ميّادة أنور الصّعيدي
كاتبة وأكاديمية من فلسطين- غزة
في قصصِه وظّف العقيلي معجمه الخاصّ الدّال على الزَمن، حيثُ إنَّ إدراكه لماهيَّة الحياة وتحوُّلاتها كانت ضمن محطَّاتٍ مختلفةٍ عاشها ويعايشها، وهو يبْقى على أملٍ أو قلقٍ من الآتي؛ لذا اتّخذ معجم الزَمن حيّزًا واسعًا في قصصه، وتعدّدت الألفاظ الموحية به. وممّا يعكس قدرةَ العقيلي القصصيّة ونضوج تجربته هو التنوّع الزّماني في أجواء القصص، فقد اعتمد في بعضها على تقنيةَ تيار الوعي، وارتكز على الغرائبيّة والتّرميز في بعضها الآخر.
اعتَبَرَ النقّاد الزّمن الشخصيّة الرئيسة في الفنون السّرديّة، لِما له من دورٍ فعّالٍ ومباشرٍ في سيْر الأحداث، وتصوير الشّخصيّة وعوالمها؛ لذا فقد أبرزت قصص العقيلي التّضارب النّفسيّ الذي يعيشه البطل، جرّاء إحساسه بالقلق الدّائم الذّي بدأ يسري في متن السّرد، حتّى اشتدّت وتيرته مع إيقاع الزّمن، وتفاوُت الأحداث ما بين ماضٍ مليء بالذّكريات، وحاضرٍ معاش، ومستقبلٍ مُبهم، ويبدو أنّ هاجس التّوتر من الزَّمن سمةٌ بارزةٌ في إبداع أدباء العصر، بل ويبقى عالقًا في أذهانهم طيلة عمليّة الإبداع، ومردّ ذلك هو التّطوُّر السّريع الذي تشهده الفترة؛ لذا فإنّ الفنّ القصصيّ هو الشّكل المناسب الذي تتبلور فيه سرعة الزّمن، وترصد اضطراب الإنسان وفقده لكلّ معاني الوحدة والانسجام، وعليه فقد كان الزّمن جوهرَ قصص العقيلي؛ لذا كان البحث عن طريقة بنائه في تشكيل شعريّة النّصّ القصصيّ مطلبًا ضروريًّا.
تُعدُّ القصّة فنًّا زمانيًّا يقترب -بشكلٍ كبيرٍ- من فنّ الموسيقى، فضربات الإيقاع تتطلّب انتظار فتراتٍ زمانيّة بينها، ومن هنا فقد لعب الزّمن دورًا مهمًّا في إيقاع أحداث مجموعة القصص، وطبيعة النّسيج اللّغويّ، وفي مدى تشابك كلّ عناصر العمل السّردي وتضافرها معًا(1)؛ لذا فقد كانت سرعة الزّمن أو بطئه هما الإيقاع النّابض أو الرتيب الدّاعي إلى الضّجر والملل في قصص العقيلي، فهي عبارة عن سلسلةٍ متلاحمة الحلقات، تبدأ الحلقة الأولى تتركّب مع بزوغ الشّعور، وتستمر دون توقفٍ أو انقطاعٍ، متضافرةً لتشكّل الفكرة الرئيسة التّي تتلخّص في صراع الإنسان مع الزّمن، الذي رسم بطل القصص، وصوّره على هذه الحال، بيدَ أنّ الزّمن هو المحرّك الخفيّ لمشاعر البطل وتقلّباته الدّاخليّة.
وفي تتبُّع مؤشرات دالّة على الزّمن لوحظ أنّ العقيلي كان مهتمًّا بدرجةٍ كبيرةٍ بالسّاعة وعقاربها، فقد جاء على لسان ساعة:
"نعم. أنا التي أمضـي حياتي من دون شعورٍ به. الوقت. يا لها من مفارقة! لستُ في آخر المطاف، سوى ساعة.. تُضـيع وقتها لتمنح أوقاتكم معنى!"(قصة دوار).
ومن هنا فإنّ الدّورة الآليّة التي تعيشها عقارب السّاعة وتسير على وتيرةٍ واحدةٍ يتمُّ التحكُّم فيها من قِبَل القاصّ هرولةً وإنساءً، تبعًا للإيقاع النّفسيّ لبطل قصصه، إذن فقد أوْلى العقيلي الزّمن النّفسيّ اهتمامًا بارزًا، إذ يتوقف على خبرة البطل وحركته الذّاتيّة؛ لذا فقد يشعر بالنّشوة أو اللّحظة المشرقة التّي تعادل العمر كلّه، وقد يشعر بالرّتابة والضّيق في أوقاتٍ طويلةٍ تمرّ خاويةً رتيبةً فارغةً كأنّها عدم(2)، يقول:
"انهمكْتُ في القراءةِ وفي الكتابة، وفطنْتُ كلّ نصف ساعةٍ إلى وجودي، وأصبح الجرسُ (صديقي) الذي يتفقَّدُني دائمًا، ويُعيدُ التَّوازُنَ لعلاقتي مع العالم... اشتريتُ (دزّينة) من السّاعات... وضبطْتُ كلًّا منها عند وقتٍ معيّن"(قصة تعايش).
ويبدو أنّ القاصّ هنا قد استغلّ وقته جيّدًا، فعلى الرغم من مرور أوقاتٍ عصيبةٍ عليه في عزلته، إلّا أنّه وظّفها بشكّلٍ يضفي متعةً عليه، صانعًا من مرور الزّمن إنجازًا حقيقيًّا له في تأليف روايةٍ كما جاء في ثنايا القصّة، ولكن هذا التّعايش الذّي وصل ذروته من التّفاعل والانسجام سرعان ما تبدّد، وانقلب حاله بسبب خشيته من مرور الوقت دون إنجازٍ أو احتسابٍ لنتائج ذلك، وبدأ القلق يخنقه ليلًا ونهارًا، يقول:
"لكنّني لم أحسب النتائجَ جيّدًا... الكارثة تكمن في ما حدثَ فجرَ اليوم... أفقْتُ هلِعًا على صوتٍ مُزَلْزِل... صوت جرسِ البابِ والمُنبِّهات مجتمعةً، كأنّما أصابها انهيارٌ عصبيٌّ... هرولتُ إلى الشّارع مُعْلِنًا هزيمتي، وها أنذا أكتبُ قِصّتي في المقهى، وقد قرَّرتُ ألّا أعودَ إلى بيتٍ تَسكنُهُ كلُّ تلك الأصوات.. بيت كانَ لي وحدي!"(قصة تعايش).
وهكذا، فقد قرَّر بطل القصّة الهروب من تلك الأصوات التّي تثير ذكرياتٍ في عقله، وتتحكّم في انفعالاته وأفكاره، إذن هي المسؤولة عن الماضي والحاضر والمستقبل، عن ذكرياتٍ له حميميّةٍ مع الأهل والأصحاب خاصّة وهو في عزلته هذه، ومن هنا فقد أعلن البطل هزيمته وهو يحاول صرع الأزمنة المختلفة، ولكن هيهات هيهات. وهنا دعوةٌ مستبطنةٌ لمتلقّيه بأن يتمسّك بوقته الرّاهن، محاولًا الإنجاز؛ لتحقيق الهدف ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بشرط أن يتجاوز مآسيه، وما خزّنه من ذكرياتٍ مؤلمة؛ لتكون دافعًا له، وعليه فإنّ الأعمال التّي يتعبكَ بذارها، ويجهدكَ اليوم ريّها، ستكون لك حين القطاف قُرّة عينٍ ولذّةً لا تنتهي...
إنّ الزّمن هو المشكّل لنسيج حياتنا الدّاخلية "الذي ينساب فيه كما تنساب المياه في مجرى النّهر... وهكذا إيقاع واقعنا النّفسيّ، يركض عندما يكون غنيًّا حافلًا فيكرّ معه الزّمن، ويحبو عندما يكون فقيرًا مجدبًا فيزحف معه الزّمان الذي هو حبلٌ يتجاذب به الحزن والفرح في القلب البشريّ"(3).
يشكِّلُ وقع الزّمن على نفس البطل سيمفونيَّةً تعلو وتيرتها وتهبط، إذْ يحمل تناقضًا على المستوى العميق، فحين يستثار البطل في حاضره يلجأ إلى التّوغل في ماضيه بفعل الذّاكرة، وقد تكونُ بعض ذكرياته مدفونةً في عقله الباطن، إلا أنّها سرعان ما تقفز لسطح حاضره إذا ما أثّر عليه موقفٌ ما دفعه بقوّةٍ لاسترجاع ماضيه؛ ومن هنا يمكن القول إنّ الزّمن في قصص العقيلي قد حمل تناقضًا في بنيته العميقة، يقول:
"كَكُلِّ مساء، يتَّجهونَ إلى اليمين... بينما تقودُكَ خُطاكَ نحو (اليسار)، ثمّ تلتقونَ آخر اللّيل في البيتِ نفسهِ... وحين ينامون لا تنام"(هزائم صغيرة.. هزائم كبيرة).
إنّها الأفكار والذّكريات، والماضي والحاضر، والأنا والآخر، والعقل والعاطفة، ولعلّ هذا التّناقض قد أفصح عن الصّراع النّفسيّ الدّاخليّ خاصّة في اللّيل؛ فقد أدّى إلى تفعيل البنية الدّراميّة ومن ثمّ تكثيف شعريّة القصّ من خلال اعتماد تقنيّات عدّة في إيهام المتلقّي بالبنية الزّمنيّة مثل: القفز بالأحداث، والحذف، والوقف والتّلخيص(4)...
ولقد وظّف العقيلي معجمه الخاصّ الدّال على الزَمن في قصصه، حيثُ إنَّ إدراكه لماهيَّة الحياة وتحوّلاتها بما فيها من محسَّات ومجردات، كانت ضمن محطَّاتٍ مختلفةٍ عاشها ويعايشها لحظةً بلحظةٍ كونه شابًّا مثقّفًا(5)، وقد يبْقَىْ على أملٍ أو قلقٍ من الآتي؛ لذا اتّخذ معجم الزَمن حيّزًا واسعًا في قصص العقيلي، وتعدّدت الألفاظ الموحية به، يقول:
"الزّمن.. الأزل.. المدى.. الماضـي.. الحاضـر.. المستقبل... كلّها لا تعني لي شـيئًا، يا حسـرتي، لا أحسّها، وحسْبي أن أعيشُها"(قصة دوار).
وارتبطت ألفاظ الزّمن بالحالة الشّعوريَّة لشخصيّات العقيلي، فقد يريد بطل القصّة أن يرجع به الزَّمن حيثُ طفولته أو شبابه؛ كي ينبش في ماضيه، ويستعيد طعم ذكرياته، ويعيش حالة لجوءٍ عاطفيّ وفكريّ؛ لإزاحة قبح الواقع في محاولة للتّشبّث بالنَّفْسِ(6)، يقول:
"...تُقلِّبُ نظركَ في ما حولكَ؛ كأنّكَ ترَكْتَهُ البارحة... وثمّةَ صوتان؛ واحدٌ يُغريكَ بالبقاء، والآخر يندَهُكَ من غياهبِ الأعماق... لكنَّكَ الآن... تحزمُ أمتعتَكَ باتّجاه الماضي، محفوفًا بالنَّدم، ومشتعِلًا بالنّحيب"(نقوش الرّاحلين).
ويبدو واضحًا أنّ بطل القصّة واقعًا بين ثنائيتين متضادّتين هما: الماضي، والحاضر؛ لذا فإنّ شعور القلق يلازمه، ولكنّه في نهاية المطاف ينتصر للماضي ويبقى رهين ذكرياته، وقد يشعر بطل القصّة بالإحباط واليأس جرّاء عدم تحقيق آماله، فيقول:
"يا لحظّي! تصوّروا كم مؤلمٌ أن يفنى الكائنُ في العمل.. والثمن؛ أدفعه من حياتي!"(قصة دوار).
ومن هنا يكون الزّمن هو المشكّل الرئيس لأحداث قصص العقيلي، ولو عاد القارئ لقصّة "نقوش الرّاحلين"؛ لتبيّن ذلك بجلاء واتّضح له أنّ الصّورة التّي آلت إليها حالة البطل هي نتيجة تراكماتٍ ماضية، وذكريات جمعت بين البطل وحبيبته "سلمى"، فبعد عودته من غربته يسترجع ذكرياته، ولقد عبّر العقيلي عن ذلك بتوظيف الأفعال الماضية، حتّى في حاضر البطل كان الزّمن هو العامل الرئيس، والمحرّك الأساس لعواطفه، يقول:
"الآن ينجلي أمامكَ المشهدُ كاملًا... لَوَّحتْ لكَ... لَمْ تودِّعْها كما يليقُ بحبيبين يفترقان. سرَتْ في خلاياكَ قشعريرةٌ لم تكُنْ مخلصًا لها بما يكفي"(قصة نقوش الرّاحلين).
لذلك كلّه فقد كان عامل الزَّمن هو الدّافع الأوّل لتهيّج الذّكريات لدى البطل؛ فتظلُّ أوجاعه تتدافع في القلب، فيئنُ من ألم الهجر وما اعترى روحه من حنينٍ.
وعليه، يمكن القول إنَّ العقيلي لم يقتصر التّعبير عن الزّمن بأدواته الصّريحة أو بتقسيماته المتعارف عليها: ماضٍ، ومضارع، وأمر، بل جاء منفتحًا على دلالاتٍ متعدّدةٍ مرتبطًا بالحالة الانفعاليَّة لشخصيّات قصصه بحسب تجربتها.
وممّا يعكس قدرةَ العقيلي القصصيّة ونضوج تجربته هو التنوّع الزّماني في أجواء القصص، فقد اعتمد في قصة "نقوش الراحلين" على تقنيةَ تيار الوعي(7)، وارتكز بالمقابل على الغرائبيّة والتّرميز في قصّة "الرأس والمرآة"، فقد أشار بها إلى مدى اختلاف الفكر بين الماضي والحاضر، وجاء لفظ "الرأس" مجاز مرسل علاقته مكانيّة، فالأفكار محلّها العقل الذّي يحمله الرّأس، ورمَّز بـ"المرآة" لانعكاس الحاضر، أمّا في قصّة "الجولة الأخيرة" فقد رسم العقيلي مشاهد حدثت مع "أبي عقاب"، وكيف أنّه يعاني منذ زمنٍ مع زوجته ومعارفه، وقصّة "طقوس" التّي وصف خلالها ترتيبات الكاتب الذّي يتهيّأ للكتابة، وهو يمارس طقوسًا مرتّبةً على حساب عنايته بالكتابة نفسها. وعلى ذلك قد تبيّن أنّ تباعد زمن كتابة هذه القصص أدّى إلى تباعد أجوائها القصصيّة، مع إمكانيّة تأويل القرّاء أحداث القصص كلٌّ بحسب وجهة نظره.
ومن هنا، فقد برز عنصر التّشويق في الزّمن القصصيّ عند العقيلي؛ لإثارة المتلقي ودفعه لاستكمال القراءة ومتابعتها بشغفٍ، ويكمن التّشويق في الغموض اللّذيذ، فلا يدري القارئ أكان قد حدث المشهد في الماضي أم الحاضر إلّا بعد تمحيصٍ، ومن هنا فقد أتقن القاصّ التّحكّم بلغته، بحيث لا تحتوي ترتيبًا منطقيًّا للأحداث، وتتضمّن مراوغة المتلقّي؛ وذلك على أساس أنّ القاصّ انطلق من لحظة الصّفر الزّمني؛ ليفرّغ ما جال في مخيّلته من أحداثٍ، موصّلًا شحنات الذّاكرة، محدثًا تماسًّا مع الحاضر.
• الهوامش:
1- ينظر: العالم، محمود أمين: الرواية بين زمنيتها وزمنها- مقاربة مبدئية عامة، مجلة فصول، مج12، ع1، 1993، ص13.
2- ينظر: الصديقي، عبداللطيف: الزمان أبعاده وبنيته، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1995، ص119.
3- شاهين، سمير الحاج: لحظة الأبديّة- دراسة الزمان في أدب القرن العشرين، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1980، ط1، ص15.
4- ينظر: بوتور، ميشال: بحوث في الرواية الجديدة، تر.فريد أنطونيونس، منشورات عويدات، بيروت، ط2، 1982، ص100.
5- فوغالي، باديس: الزَّمان والمكان في الشعر الجاهلي، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2008، ط1، ص89.
6- ينظر: مجموعة من الكتَّاب والكاتبات، الكتابة النّسائيَّة محكي الأنا محكي الحياة، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2007، ط1، ص7.
7- تيار الوعي: من خلاله يُسمح للقارئ الاطّلاع على الأفكار الحميميَّة التي تعتمل داخل الشخصيَّة، وفيه يغيب التّرتيب المنطقيّ للأفكار، ويفسح المجال للتداعي الحرّ والتّكرار والحُلم والاستباق، وتداخل الأزمنة، ينظر: القاضي، محمَّد، وآخرون: معجم السّرديَّات، دار محمد علي للنشر، تونس، مكتبة الأدب العربيّ، ط1، 2010، ص126.