة الحدود هي حلم الجماعة أصبح الحلم حمايتها والعيش بأمان داخلها.
وإذا بقي مثقفو الهويات الوحدوية والكونية يدعون إلى أفكارهم وينادون بتطبيقها إلى اليوم، فإنّ اختلافات جوهرية أصابت هذه الدعوة؛ فقبل هذا التاريخ كان فعل ممارسة هذه الهويات متاحًا ومتوقّعًا عبر الفعل الثوري الذي تمارسه النخبة (العسكريّة أو الحزبيّة)، لكنه بعد ذلك أصبح حلمًا بعيد المال. وقد ظهر هذا التحوّل على مستوى الجماعات الثورية والمقاوِمة في فلسطين؛ إذ أصبح خطاب الهويّة الوطنيّة الفلسطينية هو المحرّك الأساسي لهذه الجماعات التي أخذت تتبنّى فلسطَنَة القضية الفلسطينية، أي أنّ العنف الثوري أصبح عنفًا وطنيًّا لا قوميًّا ولا كونيًّا كما كان قبل ذلك.
أمّا الجماعات الثورية ذات الخطاب الإسلامي -بعيدًا عن تقسيماتها إلى إرهابية وغير إرهابية- فإنّ الذي يُعلّل احتفاظها بعنفها الثوري هو ارتباطها بخطاب خارج سياق التاريخ ومنطق أرض الواقع؛ فهي لا تعترف بأيّ معطيات واقعيّة تحت وطأة شعار الفئة القليلة التي ستغلب الفئة الكثيرة. لذلك فهي ذات منزع عدمي تندفع إلى الموت دون أيّ أمل في استثمار الفعل الثوري، وذلك إذا استثنينا استثمارات الدول الكبرى والقوى الاستعمارية لعدميّة هذه الجماعات. أمّا الجماعات الإسلامية التي يمكن أن نستثنيها من هذا المنزع العدمي فهي الجماعات التي نزعت نحو تبنّي خطاب وطني ذي صبغة دينية، ولكن النزعة الوطنية هي التي تحكم بقاءها واستمرارها على أرض الواقع مثل حركة حماس في قطاع غزّة.
وطغيان الخطابات الوطنية على حساب الخطابات الأخرى أدّى إلى حدوث إشكاليات وصراعات داخل البلدان التي أسست خطابها على الخطابات القومية؛ فقد قامت بين الأردن والأجزاء الشرقية من فلسطين -على سبيل المثال- وحدة سياسية عُرفت تاريخيًّا بوحدة الضفتين، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يُقال عن الأسباب الخفيّة التي كانت تقف وراء موافقة الإنجليز -اللاعب الأكبر آنذاك- على إجراء هذه الوحدة، فإن الدافع الأساسي الذي كان وراء نجاحها هو الشعور العام بين أبناء الشعبين الأردني والفلسطيني بالهويّة العربية الجامعة. لذلك جاء حجم المعارضة الشعبية للمشروع ضعيفًا في الضفتين، وفشلت النخبة المثقفة الفلسطينية -وكانت تساندها أيضًا النخبة المثقفة الأردنية- التي كانت تسعى إلى إقامة دولة وطنية فلسطينية- في تحريك الجماهير ضدّ قرار الوحدة.
ولكنّ أفكار هذه النخبة وجدت بعد نكسة 67 صدىً واسعًا لدى الجماهير الفلسطينية الغاضبة المتواجدة في المنافي والمخيمات؛ إذ اقتنعت أنَّ حلّ القضية الفلسطينية لن يكون إلا داخل إطار الخطاب الوطني الفلسطيني. غير أنّ نشوء هذا الشعور جاء داخل الحدود الوطنية للدول العربية المجاورة لفلسطين، الأمر الذي تسبّب بحدوث ازدواجيّة في الخطاب الوطني، ولقد تجلّت هذه الازدواجية الهوياتية على الأرض الأردنية التي منحت كثيرًا من الفلسطينيين جنسيتها. مما أدّى إلى صراع هوياتي بين خطابين وطنيين لا تحتملهما أرض واحدة.
وإن تمّت تسوية هذا الصراع عبر المواجهة أولًا، ومن ثم المصالحة لاحقًا، فإنّ هذا الصراع ما يزال يلقي بظلاله على كتابات النخب الثقافية المتطرِّفة لدى الطرفين من خلال عقدتين رئيستين، وهما: عقدة النقاء النوعي التي ترى في نفسها الأصالة وترى في القادمين تشويهًا لصورة هذا النقاء، ويرفض أصحاب هذا الاتجاه رؤية الماضي المشترك لأجدادهم ضمن الوحدة الجغرافية المشتركة (سوريا الطبيعية). وفي المقابل هناك عقدة أخرى تقابل هذه العقدة، وهي عقدة الفردوس المفقود التي تنظر إلى كل ما حدث للفلسطيني بعد خروجه بوصفه حدثًا مؤقتًا لا يملك حق الديمومة، وتتملّك أصحاب هذا الاتجاه رغبة في نزع الأصالة عن كل ما له علاقة بالخطاب الوطني المنافس لخطابهم.
ويُعدّ بعض المناصرين لأفكار الشهيد ناهض حتر مثالًا على الاتجاه الأوّل؛ إذ ينزعون إلى تأصيل الوجود الشرق أردني في الأردن من خلال أردنة ماضي العشائر والقبائل الأردنية وقطع صلاتها مع المناطق العربية المجاورة هجرةً وتنقلًا، ومن خلال إعادة إنتاج الماضي ضمن حدود الدولة الوطنيّة الحديثة. ويبلغ التطرّف مبلغه عبر نسبة أي تشوّه أو خلل يصيب المجتمع أو الدولة إلى جهات خارجية أو جماعات ليس لها جذور في المنطقة ولا تحمل صفة الأصالة.
أمّا الاتجاه الآخر، فتمثله كتابات الباحث الأردني- الفلسطيني جوزيف مسعد، سواء في مقالاته الصحفية أم في كتابه "آثار استعمارية: تشكيل الهويّة الوطنيّة في الأردن"، فعلى الرغم من تحصين الباحث نفسه معرفيًّا بأرشيف هائل من الوثائق والمعلومات فإنه يوظف هذه المعلومات والوثائق لهدم أيّ فعل هويّاتي يمكن أن يوصف بأنه أردني، وفي المقابل ينسب هذا الفعل إلى الاستعمار وأدواته. وذلك ينطبق على كل ما له علاقة بالأردن وتشكلات الهويّة الوطنية داخله، انطلاقًا من الأحداث الكُبرى وانتهاءً بأصغر التفاصيل من مثل مكوّنات المنسف الأردني.
فنجده -على سبيل المثال- يُسهب في شرح الدور الاستعماري في تشكيل هويّة المنسف، وكيف دخل الأرز في طبخه بعد أن كان الحضر في الأردن يطبخونه بالبرغل أو الفريكة قبل الانتداب البريطاني. إنَّ الباحث يستخدم خيالًا روائيًّا أثناء كشفه عن خيوط المؤامرة متناسيًا تفصيلًا صغيرًا يقول لنا: إنَّ الاستقرار السياسي سمح للتجّار الأردنيين باستيراد الأرز، وقد سبق لهم استيراده في فترات سابقة، قبل أن يعرفوا الانتداب، حينما كانت الظروف المادية والأمنية تسمح بذلك.
إنَّ هذا الصدام الهويّاتي بين خطابين متطرفين لا يمثل الأطراف التي يدّعي تمثيلها، على الرغم من أنه قادر على التأثير فيها، كما أنَّ حدَّة هذين الخطابين بدأت تخفت لصالح خطاب حياتي حقوقي جديد يطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة. غير أنَّ هذا الخطاب شعبوي يفتقد للمثقفين القادرين على صناعة هويَّته وصياغتها بشكل يمنحه القوَّة والديمومة، فهل سينجح المثقفون في صياغة هذا الخطاب الجديد؟