د. محمد عبدالقادر ربابعة
باحث وأكاديمي أردني
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك اهتمامًا بالغًا بالفلسفة والفكر في المملكة الأردنيّة الهاشميّة، أخذَ طابعَ الاهتمام المؤسسيّ والشخصيّ، معَ أنّ الاهتمامَ الشخصيَّ يُعَدُّ السِّمَةَ الأبرز؛ إذ أخذ بعض الأفراد على عاتقهم الاهتمامَ بهذينِ الجانبينِ المعرِفِيَّيْن، وظهر ذلك من خلال إنتاجهم الفكريّ الذي يمثِّلُ مشروعًا واضحَ المعالم. وعليه، فإنّ الأستاذ الدكتور فهمي جدعان (1940) والأستاذ الدكتور هشام غصيب (1950) يُعَدّانِ من أبرز مَنِ اهتمَّ بالفكر واشتغلَ بالفلسفة منَ المفكّرين والأكاديميين.
عندما نقول إنَّ د.فهمي جدعان ود.هشام غصيب هما من أبرز المشتغلين بالفكر والفلسفة منَ المفكّرين والأكاديميين الأردنيين، فإنَّنا بهذا الحُكم لا نُنْقِصُ الآخَرينَ حَقَّهُم، لكنَّ المعيار الأهَمَّ الذي اختيرَ بناءً عليه هذينِ الأستاذيْنِ يتمثَّلُ في وجود مشروع فلسفيّ فكريّ واضح المعالِم، قدّم فيه كِلاهُما إسهاماتِهِ الفكريّةَ وطروحاتِهِ الفلسفيّة عبرَ سنين عمرهما المديد، بإذن الله، سواءٌ أكانَ في مؤتمرات أم ندوات أم كتب أم مقابلات.
• الأستاذ الدكتور فهمي جدعان(*)
يُعَدُّ الأستاذ الدكتور فهمي جدعان مفكّرًا عقلانيًّا نقديًّا؛ لِامتيازِهِ بإخضاع الفكر للبحث والتحليل والتشريح انطلاقًا منَ الواقع والتاريخ، وقد كان منطلقُهُ في ذلك جدليّةَ العلاقة بين الفكرة والمادة أو بين النظريّة والتطبيق أو بين الأيديولوجيا والسياسة والدين أو بين الثقافة والسُّلطة قديمًا وحديثًا، فنجدُهُ يكادُ لا يغادرُ إشكاليّة من إشكاليات الواقع العربيّ إلّا وتصّدى لها بكفاءة عالية عَزَّ نظيرُها، فالزمانُ كما يرى جدعانُ أزمانٌ متفاوتة، والمكانُ أيضًا أماكنُ متتابعة.
وممّا تَحسُنُ الإشارةُ إليهِ في هذا السياق أنّ الأستاذَ جدعان يُعَدُّ من أبرز مَنْ قدّم مقاربةً مميّزة وجديّة لإشكاليّة التراث في الفكر العربيّ الإسلاميّ والفكر العربيّ الحديث والمعاصر، وَمَنْ يتابعُ أعمالَهُ الفكريّة يجد أنّ دراساتِهِ في التراث تصدّرت جُلَّها؛ إذ قدّم تصوّراتِهِ الفكريّةَ للدَّور الذي يمكن للتراث العربيّ الإسلاميّ -بوصفِهِ حيًّا- أن يُؤدّيَهُ في قيادةِ حاضر العرب من خلال استنطاق المميّز منه لقيادة واقع الأُمّة ومستقبلها والانطلاق في رَكب الحداثة.
كما سيجدُ المتابعُ أنّ الأستاذَ جدعان ركّزَ أعمالَهُ الفكريّة في حقليّ التراث والتقدُّم؛ فقد عمل في الحقل الأول على الكشف عن هذا الفكر وتجلياته وحلّلَهُ على نحوٍ شامل وعامّ، بإبراز مدى حضور عناصر التراث في الراهن من أزمنتنا وفي المستقبل، أمّا في مجال التقدّم فقد عمد إلى سؤال التقدّم واتصاله بالحاضر؛ بهدف توجيه أفكارنا وأفعالنا وَفقَ ما يمثّلُهُ من مصلحة أكبرَ لأجيالنا القادمة انطلاقًا من واقعنا المعيش، معَ عدم إغفاله للتحدّيات والمخاطر التي تواجهُ أُمَّتَنا على الصُّعُدِ كلِّها.
ويأتي هذا التركيزُ في إنتاجِهِ الفكريّ انطلاقًا من إيمانه بأنّ التراث يشكِّلُ حُضورًا حيًّا وبارزًا في وُجدان الذات العربيّة والمسلمة، الذي يَعُدُّهُ قاعدةً رئيسةً لانطلاق النهضة والتقدّم اللذين يرتكزان على الاستخدام الواعي لجوانب التراث الحيّة بهدف الوصول إلى مُبتغاه.
كما يجد المطَّلِعُ على أعمال الأستاذ جدعان أنّ مسألة التراث حاضرةٌ في أعمالِهِ على نحوٍ بارز، مقترنةً بمسألتي النهضة والتقدّم من جهة، ومرتبطةً من جهةٍ ثانيةٍ بمسألة الحضارة الإنسانيّة عامّة وممكنات فرض وجود العالَم العربيِّ فيها في ظلّ واقع عربيّ وإسلاميّ مرير.
والجواب عن ذلك ليس بالأمر السهل واليسير، لكنّ الذي يُعينُنا على تَلَمُّسِ هذه الإجابة أنّ الأستاذَ جدعان يرى في ما يتعلّق بالجري الحضاريّ في الحدود التي تتعلّق بالذات والغير أنه ليس ثمّة طريقٌ أو معيارٌ واحد، فالطرقُ تتعدّد، ومن أبرزها تلك التي تتطلّبُ العودة إلى المخزون التاريخيّ، ويعني به المخزونَ المتمثلَ في الأبعاد الحضاريّة بالتراث من جهة، وبالعمل وَفقَ استراتيجيّة الاستناد إلى الذات بمعطياتها الموضوعيّة وإدارتها وَفقَ المحور القوميّ التاريخيّ من جهة ثانية، وبالانخراط في حركة الحداثة أو فعلها وما يتمثلُ بها من مدنيّة من جهة ثالثة، بما يضمنُ تمثُّلَ تجرِبة الغير، وفهمَ المتابعِ مِنْ ثَمَّ أنّ اتّباعَ سبيل واحد بُغْيَةَ تجاوز الواقع العربيّ يُعَدُّ مستحيلًا أو نوعًا من ضرب الأحلام.
ولا يفوتنا ههُنا القولُ إنّ السؤال الذي يشكّلُ جزءًا من أفكار الأستاذَ جدعان وفلسفتِهِ تركيزُهُ على طبيعة الصورة التي يجب أن يتشكّلَ عليها التراثُ مستقبلًا، وما ينبغي أن يكون عليه تصوُّرُنا الذهنيُّ وتجسيدُنا العمليُّ المُشَخِّصُ لذلك.
ويمكننا الذَّهابُ معَ جدعانَ في مطارحاتِهِ الفلسفيّةِ والفكريّةِ حَدَّ القول: لكي يكون للتراث مكانةٌ نُمَوْضِعُهُ بها مستقبلًا ينبغي ضرورةً أن يكون التصوُّرُ الذي نقدِّمُهُ قائمًا على أساس أنه عملٌ إبداعيٌّ يتّصِفُ بالصيرورة والتشكُّل، وليس عَدُّهُ تراثًا ناجزًا مكتملًا أو مقدّسًا، بمعنى أنه تامُّ التشكُّل بإطلاق.
ويجد المتابع للأستاذ جدعان أنه ركّز في قراءته للتراث على مجموعة منَ الأُمور وقدّمَ رؤيتَهُ حولَها التي تتمثّلُ في أُمور، أهمّها: ثنائيّةُ الدينيّ والسياسيّ والنزاع الإشكاليّ في ضَوء عدم تحديد اختصاصاتهما، وتأكيدُهُ أنّ المستقبلَ مرهونٌ بالدولة المدنيّة تحديدًا، وضرورة تمكين المرأة فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ووجوب أن يقطعَ المثقَّفُ علاقتَهُ بالسُّلطة، مثل سُبل الاعتياش منها؛ لأنّ إبداع المثقّف ومنطلقَ التغيير مرهونٌ بذلك حتمًا، كما عَدَّ الحريّة -فضلًا عمّا سَلَفَ- شرطًا أساسيًّا لصيانة المُقدّس والدنيويّ معًا.
والحَقُّ إنّ شغفَ متابعةِ أعمال الأستاذ جدعان لا يفترُ ولا ينقضي؛ لأنّ ما يقدّمه من أعمال فكريّة وفلسفيّة يدلُّ على شخصيّة فكريّة قويّة ورصينة تتمتّعُ بِسَعَةٍ في الاطّلاع وقدرةٍ فائقةٍ على التمحيص في التاريخ وقراءةٍ أيديولوجيّةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ عبرَ الزمان والمكان العربيّ والمسلم، ويتّضحُ ذلك جَلِيًّا منَ الموضوعات التي يطرحُها والأفكار التي يعالجُها في كتاباته، وندواته وحواراته؛ ممّا يمكِّنُنا منَ القول إنّ أعمالَهُ تمتازُ بالجِدَّةِ والأصالة، وهذا ما أفرد له مكانةً مرموقةً بين كِبار المفكّرين العربِ والمسلمينَ المعاصرين.
• الأستاذ الكتور هشام غصيب
يُعَدُّ الأستاذ الدكتور هشام غصيب عالمًا ومفكّرًا، امتلك مشروعًا فكريًّا ونهضويًّا بسبب الخبرة والمِراس؛ ممّا مَكَّنَهُ منَ الوعي بالمعرفة والتجرِبة الغربيّة استيعابًا نقديًّا؛ فقد مَدَّ الثقافة العربيّة بالأفكار البنّاءةِ لريادة العمل النهضويّ، انطلاقًا من إيمانه بأهميّة الفكر والعِلم في المجال العامّ، ناهيكَ عنِ امتلاكِهِ تكوينًا فلسفيًّا متقدّمًا؛ ممّا يجعَلُهُ عالمًا وفيلسوفًا في آن، يذكِّرُنا بفلاسفة العِلم الغربيين، وهو بالمناسبة لا يقلُّ عنهم عِلمًا أو فلسفة.
وقد كان لوعيهِ التقليديّ الذي وصفَهُ بـِ"الخلاصيّ" وتجرِبته الحياتيّة والفكريّة في إنجلترا إبّانَ دراسته الجامعيّة دورٌ في اطّلاعه على الأفكار والفلسفة الغربيّة، التي كانت بين مَدٍّ وَجَزر، لكنَّ ذلك لم يَحُل دونَ بحثِهِ عن نُظم فكريّة أُخرى؛ ممّا دفعَهُ إلى الفلسفة، وَجَعَلَهُ مِنْ ثَمَّ فيلسوفًا بالفِطرة، تزامنَ معَ دراسته الفيزياء، معَ ما يثيرُهُ علمُ الفيزياء من إشكاليات فلسفيّة. وعليه، فإنّ خبراتِهِ الفلسفيّةَ تُعَدُّ العاملَ الأهمَّ في حياته الفكريّة والعلميّة.
لكنّ ما يعني المتابع والمهتمَّ بالشأن الفكريّ والفلسفيّ في مسيرة الأستاذ غصيب هو مشروعُهُ العلميُّ والثقافيُّ الذي يقوم على استيعاب التقدّم العلميّ الناجز في عالِم الغرب وعرضِهِ وتقديمِهِ من خلال كتب ودراسات عربيّة، بمعنى عَلْمَنَةِ العمل والفضاء والحياة والتفكير على النَّحو الذي يُمَكِّنُ الشبابَ والمثقفينَ من بناء الأفكار وَوُجهات النظر في العمل والسياسة والاجتماع وأسلوب الحياة على أُسُس علميّة جدليّة تجعلُها تملكُ فرصَ الإبداع كما هي أيضًا موضعُ مراجعة دائمة. لكنّ الأستاذَ غصيب يرى أنّ الأُمّة ما زالت تتعثَّر في سعيها إلى تحقيق ذلك، ولا شكّ في أنّ هذا الإخفاق يرتبط على نحوٍ وثيق بإخفاقنا التاريخيّ في تَمَلُّكِ الحداثة وتحقيق التنمية والعودة إلى التاريخ.
ويرى الأستاذ غصيب أنّ مشروعَهُ بحاجة إلى اهتمام كبير باللُّغة العربيّة؛ لتكونَ قادرةً على استيعاب التقدّم العلميّ ومواكبته، وتأكيدِ العلم بوصفِهِ فكرًا وثقافةً وإنتاجًا اجتماعيًّا رفيعًا، وتأكيدِ العقلانيّة العلميّة التي تشكّلُ المرجعيّةَ الأساسيّة للممارسات العلميّة، وبيانِ جوهرها المتمثّلِ في العلاقة الجدليّة بين النظريّة الرياضيّة والقياس الدقيق، وأنّ العلم لا يعتمدُ أساسًا له سوى العقلِ العلميّ، وحيازةِ أدوات التفكير العلميّ والممارسة العلميّة ومعناها وشرعيّتها، مثل الاستنتاج والاستقراء والاشتقاق والتركيب الجدليّ والاختبار العمليّ والاختبار المخياليّ والنقد والملاحظة الذكيّة، وتعميمِ دراسة ونشر الأفكار العلميّة الثوريّة وتحدّياتها الفكريّة وأصولها الفكريّة والتجريبيّة، كفكرة التطوُّر في البيولوجيا وفكرة الزمكان في النسبيّة وفكرة اللاتحديد في ميكانيك الكَمّ.
والناظِرُ بإمعانٍ في أعمال الأستاذ غصيب الفكريّة يجد طروحاتٍ فكريّةً مهمّةً وغايةً في الجِديّة، كما يلحَظُ تَمَيُّزَها بالجرأة، خصوصًا عندما يطرح علاقة الفكر العربيّ الحديث بالفكر الغربيّ الحديث؛ إذ يرى أنها تتأرجحُ بين ثلاثةِ مواقفَ رئيسة هي: الموقف الاستشراقيّ، وموقف الاستشراق المعكوس، والموقف الاستغرابيّ.
فعند مقاربة الحال العربيّ بما هو عند الغرب، يقول الأستاذ غصيب: إنّ "أوروبا الحديثةَ نجحت في بناء منظومة فكريّة تتولّى تنظيمَ حياة الناس وإرشادهم، وهي الحركةُ الفكريّةُ والعلميّةُ التي سُّميت "التنوير"، وتَعني ببساطة بناءَ الفكر والحضارة استنادًا إلى العِلم والواقع الماديّ وقدرة الإنسان على إنتاج ذاته وبيئته. وقد توّج ماركس هذا المشروع التنويريَّ بروحيّةٍ تاريخيّة جديدة تُومِئُ إلى إنسان جديد ومشروع تاريخيّ جديد".
وما يبرزُ فكرَ الأستاذ غصيب حديثُهُ عنِ الماركسيّة؛ إذ يقولُ إنها كانت فلسفةً أوروبيّة في منشئها؛ فهي تُلَبّي حاجاتٍ كونيّةً ولا تقتصرُ على تلبية حاجات الأُمم الأوروبيّة التي أنتجتها؛ لِذا فإنّ كونَها مستوردةً من منظورنا لا يُضيرُها ولا يُعَدُّ حُجَّةً ضدّ استيعابها وتبنّيها من جانبنا. وعليه، فلا ضَيرَ في استيراد ما نحتاجُ إليه فعلًا، إنّما الضَّيرُ في استيراد ما نتوهَّمُ أننا في حاجة إليه، أو ما يَضُرُّنا، أو ما يُفرَضُ علينا من خارجنا.
بقي أنْ نقولَ إنَّ الأستاذ غصيب يَتَّفِقُ معَ المفكّرينَ العربِ الكِبارِ على أنّهُ لا مَفَرَّ للمشروع النهضويِّ العربيّ مِنَ استيعاب المشروع الفكريّ والعلميّ الغربيّ استيعابًا نقديًّا، ثمّ إعادةِ إنتاج وإبداع مشروع عربيّ، وهي رؤيةٌ تأتي في سياقات الحديث الفكريّ العربيّ النهضويّ، وتعبِّرُ عن أساس فكريّ للتيارات والاتجاهات والمؤسسات والشخصيّات المشتغلةِ بالنهضة.
- - - - - - - - - - -
(*) وقفَ كاتبُ المقال على عدد من كتابات الأستاذ الدكتور فهمي جدعان، منها كتاب "العقل النقدي: دراسات ومقالات مُهداة إلى فهمي جدعان"، إعداد وتحرير وتقديم د.غسان إسماعيل عبدالخالق، عمّان، فضاءات للنشر والتوزيع، 2019.