عارف عادل مرشد
باحث وأكاديمي/ الأردن
يتساءل "ميشيل فوكو" (1926-1984) في أحد نصوصه التي تعود إلى سنة 1967 عن "أيّ معنى للفلسفة اليوم؟"، وهو سؤال يجيب عنه "فوكو" بتأكيد أنَّ المطلوب من الفلسفة اليوم "ليس أن تكون قولًا كليًّا في الأشياء"، فتجلي لنا "ماهيّة الحياة والموت" و"ماهيّة الحريّة"، فادِّعاء الكليّة قد تلاشى اليوم -بحسب اعتقاد "فوكو"- كي تصبح الفلسفة منشدَّة أكثر إلى "الرّاهن" .
ويقتضي التفكير في الرّاهن طرح أسئلة من قبيل "ما الذي يحدث الآن؟" و"ما هذا الآن الذي نوجد داخله؟"؛ وهو ما يعني أنَّنا إزاء أسئلة حول "الحاضر" وحول شكل وجودنا اليوم.
هذه الأسئلة ليست تمرينًا من باب ترفٍ فكريّ، بل هي عمليّة تحدٍّ للفرد، تدفعه للتفكير مليًّا في إيجاد مسارات عبر ظروف الحياة الإنسانية، ليس فقط ناحية اليوميّات، ولكن أيضًا لأنَّ البقاء في عالمنا الشديد التقلُّب بات يعتمد وبشكل متزايد على أفكار مثيرة للاهتمام بشأن الصيغة التي يمكن فيها للفرد غير المتخصّص الاستفادة من الفلسفة في تحديد توجُّهات بشأن علاقته الشخصيّة بالعالم حوله في ظلِّ انعدام اليقين واستحالة توقُّع المستقبل بأيّ درجة مقبولة من الدقّة.
إنَّ الاشتغال بـِ"الفلسفة" لن يؤتي ثماره دون ربط محتوى مادّتها للحياة الإنسانية بوجه عام، والحياة الشخصيّة للطالب المدرسيّ والجامعيّ بوجه خاص، عن طريق تشجيعه على تكوين آرائه بأسلوب تفسيري يعتمد على إبداء الأسباب المنطقيّة في حالة طرح الآراء واتِّخاذ المواقف المختلفة.
وحتى يتحقَّق هذا الأمر لا بدَّ أن يُعاد لمدارسنا ومجمل جامعاتنا الدَّرس الفلسفيّ بوصفه "نشاطًا" يقوم به الطالب لا "تلقينًا" يؤدّيه المعلم، بحيث يعتمد هذا النشاط على التفكير الواضح، وإصدار الأحكام المؤسَّسة على المنطق لا العاطفة، واختيار الأسئلة اختيارًا منطقيًّا؛ أي أنْ ننمّي في طلابنا ممارسة التفلسف أكثر من مجرَّد تشجيعهم على تذكُّر المعلومات. فالفلسفة ليست مجرَّد نسق معرفيّ، وإنَّما هي منهج في التفكير، يُعوِّد مستخدمه على التفكير الناقد، والسَّعي الحثيث إلى الكشف عن العلل والأسباب، أي أن يتحوَّل تعليم الفلسفة إلى "مواقف حياتيّة" يكون من السهل تعليمها حتى للأطفال.
إنَّ ما نشهده مؤخّرًا من اهتمام بالغ بالنشاط الفلسفي في أردننا الحبيب؛ سواء عن طريق الترجمة والتأليف، أو عن طريق الملتقيات العلميّة، أو عن طريق مناداة العقلاء بضرورة عودة الدَّرس الفلسفيّ إلى مدارسنا وجامعاتنا، لهو أكبر مؤشِّر على مدى أهميّة الأنشطة الفلسفيّة في خلق مواطن صالح يحافظ على هويّته الأصيلة، ويقبَل بثقافة الآخر (علومه، نظمه الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة) دون الذَّوبان المطلق فيها، وذلك بتبنّيها وفق خصوصيّاته الثقافيّة، الأمر الذي سيساعد على ترسيم وإرساء ثقافة السِّلم والحوار داخل مجتمعنا، وفي علاقته مع المجتمعات والثقافات الأخرى، وهو ما يتوافق مع المفهوم الصحيح للدين الإسلامي الذي يدعو إلى التسامح مع الآخر دينًا وثقافةً.
فالفلسفة بقدر ما هي مرآة للواقع الحيّ ومفسِّرة إيّاه، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الألماني "هيجل" بقوله: "الفلسفة هي عصرها ملخَّصًا في الفكر"، فهي أيضًا دافعة إلى التطوُّر والتقدُّم مثلها مثل العلم، وان كانت الرُّؤية الفلسفيّة للتطوُّر والتقدُّم الإنساني تتميَّز دائمًا بأنَّها تكون في اتِّجاه تعظيم قدرات الإنسان على اكتساب أكبر قدر من السعادة، تلك السعادة المتوازنة التي تتيح لكل ملكات الإنسان أن تعمل وأن تتلقّى نتائج عملها بتفاؤل وبنظرة تملؤها الثقة في مستقبل أفضل للبشر.
وتاريخ الفلسفة هو خير شاهد على أنَّ الفيلسوف كان دائمًا سبّاقًا إلى اكتشاف نقطة الانطلاق الجديدة لعصر جديد للتقدُّم البشريّ؛ فعند استعراض تطوُّر الفكر الفلسفي عبر مراحله الرئيسة، مرحلة الفكر الشرقي، مرحلة الفكر اليوناني، مرحلة الفكر في عصر النهضة والعصر الحديث، ثم الفكر المعاصر، نجد أنَّ الفيلسوف لم يكن يومًا منعزلًا عن واقعه الفكريّ، فضلًا عن واقعه الاجتماعيّ والسياسيّ، وإنَّما عبَّر عن كل ذلك وأصبح مرآة له فيما قدَّمه من أفكار فلسفيّة جديدة عبَّرت عن أحلام ورؤى البشر في هذا العصر أو ذاك من عصور التطوُّر البشريّ، وهو في الوقت ذاته رسم لمعاصريه دائمًا الطريق الجديدة للنُّهوض، في الوقت الذي يظنّون فيه أنه لم يعُد هناك الجديد الذي يطرقونه.