عارف عادل مرشد
باحث وأكاديمي/ الأردن
باتت أروقة التَّواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي بشتّى مجالاته، تشكِّل بوّابة تمنح الفرصة أمام التَّبادل المجاني للأفكار والآراء بين المواطنين، فما موقع الفلسفة اليوم في هذا الفضاء العولميّ المُغاير؟ وكيف يؤسِّس العقل الفلسفي لذاتِه من جديد أمام سيطرة العقل الافتراضي؟ وهل بإمكان الافتراضي أنْ يختزلَ الفلسفي النَّقدي ويعبِّر عنه في تجلّيات عولميّة قادرة على حلّ إشكالاته؟
تُتيح المجتمعات الافتراضيّة، المتمثِّلة اليوم في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي، لمجتمعات كبيرة من الناس، لم يلتقوا أبدًا في الحياة اليوميّة العاديّة، فرصًا كثيرة للتواصل والتعارف والالتقاء حول اهتمامات وقيم كثيرة ومشتركة، وبالتالي بنسج علاقات اجتماعيّة جديدة، فضلًا عن إمكانات إغناء معارفهم ومعلوماتهم، في أجواء من الاستقلالية والحرية والأمان، ومن المتوقَّع أن تتزايد وتيرة الارتباطات العامة بين الحواسيب في العالم بأسره، وإمكان الوصول الحر والمعمّم إلى الإنترنت والتكنولوجيا المتنقلة، وهذا يعتبر من دعائم ثورة اجتماعية جديدة مُقبلة لعلّنا لا نلمح منها اليوم سوى تجلّياتها الأولى. وهي ثورة تجعل مجموعات واسعة من الناس يعيشون في أماكن نائية ومشتَّتة من الناحية الجغرافيّة، يتواصلون فيما بينهم، وقادرين على إحداث تأثيرات ملموسة في الحياة الاجتماعية والسياسية(1).
وعلى الرّغم من أنَّ هذه الاتصالات تفاعليّة، إلا أنَّ المشتركين في هذه التفاعلات هويّاتهم مختلفة وغير معروفة، فالفرد في التجمُّعات الافتراضيّة يتنكّر في أكثر من شخصيّة، ويستطيع بذلك أن يعيد نفسه في الجماعة ذاتها بأكثر من هويّة، ممّا يشكِّل تحدّيًا أمام دراسة هذه التجمُّعات.
استُخدم مصطلح الفضاء الافتراضي Virtual Space لأوّل مرَّة على يد "ويليام جيبسون" William Gibson (1948) في روايته "الرومانسيون الجدد" (Neu Romancieni) التي نُشرت في الولايات المتحدة الأميركية عام 1984، حيث ينشئ الناس عالمًا، وهو ليس مكانًا واقعيًّا كما أنه ليس فضاءً حقيقيًّا، بل هو مكان خيالي أو وهمي، ينشأ من خلال النَّقر على لوحة مفاتيح الحاسوب. ويُستخدم المصطلح في الوقت الراهن للدلالة على بيئة إنسانية وتكنولوجية جديدة للتعبير والمعلومات والتبادل، وهو يتكوّن أساسًا من الأشخاص الذين ينتمون لكل الأقطار والثقافات واللغات والأعمار والمهن المرتبطة ببعضها بعضًا، عن طريق البنية التحتية الاتصالية التي تسمح بتبادل المعلومات ونقلها بطريقة رقميّة. والمعنى نفسه يشير له مصطلح الفضاء الإلكتروني أو السيبراني Cyber Space.
وإذا كان المجال العام الواقعي يشكِّل بوّابة للمشاركة في تفاعلات متباينة الأنساق والقوة، فإنَّ الإنترنت قد تشكّل فضاءً جديدًا يمنح الفرصة أمام تشكيل مجال عام جديد هو المجال العام الافتراضي. وهو مجال يعتمد على التبادل المجاني للأفكار والآراء بين المواطنين، ويتصف بأنه مجال تفاعلي يعتمد على المشاركة(2).
وفي ظلِّ هذا التغيُّر تُعاد صياغة العديد من التساؤلات المسايرة لهاته التحوُّلات، وتجد الفلسفة ذاتها في هذا المعترك الجديد منتقلة من أروقه المدارس والمعاهد إلى أروقه التواصل الاجتماعي والفضاء الافتراضي بشتّى تجلّياته. لكن هنا نتساءل عن دور الفيلسوف والفلسفة في هذا الفضاء العولمي والعمومي المغاير.
فما موقع الفلسفة اليوم في هذا الفضاء العولمي؟ هل بإمكان الافتراضي أن يختزل الفلسفي النقدي ويعبِّر عنه في تجلّيات عولميّة قادرة على حلّ إشكالاته؟ وما موقع الفلسفة في المجتمعات الافتراضية وما تطرحه من إشكالات ومعالجات؟ وكيف يؤسِّس العقل الفلسفي لذاته من جديد أمام سيطرة العقل الافتراضي؟ ذلك العقل المحكوم والخاضع غالبًا في مناحيه إلى عالم الافتراض، التقنية، التواصل، فهو عقل عولمي محكوم بلغة العولمة ووسائلها، وهو أقرب ما يكون إلى العقل الأداتي، إذ إنَّ العقل الأداتي هو منطق في التفكير وأسلوب في الرؤية العامة، أي أنَّ العالم الاجتماعي أصبح كالطبيعة غير قابل للتغيير ومستقل عن أفعالنا(3).
ومن منظور أنَّ الفلسفة خالدة، وأنَّ الفيلسوف ابن زمانه، فإنَّ الفضاء الافتراضي يجسِّد لوجوديّة جديدة للإنسان عامة وللفيلسوف خصوصًا، فهو يمهِّد لفعل وممارسة فلسفية قد تختلف عن نظيراتها، يؤسِّس لدرس فلسفي جديد مرتكزه العولمي. فمواقع التواصل الاجتماعي تحفل بظهور متزايد وغير مسبوق لحضور النصوص الفلسفية في الفضاء العام، وانتشارًا متصاعد الوتيرة لترجمة مقالات قصيرة من أعمال الفلاسفة الكبار، وعرضها عبر "فيسبوك" أو "تويتر"، بالإضافة إلى مشاركة الأصدقاء، بمقاطع فكرية فلسفية، كوسيلة لحضورنا المُتخيّل على الإنترنت.
وهذه النصوص الفلسفية الرقمية، عادة ما تفتح نوافذ على أفكار أخرى متشابهة أو متناقضة، وكذلك قد تشير إلى مفاهيم ومصطلحات جديدة أو موضوع في سياق مغاير، وهو ما يفتح الأفق أمام القارئ للنفاذ من النص الذي بين يديه إلى عوالم فكرية تثير شهيّته لمزيد من المعرفة.
كما أنَّ هذه المصادر للمعرفة الجديدة على متن الإنترنت تتيح فرصًا نادرة للاستزادة حول موضوع النص، وذلك عبر مشاهدة محاضرات أو مجادلات حولها، وهناك كذلك كثير من مواقع البث المسموع "البودكاست" ((Podcast وجماعات النقاش الفلسفي المعولمة الطابع التي نقلت أعمالها بالكامل في ظلّ الجائحة الحالية (جائحة كورونا) إلى الفضاء الافتراضي، والتي تلقي الضوء على جوانب معيَّنة ونصوص محدَّدة من التراث الفلسفي المتراكم.
غير أنَّ على القارئ للفلسفة على الفضاء الافتراضي أنْ يكونَ حذرًا حتى لا يقع في سوء فهم لمقاصد الفلاسفة، وتشويه أفكارهم واختزالها أو توظيفها في ما لا تحتمل خارج سياقها وبيئتها(4)، ممّا قد يخلق صراعًا ومفارقات افتراضية بعد أن كانت في وقت مضى سجالات واقعيّة، وغالبًا ما تنعكس تلك المفارقات في الحياة الواقعية، كما يتصادم هنا الفيلسوف مع العامي الذي يتلقى الفكرة فيتقبّلها تلقائيًّا أو يرفضها بشكل مطلق، دون تقصٍّ أو نقد.
فالخطاب في الفضاء الافتراضي يتخفّى وراء أيديولوجية التبسيط والتسطيح واكتظاظ المعنى وانغلاقية الجملة والاستناد إلى المرجعيات الأخلاقية الكبرى، لإنكار القارئ أو المؤلف حقه في النقد، وإسقاطه في سلطة النقر (Clic) على الأيقونات والعلامات، واتّباع مساراتها الوهمية الافتراضية اللامتناهية، إلى درجة أننا كثيرًا ما ننقر ونحن في خضمّ عمليّة الإبحار دون الالتفات إلى المحتوى الذي يطلُّ علينا من "النوافذ" المحذّرة، لأنَّنا وقعنا في استعباد ما يخفيه التَّتالي غير المنقطع من الصور المسترسلة والنصوص الثاوية المختلفة، والتي لا نتَّخذ منها أيّ مسافة نقديّة.
فلم يعُد ثمة حيّز يمكن فيه لمستقبلي الرسائل أن "يفكروا" في بدائل ويتخذوا موقفًا نقديًّا حيال الأشياء، فالألفاظ والمنطوقات تلتحم معًا في بنية لا تقبل الانقسام ولا التغيُّر، وتطغى على عقل القارئ ببراءتها الطبيعيّة ومباشرتها، ولا تترك له مجالًا للتمييز بين عناصرها أو تطوير فكر نقدي، لأنَّ الرزمة كلها إنَّما تتحرّك كوحدة واحدة مختومة ومصنّفة. وقد توقَّع "هربرت ماركوز" Herbrt Marcuse (1898- 1979) أن يُحدِث استخدام اللغة المختصرة المستمدّة من عالم التجارة والدعاية استجابات وردود أفغال آليّة لدى البشر. فلقد أصبح الأسلوب التجاري هو أسلوب التعامل مع كل القضايا والأمور، ويشمل هذا الأسلوب رسائل تُرسل عبر "بيتّات" (Bits) -يتمّ في الحواسيب تخزين المعلومات ومعالجتها على شكل بيتّات والبت أصغر وحدة حاملة للمعلومة- في ثوانٍ عدّة تجنّب المناقشات المفصّلة أو المعقدة(5).
ففي هاته اللحظات يؤسِّس المُسبَق والشّائع لذاتِه بقوّة، وهو ما يستدعي تدخُّل الفلسفي وتوجيهه لتدارك ورفع مستوى الوعي، أو إلى نوع من (التنوير الافتراضي) فينتقل بذلك الحوار الفلسفي إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومختلف الوسائط التكنولوجيّة في الاتصال. وهو ما يؤسس فلسفة افتراضية رقمية بدل فلسفة واقعية تجسّدت في المحاورات الفلسفية في الساحات، في المعاهد والمدارس، فمقابل تلك الأروقة الأكاديمية التي تأسست في زمن مضى، هناك الآن أروقه فلسفية افتراضية تتجسّد من خلال مجموعات وصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبواسطه المجلات الإلكترونية، وقد تتأسّس مدارس افتراضية تشترك في الطرح على شكل مجموعات.
وحتى لا يطغى العقل الافتراضي على العقل النقدي الذي لا يتقبَّل الحقائق كما هي، ذلك العقل الرافض للتقليد والتلقين، فقد وضع "يورغن هابرماس" (1929) أسسًا فلسفيّة جديدة عقلانية نقديّة وتواصليّة، من أجل إنجاح المهمة الملقاة على عاتق الفلسفة كفكر نقدي في زمن الـ"جافام" GAFAM)) -اختصار لأبرز شركات التكنولوجيا المعروفه وهي: "جوجل"، "أبل"، "فيسبوك"، "أمازون"، "مايكروسوفت"- تقوم هذه الأسس على المهارات الآتية:
1. أن يقوم الحوار على الحجج العقليّة، والحريّة والاحترام المتبادل بين أطراف الحوار، الأمر الذي يقود بالضرورة إلى نتائج يمكن أن يتوافق عليها الجميع.
2. نقد الرأي الآخر دون مغالاة أو سخرية، فالفلسفة تُكسب دارسها القدرة على التفكير العقلي من خلال عدم قبول ما يلقى عليه من آراء بسهولة، بل بعد التشكيك فيها ونقدها. فإمّا أن تكون نتيجة الشك والنقد رفض هذه الآراء أو يكون نتيجته قبولها بعد تعديلها لتتواءم مع ثقافة المتلقي وقيمه الخاصة.
3. القدرة على التأثير على الآخر عبر الإقناع العقلي وليس الإملائي، إذ لم يعُد هناك أيّ مجال لكي تملي على الآخر آراءك أو عقيدتك، اللهم إلا إذا نجحتَ عبر الحوار والقدرة على الإقناع العقلي أن تقنعه بما تؤمن به أو بما تريد أن يشاركك الاعتقاد فيه(6).
أختتم هذا المقال بالقول: إنَّ رهانات الفلسفة في عالم الفضاء الافتراضي لا بدّ أن تنصبّ على بناء الإنسان في عالمه الفكري والمعرفي، حتى لا يكون ضحيّة للصورة المزيَّفة والوعي المغلوط، لكي يصبح إنسانًا فعّالًا ومنتجًا وليس ضحيّة بنيات تتحكّم في وجوده وأفعاله، وتجعل منه كائنًا دون مشاعر يعاني من الضياع والتشتُّت، أو تدنّي قيمته بفعل الاستلاب والاستهلاك في عالم اليوم، وهو ما عبَّر عنه "ماركوز" بقوله: إنَّ "مشكلة الزمن الحديث هي المحافظة على الذات"، ولن يكون ذلك في عالم اليوم الافتراضي، إلّا بواسطة أدوات فعل التفلسف، والتي ما زالت صالحة في السؤال والشك والنقد والتجاوز والاختلاف والنسبيّة.
• الهوامش:
(1) د.عبدالرزاق الداوي، "الفلسفة في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال الجديدة"، مجلة عالم الفكر، مج41، ع2، كانون الأول/ ديسمبر2012، ص182.
(2) وداد سميشي، "الحوار الإلكتروني والفضاء العام الافتراضي"، مجلة العلوم الإنسانية، الجزائر، ع41، 2014، ص570.
(3) حمزة عايد، "من العقل النقدي إلى العقل الافتراضي: أي دور للفلسفة في فضاء عولمي؟"، مجلة أوراق فلسفية، ع62، 2020، ص237-238.
(4) ندى حطيط، قراءة الفلسفة في زمن "تويتر"، صحيفة الشرق الأوسط، (لندن)، ع 15429، 24 شباط/ فبراير2021.
(5) مصطفى بو قدور، "سلطة الخطاب في الفضاء المعلوماتي"، مجلة تبين الفلسفية، ع11، شتاء 2015، ص49-50.
(6) مصطفى حسن النشار، "الفلسفة ودورها في الحياة المعاصرة"، المؤتمر العلمي الخامس عشر- مناهج التعليم والإعداد للحياة المعاصرة (القاهرة)، مج1، 2003، ص162-163.