د. محمد علي الصويركي
كاتب وباحث أردني
وُلد الشاعر ميلياجروس في مدينة (جدارا:Gadara) التي تقوم على أطلالها اليوم بلدة (أم قيس) الأردنيّة. ويُعدُّ زعيم شعراء المدرسة السوريّة التي ظهرت في أواخر العصر الإسكندري، وهو العصر الذي تزعّمت فيه مدينة الإسكندريّة الحركة الأدبيّة والفكريّة والعلميّة زهاء ثلاثة قرون. ترك لنا هذا الشاعر مقطوعاته الشعريّة (إبجراماته) المتعدِّدة الأغراض، خاصّة في موضوع النّسيب، وبعض المصنّفات الفلسفيّة، ذات الأسلوب الممزوج ما بين الجدّ والهزل.
الشاعر ميلياجروس (Meleagros)، هو زعيم أحد ضروب الشِّعر اليونانيّ المعروف باسم (الإبجرامة)، وهذه الكلمة تفيد بمعناها الحرفي "النَّقش"؛ أي (النَّقش على القبور والنّذور)، أمّا اصطلاحًا: فهي عبارة عن مقطوعة شعريّة تتميَّز بالسلاسة والإيجاز، وتتضمَّن بيانًا وجيزًا عن المتوفى والنّذر، ثم تطوَّرت عن غرضها الأوَّل بعد فترة، واتَّخذها الشعراء أداة يبوحون بها عمّا يختلج في صدورهم من أحاسيس ومشاعر، ويضمِّنونها بعض الأفكار والآراء، وصار من أغراضها: الغزل، الوعظ، وصف الطبيعة، النقد الأدبي أو الاجتماعي، نظرات وتأمُّلات في الحياة، المدح، الهجاء، المرح... مع ملاحظة أنَّ طول الإبجرامة اليونانية لم يزد عن ثمانية أبيات شعريّة أو أكثر قليلًا، مع التزامها باللفظ اليوناني.
يُعدُّ ميلياجروس زعيم شعراء المدرسة السوريّة التي ظهرت في أواخر العصر الإسكندري، وهو العصر الذي تزعّمت فيه مدينة الإسكندرية -عاصمة البطالمة اليونان بمصر- الحركة الأدبية والفكرية والعلمية زهاء ثلاثة قرون، بدأت من القرن الثالث قبل الميلاد، وامتازت مدينة الإسكندرية حينذاك بمبانيها الجميلة، ومعابدها الفخمة، وشوارعها الطويلة الواسعة، وميادينها الرّحبة، وحدائقها الغنّاء، وعرف مجتمعها اليوناني أسباب التّرف واللّهو، وكان لهم فيها مكتبتها الكبيرة، التي تعدُّ مفخرة العالم القديم، وكان لها أكاديميّتها المشهورة التي كان يتقاطر عليها رجالات الأدب والفكر والعلم من كل مكان، وفي ظلِّ هذه الحريّة كان لها الفضل الأكبر على ما جادت به قرائح الشعراء في مختلف فنون الشعر.
• سيرة حياته
وُلد الشاعر ميلياجروس بن يوكراتيس في مدينة (جدارا:Gadara) التي تقوم على أطلالها اليوم بلدة (أم قيس) الحاليّة الواقعة في الطرف الشمالي الغربي من محافظة إربد بالأردن. وقد تمتعت (جدارا) بموقع استراتيجي مهم، كونها تشرف على نهري اليرموك والأردن، وعلى بحيرة طبريا، وقد كانت فيما مضى إحدى مدن رابطة المدن العشر اليونانية (الديكابوليس)، وفي أيام هذا الشاعر كانت (جدارا) مدينة زاهرة تشهد لها بذلك آثارها البالغة الرّوعة، وما تزال بقايا أسوارها القديمة واضحة للعيان، وكذلك أساسات صف كامل من المنازل، وبقايا صفّين من الأعمدة تزيّن شارعها الرئيس، وبها مسرحان في الجهتين الشمالية والغربية منها، ولا تزال الأعمدة المهشّمة وتيجانها مبعثرة في بعص أجزائها، ويمكن رؤية النواويس والقبور المنحوتة في الصخر، كما قُدَّت أبوابها الكبيرة من كتل الحجر الهائلة، وكان لينابيعها الساخنة شهرة عالمية، تلك الموجودة في أسفلها على ضفاف نهر اليرموك، أمّا أراضيها فكانت خصبة جدًا، لكنَّ عاديات الزَّمن، وتتابُع الليالي والأيام، والزلازل، وعبث الإنسان أدّى إلى هدم المدينة، وتحويلها إلى أطلال دارسة، باستثناء بقيّة من معالمها لا تزال صامدة تقاوم عاديات الأيام، وقد قامت على أنقاضها بلدة (أم قيس) الحالية كما أسلفنا.
يبدو أنَّ شاعرنا ميلياجروس قد انحدر من أسرة يونانية الأصل، ويُحتمل أنَّ والده أو جدّه قد رحل إلى سورية واستوطنها، واستقرّ في مدينة (جدارا)، حيث اجتذبت البلاد السورية بعد فتوحات الإسكندر المكدوني الكثير من اليونانيين والمقدونيين، واتخذوا من مدنها موطنًا ثانيًا لهم، فشاعرنا وُلد في جدارا، وفيها نشأ وترعرع، أمّا اسمه فيرجع إلى إحدى الشخصيات الشهيرة في الأساطير اليونانية، فميلياجروس هو ابن (أونيوس) ملك مدينة (كليدون) الواقعة في إحدى جزر اليونان، وقد غضبت عليه الآلهة (آرتيميس) ابنة (زيوس) إله اليونانيين الأكبر لأنه لم يخصّها بالقرابين –كما تروي الأسطورة- فأرسلت إليه خنزيرًا بريًّا ليخرِّب مدينة كليدون، فانبرى له (ميلياجروس) مع جماعة من الأبطال وقضوا عليه، أمّا اسم والده (يوكراتيس) فمعناه: الوديع أو الأنيس.
ولا يُعرف بالتَّحديد اليوم الذي وُلد فيه شاعرنا ولا يوم وفاته، ولكنه عاش ما بين أعوام (120-50) قبل الميلاد، وكل ما نعرفه عن حياته أنه سوري ولد في مدينة جدارا (أم قيس) الحالية، وقضى سني رجولته في مدينة (صور) الفينيقية، وأمضى شيخوخته في جزيرة (كوس)، وأنه يعتبر نفسه مواطنًا عالميًا، وقد توفى في سن متأخرة، وأنه وهب نفسه خادمًا في محراب (إيروس) ابن (أفروديته)، إله الحب والجمال، و(الموساي)، وهنَّ ربّات الشعر والرقص والفنون، و(الخاريتيس)، وهنَّ ربّات الملاحة والفتنة.
وتُشير المنظومة الشعريّة (الإبجرامة) التالية إلى جملة من الحقائق عن هذا الشاعر:
(خفِّف الوطء، أيها الصديق، إذ يرقد بين الموتى الطاهرين، شيخ غمره النوم الأبديّ الذي هو مآل البشريّة، ميلياجروس بن يوكراتيس، الذي أوقد الصلات بين "إيروس" و"ربّات الملاحة والفتنة"، لقد بلغ مبلغ الرجال في "صور" ربيبة السماء، وأرض "جدارا" الطيبة، واحتضنته في شيخوخته "كوس" الحبيبة مهد الميرويين (نسبة الى ميروبس عاهل كوس الذي تسمّى أهل الجزيرة باسمه)، إن كنتَ أيها الصديق سوريًّا، أحييك تحيّة سورية، وإن كنتَ فينيقيًّا، أحييك تحيّة فينيقية، وإن كنتَ يونانيًّا أحييك تحيّة يونانية، حيِّني بمثل ما أحيّيكَ به".
وهذا جلّ ما ذكره الشاعر عن حياته، ويمكننا بمساعدة إنتاجه الأدبي، أن نكوِّن فكرة بسيطة عن حياته، فقد أمضى سنوات طفولته وصباه في مسقط رأسه في مدينة (جدارا)، وتلقّى العلم الأوّلي في مدارسها ومعاهدها العلميّة، فدرس اللغة اليونانية، والفلسفة، والبلاغة، إذْ كانت منارة للآداب والعلوم والثقافة الهلينية اليونانية، وكان يقصدها طلاب العلم من مختلف مدن سوريا والبلاد المجاورة، ولعلّه بدأ بقرض الشعر في صباه، ثم غادر مسقط رأسه (جدارا) إلى مدينة (صور) الفينيقية، وربَّما قصدها لدراسة الفلسفة؛ حيث كان بها مدرسة للفلاسفة المشّائين والرواقيين، وقضى في هذه المدينة زهرة عمره، وفيها جادت قريحته بأجمل أشعاره المسمّاة (إبجراماته) في الحب والنسيب، وصنّف بها بعض الكتب الفلسفية، وبعد أن مكث بها سنين مديدة، وأشرف على الشيخوخة، يمَّم شطر جزيرة "كوس" اليونانية، التي اتصفت بالهدوء والسحر، ربَّما هربًا من مدينة صور الصاخبة الماجنة، ليعيش بقيّة العمر في حياة وادعة هادئة، حيث وافاه فيها أجله المحتوم.
والمطَّلع على أشعاره، يبدو أنه لم يزاول مهنة محدَّدة، فكان ميسور الحال، بل على درجة عالية من الغنى والثراء، ولم يسعَ إلى استجداء الأثرياء، ولم يحاول مدحهم أو تملقهم كما فعل بعض شعراء عصره، ويظهر أنه لم يتزوَّج، حيث عاش حياة بوهيميّة عابثة ألْهته عن الأحداث السياسية التي عاصرته، وعلى العموم لم يكن ميلياجروس إلا شاعرًا، وشاعر نسيب بخاصّة.
• إنتاجه الأدبيّ
ترك هذا الشاعر مقطوعاته الشعرية (إبجراماته) المتعددة الأغراض خاصة في موضوع النسيب، وترك بعض المصنفات الفلسفية، ذات الأسلوب الممزوج ما بين الجدّ والهزل، وهي على غرار مصنّفات (مينيبوس) الجدري (وهو أستاذ ميلياجروس وفيلسوف كلبي عاش في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد)، لكن لم يصلنا منها شيء يُذكر، فموضوعاتها أشبه بالمواعظ الفلسفية الشعبية التي كان الفلاسفة الكلبيون يلقونها على الشعب ترويجًا لفكرة التقشُّف ومحاربة التَّرف والبذخ، ويرجَّح بأنه صنَّف هذه الكتب أو بعضها في مدينة "صور" حيث درس فيها الفلسفة.
أمّا مصنَّفه الذي يدين له الشاعر ببعض شهرته فهو "مختارات شعرية" تسمّى "الإكليل"، وقد صنَّفه في أواخر سني حياته بجزيرة "كوس"، وأهداه إلى صديقه (ديوكليس)، وضمَّنه أشعار ثمانية وأربعين شاعرًا من شعراء العصر الذهبي للشعر اليوناني وعصر الإسكندرية، ولم يصلنا هذا المصنَّف، وقد اعتمد عليه كونستاتينوس كيفيلاس (حوالي 917م) في تصنيف مختاراته المعروفة باسم "الأنثولوجية البالاتينية"، ولكن القصيدة الافتتاحية التي صدَّر بها ميلياجروس "إكليله" قد وصلت إلينا كاملة، ولها قيمة أدبية كبيرة، فقد تضمنت أسماء الشعراء الذين اختار أشعارهم، وكذلك رأيه الشخصي في نفحات كل واحد من هؤلاء الشعراء، فقد شبَّه نفحاتهم بالأشجار والفاكهة والورود والأعشاب بوصفها وسيلة من وسائل النقد، وقد وُفِّق في نقده، ويعود ذلك إلى شاعريّته الأصيلة، وإحساسه المرهف، وحسن تذوُّقه للجمال.
أمّا أشعار "إبجرامات" ميلياجروس التي حفظتها لنا "الأنثولوجية اليونانية" فهي خير ما يمثل ما بلغه شعر الإبجرامة في عصره الذهبيّ، والعصر الإسكندري، في أكمل صوره، وقد أضفى عليها من شاعريّته ما ساعدها على بلوغ ذروة الكمال، واجتمعت سمات الغرب والشرق لأوَّل مرَّة في أشعاره، الغرب بعاطفته الرقيقة الصافية، والشرق بعاطفته المتأجِّجة، فأضحى أسلوبها مزيجًا من الرقّة الهادئة والعاطفة المتَّقدة، والخيال الجامح، والأسلوب المنمَّق المفخَّم.
• نماذج من أشعاره
أمّا أشعاره "إبجراماته" في النسيب فهي تربو على المائة، وما هي إلا صدى أحاسيس وتجارب شخصيّة، ويحكي في أكثرها عن قصص حبّه، فكان يسعى دائمًا وراء حب جديد، حيث وفق مع عشيقاته، فكلهن جميلات فاتنات يفُقن أزهار الروض نضارة، وكنَّ شغله الشاغل، وسعادته وشقاءه، ويبدو في نفحاته الشعرية عابثًا، ماجنًا، مستسلمًا لغرائزه، لا همَّ له إلا السهر بالليل، واحتساء بنت العنب، والمنادمة، وأخذ أكبر قسط من حياة المتعة، حتى غدا الحب في أشعاره عقيدة وعبادة.
إنَّ الشاعر قد خُلق لحياة المتعة؛ للحب ومغامراته، والخمر واللهو، ويبدو ذلك جليًّا في المقطوعة التالية، وهي عبارة عن حوار بين الشاعر ونفسه، فهو يذهب إلى دار معشوقته، طبقًا للتقليد اليوناني، بعد أن احتسى الشراب، ليعلِّق على باب الحبيبة إكليلَ الأزهار:
(فليلق بقطعة النّرد، أوقد المشاعل، إني ذاهب، انظر! يا لها من جرأة، أيها المخمور الثمل! ماذا دهاك؟ سأذهب إليها مستمرحًا... أجل سأذهب، فيمَ تشرُد يا حجاي؟ هل يعرف الحب التردُّد؟ أوقد المشاعل في الحال، وأين حرصك السابق على دراساتك الفلسفية؟ إلى حيث ألقت جهودي المضنية في دراسة الحكمة، إني أوقن بشيء واحد فقط، هو أنَّ "إيروس" قد أطاح بنهى زيوس نفسه).
لقد وقع الشاعر في شراك الحب، وأخذ يعدِّد عشيقاته، ويقسم فيها "لإيروس" بما يستهويه قلبه منهنّ، وأنه لم يعُد مكان في قلبه لحب جديد:
(فلا أقسم بغدائر "تيمو"، ولا بخف "هيليودورا"، ولا بحذر "ديماريون" الذي لا يزال يقطر عطرًا، ولا أقسم بالابتسامة الرقيقة التي لا تفارق شفتي "أنتيكليه" ذات العينين النجلاوتين، ولا بإكليل الزهور النديّة التي يتحلّى بها جبين "دوروثية"، نعم إني لا أقسم يا "إيروس" بأنَّ جعبتك لم تعد تحوي شيئًا من سهامك المارقة، فقد استقرّت كلها في صدري).
كما يتحدَّث عن الإله "إيروس" ويشير إلى سلطانه وجبروته، وصوره كمتوحش مخيف، له جناحان يسابق بهما الريح، ومزوَّد بقوس يصوِّبه نحو القلوب، وله أظافر ينشبها في القلوب فيدميها:
(لا يفارق ضجيج "إيروس" مسمعي أبدًا، وتغرورق عيناي في هدوء بالدموع الحلوة قربانًا على مذابح آلهة الرغبة، فلا الليل ولا النهار يخلدان إلى السكون، فطلسمه المعروف قد استقرَّ في خفايا قلبي، أي آلهة الحب، هل أنتم قادرون فقط على الطيران صوب ضحاياكم العاجزين عن مبارحتهم، فلا تبغون عنهم حولًا".
ويخاطب الشاعر روحه، ويذكِّرها بتحذيره إياها من بطش هذا الإله "إيروس"، ومع ذلك فقد وقعت في المحظور وذاقت الأمرّين:
(أي روحي، ألم أحذّرك بأعلى صوتي؟ ألم أقسم لك "بالقبرصية" أنك سوف تقعين في شباكه؟ ها أنتِ. يا من أضناك الجوى، تطيرين مسرعة إلى حتفك؟ ألم أحذّرك صارخًا؟ ها قد وقعت في الفخ، لم تحاولين عبثًا الخلاص من قيدك؟ قد أحكم "إيروس" نفسه وثاق جناحيك، وألقاك في السعير، وذرّ عليك بخورًا، ولمّا جفّ حلقك، سقاك دمعًا حارًا تطفئين به غلتك).
تغنّى الشاعر بعشيقاته العديدات، وأسرف في إطراء ملاحتهنّ، ومواضع الحسن فيهنّ، وتحدَّث عن علاقته الغرامية بهنّ، ولكنَّ عشيقتين كان لهما الحظوة عنده، وهما "زينوفيلا" و"هيليودورا" اللتان عرفهما في مدينة "صور"، التي قضى بها ربيع حياته، وعبَّ فيها كؤوس المتعة حتى الثمالة، فإن شئنا أن نتعرَّف عليه عاشقًا وشاعرًا، فإنَّ أشعاره في هاتين المعشوقتين وحدهما، لتلقي الضوء على سلوكه وفنِّه وأسلوبه.
فها هو يشير إلى محاسن "زينوفيلا" من حيث جمال إيقاعها، وجاذبية حديثها، وملاحتها تأسر الفؤاد، ويعزو هذا إلى صنع الربّات اللائي أضفين عليها هذه المحاسن:
(إنَّ ربّات الشعر والفنون، ذوات الصوت الرخيم، وقد منحنك مهارة في العزف، وربة الإغراء وقد أضفَت على حديثك الفطنة والجاذبية، و"إيروس" وقد رعى حسنك، قد وهبوك صولجان آلهة الرّغبة، ولمّا كانت ربّات الملاحة والفتنة ثلاثًا، فقد أفضنَ عليك نعمهنّ الثلاث).
وفي المقطوعة الشعريّة التالية التي تشهد بشغف الشاعر بالطبيعة وأزهار الربيع، يتحدَّث عن جمال "زينوفيلا"، فهي الزهرة اليانعة النضرة التي تفوق في نضارتها وعبيرها الأزهار الجميلة ذات الشذى العطر:
(ها هي زهرة البنفسج الأبيض قد تفتَّحت أكمامها، وكذلك النرجس ربيب الغيث، والزنبق أليف الرّبوات، وها هي "زينوفيلا" قد أينعت، إنها بهجة الحب، ووردة الإغراء الحلوة، وزهرة زهرات الربيع، لمَ الفرح، أيتها الرياض المختالة بضفائرك المتلألئة؟ إنَّ محبوبتي تفوق أزهارك العطرة نضارةً وعبيرًا).
كما يتغنّى الشاعر بجمال جسد معشوقته الغضّ، وها هو يضرع إلى البعوض أن يدع "زينوفيلا" تنام في هدوء، ثم يتوعّده بالانتقام إذا ما سوّلت له نفسه مضايقتها:
(أيتها البعوضات ذوات الطنين العالي، أيتها الشرذمة الضعيفة، يا مَن تمتصين دماء البشر، يا وحوش الليل الضارية المجنّحة، دعي "زينوفيلا"، أضرع إليك، تنام قليلًا في سلام، وتعالي إليّ، والتهمي أطرافي هذه، ولكن أتوسّل إليك عبثًا؟ فحتى الوحوش التي لا تعرف للحنان طعمًا، تبتهج بجسدها الغضّ الدفيء، ولكني أنذرك من الآن، أيتها المخلوقات اللعينة، أن ترتدّي عن هذه القحة، وإلا فسوف تقاسين بأس يدي غيور حاقد).
أمّا نفحات الشاعر في محبوبته "هيليودورا" فقد عبَّر فيها عن فيض وجدان صادق، وهيام حقيقي، جعلته في مصاف العشاق الخالدين، فبالغ في إطرائها، والقول إنَّها كانت تفوق ربّات الملاحة والفتنة حُسنًا، وفي حماسة المُحب الغارق في حبّه، يتغنّى بصورتها التي أودعها "إيروس" في قلبه:
(رسم "إيروس" بيديه في حنايا قلبي صورة "هيليودورا" ذات الحديث المعسول، روح الروح).
وقد أعجب الشاعر ببشرة "هيليودورا" الرقيقة المغرية، وقد جذبت بشرتها النحلة فحطّت عليها مؤثرة إيّاها على أزهار الربيع:
(لمَ تهجرين، أيتها النحلة، يا مَن تعيشين على رحيق الزهور، براعم الربيع، وتحطّين على بشرة "هيليودورا"؟ هل أنت فيما تفعلين، تبغين أن تُعلني على الملأ أنَّ لها حلاوة الحب وإبره اللاسعة، صعبة التحمُّل ومفعمة القلب بالآلام؟ أجل يلوح لي أنَّ هذا هو ما تقولين، إليك عنها، وعودي إلى أزهارك، أيتها العابثة، فإنَّ قصتك التي ترجعينها على مسامعي، لقصة معروفة معادة).
استأثرت "هيليودورا" بقلب الشاعر أكثر من "زينوفيلا"، فكتب مرثيّة لها بعد وفاتها، تنهمر فيها العبرات، وتشعُّ في عباراتها الحسرات، وتحمل ذكرى الحب والحنين:
(دموعي، ذكرى حبّي، أهبها لك يا "هيليودورا" في مثواك الأخير، دموعي القاسية الانهمار، أسكبها مدرارًا على قبرك، مزجي الدمع السخين، ذكرى الحب والحنين، ما أحرى "ميلياجروس" بالرثاء والرحمة، فأنا أنتحب عليك، وما زلتِ العزيزة عليّ في موتك، وأئنُّ أنينًا مبرحًا، أقدِّمه قربانًا لا خير فيه للعالم الآخر، واحسرتاه، واحر قلباه، أين صغيرتي الجميلة، بغية قلبي؟ لقد اختطفها إله الموت وسلبني إياها، وعبث بالزهرة المتفتّحة اليانعة، آه... إنني أضرع إليك أيتها الأرض أمّي الحنونة، ويا أم الورى، أن تضمّي في حنان إلى صدرك هذه الوديعة، التي يبكيها الناس قاطبة).
هذه بعض نفحات الشاعر ميلياجروس ابن مدينة جدارا (أم قيس) التي تحكي قصة هذا الشاعر السوري الأردني الذي وهب نفسه للحب ومغامراته العنيفة، فهو يتجلّى فيها عاشقًا كبيرًا، إلا أنه لم يكن مثاليًّا في عشقه، بل كان صريع نزواته، وشهيد خليلاته من بنات الهوى اللعوبات ضمن ثقافة زمنه وبيئته حينذاك، وإنَّ القارئ لأشعاره، ليحسّ بجمال الأسرار، وطلاوة الاعترافات، وروح متعطشة للحب، فقد تبوّأ مكانة مرموقة بين شعراء عصره، وذلك لقدرته على التصوير، وأسلوبه الشيق، وبراعته في قرض الشعر، وتملُّكه ناصية اللغة اليونانية، واستخدام الصور البلاغيّة بمهارة.
هذا هو ميلياجروس الشاعر السوري الأردني الذي تبنّى (إبجرامة) النسيب اليونانية إحدى درر عصر مدينة الإسكندرية الأدبية، فأمدَّها بروح الصّبا، وغمرها بعواطف الشباب الجيّاشة، ونزعاته العارمة، واقتفى أثره شعراء العصور المتعاقبة، وخير مَن تحدَّث عنه الدكتور محمد السلاموني إذ قال:
"أشعَر شعراء الشَّرق الذي كان أوَّل مَن استطاع أن يجمع في نفحاته بين عمق الشرق وطرافته، وصفاء الإغريق ورقّتهم".
- - - - - - - - - - - - - - - - -
* المراجع:
- الأنثولوجية اليونانية.
- ميلياجروس السوري: محمد السلاموني، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 1966.