أمل المشايخ
كاتبة أردنية
Amal.almashaiekh.a@gmail.com
تحاولُ هذه الرّوايةُ أنْ توضِّح جدليّةَ العلاقةِ بينَ الثّالوثِ الدّائمِ للعمليّة الإبداعيّة: الكاتب والنّص والمتلقّي، وفي سبيلِ ذلكَ تكتبُ هيا صالح روايتين متداخلتين، برعت في إظهار المعمار الرّوائيّ الاحترافيّ فيهما معًا وفي كلتيهما كلٍّ على حِدة، ناهيك عن البراعةُ في بناءِ الشّخصياتِ من زوايا عديدة، وهي سِمةٌ بارزةٌ تطبعُ الرّواية. وترى كاتبة هذا المقال أنَّ الرّوايةَ بمجملِها جاءتْ لتجيبَ عن السّؤالين: أيّهما أقوى الإنسانُ أم الظّروفُ؟ صوتُ القلبِ أم نداءُ العقلِ؟
(لونٌ آخر للغروبِ) هي الرّوايةُ الفائزةُ بجائزةِ كتارا للرّوايةِ عنْ فئةِ الرّوايةِ المخطوطةِ عام 2018 للأديبةِ الأردنيّةِ هيا صالح. صدرت الرِّوايةُ مطبوعةً بعدَ ذلك عنْ هيئةِ الجائزةِ كما صدرتْ مترجمةً إلى الإنجليزيّةِ عنْ الهيئةِ نفسِها.
تحاولُ الرّوايةُ أنْ توضّح جدليّةَ العلاقةِ بينَ الثّالوثِ الدّائمِ للعمليةِ الإبداعيّةِ: الكاتبِ والنّص والمتلقّي، وفي سبيلِ ذلكَ تكتبُ هيا روايتين متداخلتين أوْ قلْ روايتين في رواية: روايةً بطلُها نجيب علي عبدالحقّ الكاتبُ الذي يعملُ لحسابِ دارِ نشرٍ كبيرةٍ يمتلُكها خلدونُ الذي يظهرُ في الرّوايةِ سمسارَ كتبٍ من الدّرجةِ الخاصّةِ، يكلّف نجيبًا بالكتابةِ بناءً على طلبِ الزّبائنِ، وروايةَ (كريم ووفاء) التي يكتبها نجيبٌ بناءً على طلبِ النّاشرِ والزّبونِ الثّريِّ؛ ليدينَ فكرةَ الخيانةِ الزّوجيةِ. وبينّهما -أعني الرّوايتين المتداخلتين- حكاياتٌ داخلَ الرّوايةِ الأمّ في خدمةِ السّؤالِ الكبيرِ، وعلى عكسِ ما يمكنُ أنْ يتخيّلَ القارئُ تبدأُ الرّوايةُ بروايةِ نجيبٍ التي أرادها النّاشر والزّبون أعني (كريم ووفاء).
شعرَ نجيبٌ بأنّه كاتبٌ بعقليّةِ سارقٍ، لكنّه كانَ راضيًا هذه المرّةَ؛ فهي الرّوايةُ الأخيرةُ والمَرّةُ الأخيرةُ التي يتعاملُ فيها مع خلدونَ وزبائِنه.
في كلِّ متنٍ يتركُ الكاتبُ شيئًا منْ نفسِه في كلِّ بطلٍ، وفي كلِّ بطلٍ يجدُ القارئُ شيئًا منْه وإنْ احتالت التّفاصيلُ لتقولَ غيرَ ذلك، ربَما هذا ما يفسّرُ ما كانَ يراهُ نجيبٌ منْ أجسامٍ أثيريّةٍ تظهرُ وتتجسّدُ له على هيئةِ بشرٍ وحينَ يتبعُها ليسَت إلا اللاشيء، حينَ كانَ الجسمُ الأثيريُّ هو وفاءَ بطلةَ روايتهِ.. وربَّما هذا ما يفسّرُ أيضًا أنَّ الرّجلَ الذي تبرّع له بالقلبِ كانَ على هيئةِ كريمٍ بطلِ روايتِه كما شاهدْنا في نهايةِ الرّواية، هذهِ الغرائبيّةُ هي التي جعلت نجيبًا تسيطرُ عليه فكرةُ (تناسخِ الأرواحِ)، أو ربّما يتحوّلُ إلى مسخٍ كما حدَثَ مع "جريجور" بطلِ "كافكا".
"شعرَ أنّ يدًا خفيّةً تقودُه للمجهول، تتحكّم بحركاتِه وسكناتِه، يدٌ يشعرُ بها ولا يراها، إنّه في ورطةٍ كبرى لا شكّ، لماذا وقعَ الاختيارُ عليه، فهو لمْ يتصالحْ يومًا سوى مع الواقعِ، أليسَ الواقعُ ينطوي على غرائبيّةٍ كبيرةٍ؟"(ص221).
وإذا كانت الرّوايةُ هي الصّراعَ بينَ شاعريّةِ القلبِ ونثريّةِ الظّروفِ المعيشيّة كما يقول "هيجل" فإنّ الرّوايةَ بمجملِها جاءتْ لتجيبَ عن السّؤالِ الكبيرِ: أيّهما أقوى الإنسانُ أم الظّروفُ؟ صوتُ القلبِ أم نداءُ العقلِ؟
هي وفاءُ موظفّةُ بنك وفنّانةٌ تشكيليّةٌ أردنيّةٌ منْ أصولٍ عراقيّةٍ، تعيشُ وتعملُ في عمّانَ، زوجةٌ وأمٌّ لطفلين تعيشُ حياةً يوميّةً بروتين قاتلٍ، أمّها من الدّامون وعاشتْ في مخيّم نهرِ البارد، تحبُّ وفاءُ رجلًا سوريًّا يقيمُ في عمّانَ وله اهتمامٌ في مجالِ الموسيقى والمسرحِ، سنجدُ أنَّ هذهِ الفسيفساءَ التي رسمت المجتمعَ الأردنيَّ بكلِّ أطيافِه هي التي خلقت العالمَ الكليَّ للرّوايةِ.
"أتأمّلُ فسيفساءَ لخارطةِ الأردنِّ، أقولُ وأنا أُمرّرُ يدي على حوافِّ الشّكلِ: تعلمين، هذه الحدودُ المطمئنّة تَجمعُنا.. نعيشُ هنا معًا كقِطَع فسيفساءَ، إنَنا مختلفون في الشَكلِ واللونِ والجنسيّةِ والدّيانةِ والمعتقدِ والرّأيِ.. لكنَنا معًا نُشكّل لوحةً جميلةً"(من حوار بين وفاء وصديقتها لينا، ص208).
ظُروفٌ صَعبةٌ عاشتْها وفاءُ سببُها ما كانَ يعيشُه والدُها منْ (فوضى وشتاتٍ)؛ فهو الشّيوعيُّ الذي تحوّلَ إلى الصّوفيّةِ، يحقدُ على أميركا ويطلبُ اللجوءَ إليها. أحبّ أمّها ولمْ يتوانَ عنْ إيذائِها وجرحِها... ابنُ مخيمِ نهرِ البارد الذي انضمَّ إلى داعشَ التي قدّمتْ نفسَها على أنّها تنظيمٌ هادفٌ يشنّ حربًا على الكفّار ويسبي نساءَهم، يغادرُ المخيّمَ بعدما اشتعلت الحربُ الأهليّةُ في لبنانَ.
وعودًا إلى عالمِ الرّوايةِ، فإنّ الرّوايةَ مكتوبةٌ بالتّعاقبِ: سبعةَ عشرَ بابًا، كلُّ بابٍ فصلان، واحدٌ منْ روايةِ (كريم ووفاء) والآخرُ منْ قصّةِ خلدون ونجيبٍ.. يتصدّرها الزّمنُ في روايةِ )كريم ووفاء) وكأنّها آلةُ الزّمنِ بأسنانِها العملاقةِ التي لمْ تفارقْ نجيبًا منذُ أنْ أُجريتْ لهُ عمليّةُ القلبِ المفتوحِ، وهذا ما يفسّرُ لماذا كان البابُ السابعَ عشرَ فصْلًا منْ قصّةِ نجيبٍ وخلدون فقط، بعدَ أنْ خرجتْ وفاء (البطلةُ من ورقٍ) منْ بُعْدِ الزّمنِ تقولُ:
"رأيتُ فوقَ رأسِ أمّي آلةً لعجلةٍ ضخمةٍ، بها مسنّناتٌ حادّةٌ تدورُ وتدورُ وتدورُ، تقتربُ منْ رأسِها أكثرَ تريدُ شطرَه إلى نصفين"(ص76).
مقولاتٌ في البعدِ الفلسفيّ حفلتْ بها الرّوايةُ منْ مثل: "في حياةِ المرأةِ ثلاثةُ رجالٍ فقط: واحدٌ يحبّها وواحدٌ تحبّه وغريبٌ تتزوجُه".
"الحبّ كاملٌ ونحنُ ناقصون... الحبُّ يبقى ونحن عابرون"(ص64).
مخزونٌ ثقافيٌّ كبيرٌ تمتحُ منه الكاتبةُ وهي تنسجُ عملَها الرّوائيَّ الأوّلَ: ما قرأتْ منْ أعمالٍ روائيّةٍ وفلسفيّةٍ منْ مثلِ (أحدب نوتردام) التي تحكي عنْ الجمالِ الحقيقيِّ، والقبحِ الحقيقيِّ، وما سمعتْ منْ موسيقا لياني (حبّ مدى الحياةِ) و(الرّغبة)، وسمفونيّات بتهوفن، وأوبرا بحيرةِ البجعِ لـ(تشايكوفسكي)... جاءَ هذا المخزونُ في أماكنِه الطّبيعيّةِ دونِ حشوٍ أو استعراضٍ ثقافيٍّ.
المعمارُ الرّوائيّ الاحترافيّ في الرّوايتين معًا وفي كلتيهما كلٍّ على حِدة والبراعةُ في بناءِ الشّخصياتِ من زوايا كثيرةٍ سِمةٌ بارزةٌ تطبعُ الرّوايةَ منذُ السّطرِ الأوّل؛ فنجيبٌ –مثلّا- يظهرُ فيلسوفًا عدوًّا للمرأة، ولكنّه يحتفي بزهرةِ القرنفلِ كلّما رآها.. هي الظّروفُ البيئيّةُ إذن التي عاشَها نجيبٌ مِنْ يتمٍ وعمليّةِ زراعةِ القلبِ -فيما بعد- التي أفضتْ إلى هذهِ الانعزاليّةِ والشّفافيّةِ التي كانَ منْ أهمّ تجلّياتها كلّ هذا التّدفق والغزارةِ في الكتابةِ.
كما برعتْ في رسمِ ذاتِ وفاءَ المهشّمةِ التي لم تكنْ تقدّرُ ذاتَها يومًا حتّى مع عباراتِ الإطراءِ منْ معلماتِها حيالَ ما تكتبُ وترسمُ، وشخصيّةِ لينا صديقةِ وفاء التي رحلت بسببِ السّرطانِ والتي يمتلكُ والدُها نضالٌ مكتبةً تستعيرُ منها وفاءُ ما تشاءُ من الكتبِ... برعتْ كذلكَ في رسمِ شخصيّةِ أروى زميلةِ وفاءَ في البنك، أروى اللامباليةُ نموذجٌ للمرأةِ البراجماتيّةِ التي تحسنُ تدليلَ نفسِها غيرَ آبهةٍ بما حولَها منْ ظروفٍ...
تقولُ الكاتبةُ على لسانِ وفاء:
"في داخلي تشنُّ القبيلةُ حربَها التَاريخيّةَ على حرّيَتي وتدينُني بجريمةِ الأنوثةِ....
في داخلي تُبنى قلاعٌ جميلةٌ لكنّها من الرّملِ سرعانَ ما يجرفُها الموجُ ويهدمُ أسوارَها مدُّ البحرِ.. في داخلي ينامُ الحزنُ في سريرِ الفرحِ"(ص177-178).
هناكَ عددٌ منْ تقنياتِ السّردِ أو الأصواتِ -إضافةً للشّكلِ العامِّ للرّوايةِ- في روايةِ نجيبٍ (كريم ووفاء) ثمّةَ ما هو خاصّ بهما، وثمّةَ ما هو تداعٍ وتذكّر (فلاش باك)، حين تروي وفاءُ تفاصيلَ من حياتِها تستخدمُ تقنيّة الرّسالة؛ لتقولَ ما تشاءُ، كأنْ تكتبَ رسالةً إلى أمّها التي ماتتْ منذُ سنينَ، وتارةً تكونُ الرّسالةُ منْ نجيبٍ إلى صديقٍ مفترضٍ...
هلْ ثمّةَ سيمياءُ للأسماءِ في الرّواية؟ وفاءُ هلْ هي رمزٌ للوفاء؟ ابتسامُ لم تكنْ تبتسم، وكريمٌ كانَ كريمًا بعواطفه، وعمادٌ لمْ يكنْ عمادًا لوفاءَ، لمْ يكنْ الرّجلُ الذي تعتمدُ عليه.
وقبل:
هلْ كانَ العنوانُ (لونٌ آخر للغروب) العتبةُ الأولى التي منْ خلالِها نعبرُ الرّواية، هلْ كانَ مناسبًا؟ والغروبُ الذي انتهتْ به الرّوايتان لتصلَ الكاتبةُ إلى الفكرةِ الكبيرةِ منْ وراءِ الرّواية؟ ربّما... وربّما كانَ من المناسبِ أنْ نعنونَ الرّوايةَ أيضًا بـ(قبضة يد) على اسمِ المجموعةِ التي كتبها نجيبٌ مأجورًا أيضًا لواحدٍ من الزّبائن، القصّة التي كشفتْ أيضًا عنْ همّ الكتابةِ وعيوبِها ومشكلاتِها، وما يعتري طبقاتِ المجتمعِ منْ فسادٍ ماليٍّ جرّ وراءَه، بلْ معَه، فسادًا وعوارًا اجتماعيًّا.... الأبطالُ الذين كانوا جميعًا من الطّبقةِ الوسطى الجاهزةِ للفسادِ، بلْ إنّ فسادَها هو ما أخفاها وأظهرَ الفقراءَ كما تقولُ الكاتبةُ.
ثمّةَ أمرٌ لافتٌ أيضًا هو ضخامةُ الرّوايةِ، إذْ تبلغُ 429 صفحةً، وهو أمرٌ ييرّرُه أنّ الكاتبةَ تكتبُ روايتين معًا، وأنّ الشّخصيّات بما فيها منْ تفاصيلَ ربّما ما يبرّرُ هذه المساحةَ؛ أعني العوالمَ الرّوائيةَ التي أنشأتْها الكاتبةُ في الرّوايتين معًا، الأمرُ الذي يجعلُك خبيرًا في الأمكنةِ والطّرقِ المفضيةِ إليها، وكأنّما دخلتْها مرّةً، لا بلْ وكأنّكَ عشتَ فيها، وكذا الشَّخصياتُ التي لا تشكُّ بأنّكَ رأيتَها يومًا، وربّما تحاولُ أنْ تبحثَ عنْها إذْ تمرّ في أحياءِ عمّانَ، ما أهَّل الرّوايةّ بكلّ ما فيها منْ عوالمَ وتقنيّاتٍ لتفوزَ فوزًا مستحقًّا بالجائزةِ الأولى كما أسلفتُ في مطلعِ هذه القراءةِ.