أمينة الحامدي
باحثة جامعيّة- تونس
hamdiamina28@gmail.com
قبل حوالي قرن من الزَّمان أدركَ الأستاذ والمفكّر الفرنسي "رينيه غينون" عُمق الفجوة في المشروع الحداثي الذي صاغه الإنسان الأوروبّي، وقد ولّد ذلك هاجسَ البحث عن منظومة قيميّة أخرى بديلة ومخالفة للموجود الذي أظهر قُصُورًا أمام المعضلات الإنسانيّة الناشئة، ممّا دفعه إلى اللُّجوء إلى فلسفة الشَّرق الروحانيّة؛ فلسفة الحكمة والتأمُّل التي تُعيد التّوازن إلى الذّات البشريّة، ومن هذا المُنطلق كانت الرّحلة إلى الشّرق بحْثًا عنْ "الحكْمة" المبْثُوثة في تُراث التصوُّف الإسلاميّ.
"الحكمة المشرقيّة" أو "La Métaphysique orientale" محاضرة كان قد ألقاها الأستاذ والمفكّر الفرنسي "رينيه غينون" "René Guénon"(1) في مدارج جامعة "السوربون" الفرنسيّة أواسط كانون الأول/ ديسمبر عام 1925. وقد تُرجمت المحاضرة/ الكتاب إلى اللغة العربية بواسطة توفيق نويرة وصدرت عن دار الأمينة للنشر في العام 2019 لتحقيق عدة أهداف أبرزها كما أرى:
- رؤية جزء من ذاتنا العربيّة أو الشرقيّة بعيون غربيّة.
- ربط الوشائج مع ذاتنا الّتي سلّمناها طوْعًا إلى يد ضخمة وباردة أحكمت قبضتها عليْها وراحت تهشّمها بنعومة بالغة يخالها الغافل يدًا تربّت بحنان أموميّ قديم، وما هي كذلك، عبر توسُّط طرف ثالث.
- البحث عن مشترك إنساني بيننا وبين الآخر بما هو مختلف عنّا في الرُّؤى والأفكار.
المحاضرة/ الكتاب التّي امتدّت على خمسين صفحة ونيْف جادلت حول فكرة مركزيّة سعى الفيلسوف إلى إثباتها وهي أهميّة الحكمة المشرقيّة في تحقيق كينونة الإنسان بما هي خلاصة وتجلٍّ للمعرفة الحقّ. وعليْه ميّز بين فرعين رئيسين في المعرفة: فهناك معرفة حدودها الفيزيقي بمعنى الطّبيعي المنظور المحسوس وهي مَنُوطة بمبادئ العقل والمنطق، وقدْ برع فيها الغرب براعة قصوى. ومعرفة مدارها الميتافيزيقي أي عالم الماوراء المجرّد المتجاوز لمبادئ العقل وهي معرفة "حدسيّة وآنيّة... لا إمكان بغيرها لقيام معرفة حِكْميّة"(2)، وهنا تنبثق ما سمّاه "غينون" (الحكمة المشرقيّة)، بما هي رؤية مغايرة للوجود، منفتحة على التنوُّع والتعدُّد، تجربة تُعاش وطريقة تتّبع "فما الفرد في الحقيقة إلّا تجلٍّ"(3) لها.
فالمعرفة التّي يكون منطلقها "العقل البرهاني" لن تصل بالإنسان في نهاية المطاف إلى "الإشراق" وفق مصطلح الصّوفية. معرفة تتجاوز الطّبيعي المحسوس إلى المجرّد الّذي لا نقدر على كُنْهه دون الغوص في أعماق الذّات البشريّة، وعليه ميّز "غينون" بيْن معرفة محدودة وأخرى لا محدودة تعتمد على الارتداد إلى الذّات أو على ما سمّاه "الحدس الذّهني المحض... وهو عالم المبادئ الخالدة والسرمديّة، إنّه عالم الحكمة"(4)، دون البحث في ما هو مُتَخَارِجٌ عنها وبذلك يبلغ "السّالك" "الحكمة" أو "التنوّر" ويؤسّس لضروب شتّى من المعاني في انفتاح على المُطلق والخيال الخلّاق.
ههنا وجب طرح سؤال يحمل طيّه حيْرة واستغرابًا: ما الذّي يجعل كاتبًا ومفكّرًا عتيدًا مثل "رينيه غينون" ينْفُر ويترك الغرب وتحْدِيدًا فرَنْسا يوْم شرعت الباب للفكر النّهضوي والعدالة والمساواة والإخاء وحقوق الإنسان في شموليّتها، وقطعت للمرّة الأولى وإلى الأبد مع هيْمنة الكنيسة على الرّوح الفرنسيّة الخائفة عصرئذ؟ وما الذّي يحْدو بأستاذ في السوربون معقل الفكر المُسْتَنِير والآداب والفنون الّتي ترقى بكيْنونة الإنْسان إلى القطْع مع كل ما تقدّم والبحث عن ملاذ في الشّرق الحائر الّذي ابتلعته الحروب والجهل والمرض؟ هل أنّ بيئة عصر الأنوار طاردة إلى هذا الحدّ؟ هل فشلت تلك الفلسفة العظيمة على منح المعنى المنشود للوجود الإنساني؟
القارئ العجل سيحتار الإجابة، بل ربّما يذهب أبعد من ذلك ويتّهم "غينون" بالخبلِ، فمن ذا الّذي يترك فرَنسا ليلتحق بمصر في زمن كان الالتحاق بمدن الغرب الآخذ بأسباب الحداثة حُلمًا جميلًا يُراود أهل الشْرق؟ ولا أدَلّ على ذلك من البِعْثة التعليميّة الّتي أرسلها "محمّد علي باشا" إلى فرنسا سنة 1826 لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية، ضمّت مجْموعة من الطلّاب المصريين، وكان ضمن هذه البعثة "رفاعة الطهطاوي" الّذي وضع أساس حركة النّهضة والتنوير في مصر إثر هذه الزّيارة الّتي تعلّم فيها اللّغة الفرنسيّة؛ بما أهَّله لترجمة علومها ومعارفها ومن ثمَّ استغلالها في تحديث مناهج الدّراسة وتطوير القوانين في بلده.
فما الرّابط بيْن منْظومة غربيّة ومنظومة شرقيّة ناشئة تتلّمس طريقها إلى النّهوض باتّباع الآخر الأوربيّ الّذي أوْجَدَ سُبُل نَهْضَته من زمان؟
لم تكن غاية "غينون" في هذه المحاضرة الّتي قارن فيها بيْن مسْلَكيْن في المعرفة، دَحْضًا لإحداها وانتصارًا للأخرى على اعتبار أنّ المعرفة الفيزيقيّة أدْنى والمعرفة الميتافيزيقيّة أعْلى، بقَدْر ما كان يُقارن بيْن منظُومتيْن أو اتّجاهيْن في المعْرفة لا يسْتَطِيعُ أنْ يصِلَ الإنسان إلى تحْقيق وجوده المنشود دُون تكامل بيْنهما، فإنْ كانت الأولى قدْ خلّصته من ربقة الجهْلِ وجَعَلته فاعلًا حُرًّا في الطّبيعة ومُمْسِكًا بزمامها لا مفعولًا به، فإنّ الثّانية قدْ اِرْتَقت به إلى درجة عُليا من الكينونة. كيْنونة قوامها الإيتقي الّذي خلّصه من جانب قبيح اسْتحكمت حلقاته وجعلته كائنًا مدمِّرًا لا مُعمّرًا.
إنَّ "غينون" هو ابن بيئته الأوروبيّة الّتي فتكت بها الحروب الدّينية في مرّة أولى وحروب استعماريّة توسعيّة في مرّة ثانية. يوْمها تلبّس الألم الرّوح الأوروبيّة المتوثّبة ناحية الحريّة والمساواة والإخاء. وهو ما يجعل من مشروع "غينون" التجاوزي؛ أقصد هنا تجاوز منظومته الثّقافية إلى منْظومة أخرى، مسألة مشْروعة.
أدرك "غينون" عُمق الفجوة في المشروع الحداثي الّذي صاغه الإنسان الأوروبّي، وقد ولّد ذلك هاجس البحث عن منظومة قيميّة أخرى بديلة ومخالفة للموجود الذي أظهر قُصُورًا أمام المعضلات الإنسانية الناشئة، ممّا دفعه إلى اللجوء إلى فلسفة الشرق الروحانيّة؛ فلسفة الحكمة والتأمُّل الّتي تعيد التّوازن إلى الذّات البشريّة، ومن هذا المنطلق كانت الرّحلة إلى الشّرق بحْثًا عنْ "الحكْمة" المبْثُوثة في تُراث التصوّف الإسلاميّ.
في رحلة البحث عن "الإشراق" سيسلك المُريد كلّ مسلك بحثًا عن ذلك النّبع الإلهي العظيم ليعبَّ من نسغِه دون ارتواء. و"غينون" وهو يشرح الفرق بين المعرفة والحكمة ينهج طريق قدماء المتصوّفة، ولأنّ بحوثه لم تكن ترفًا معرفيًّا فقط، بل كانت منهج حياة، نبتت في عقله فكرة الالتحاق بذلك الصّوت البعيد الّذي يخاطبه من أقاصي الرّوح أنْ على الشَّرق أقبِل، فهناك ضالّتك. وكان المقام في مصر حتى الوفاة.
إنّ قراءة "غينون" ومن خلفه الإرث الرّوحاني للشّرق لهو ضرورة في هذا العصر الفرداني الّذي باتت فيه حياة الإنسان كالعهن المنفوش، دون روابط حقيقيّة، دون إمكانات وجوديّة جديرة بالمجازفة. فلقد قتل الإنسان نفسه لمّا انخرط في عالم سِبراني برموز وخوارزميّات جافة. عالَم مُعوْلم تمكّن منّا وراح يعْبثُ بنا عبر ما جمعه من معلومات حول مخاوفنا وآلامنا، رغباتنا وآمالنا، ليرسم في المقابل علاجات وهميّة تجتثّنا من الواقع وتحشرنا في سوق جديدة للعبوديّة الطوْعية. فهذا الإنسان الهشّ، مُحطَّم الآمال الّذي ابتلعه عالم دون روح أحوج ما يكون للحكمة المشرقيّة.
فهل بمقدُورِ الإنسان بما هو كيْنُونة متعدّدة الرّؤى والرّوافد؛ المعْرِفيّة والجماليّة والأخْلاقيّة صياغة تشريعٍ إنْسيّ كوْنيّ إيتيقيّ تكون "الحكمة المشرقيّة" اللّبنة الأساس فِيه، دُونَ تخلٍّ في الوقت ذاتِهِ عنْ مُنْجَزَاتِ عَصْرِ الأنْوارِ؟
• الهوامش
(1) عاش بيْن 1886 و1951.
(2) رينيه،غينون، الحكمة المشرقيّة، ترجمة توفيق نويرة، دار الأمينة للنّشر، ص25.
(3) المرجع نفسه، ص 28.
(4) المرجع نفسه، ص 26.