هاشم غرايبة
كاتب وروائي أردني
"راكين" ليست رواية خطيّة يتنامى فيها السَّرد من الحدث إلى العقدة ثم الحلول المقترحة والخاتمة، بل تعتمد على سرد ينداح دوائر يتَّسع تموُّجها حدّ التَّلاشي، أو تضيق دوائرها، ثم تلتحم وتنفصل، وتتجدَّد، وفقًا لتدفُّق ذاكرة الرّاوي "محمد"، حيث يتدفَّق السَّرد مثل آلة تستقبل الزَّمن طازجًا وتُخرجه ماضيًا، تتحسَّس الواقع بتفاصيله وتُعيد إنتاجه تاريخًا. "راكين" نمط جديد في الكتابة وسرد ما بعد حداثي تختلط فيه السيرة بالتاريخ بالواقع، وتمتزج الحكاية التراثيّة بالنص الحديث.
في البدء كانت "راكين".
(أنظُر إلى الله في عليائه وأهمس: يا ربّ ما سرّ المطر؟! ما سرّ العشق؟ ما سرّ امرأة ينحني القلبُ أمامها وينكسر؟! تساؤلاتٌ كثيرة تكبر في أعماقنا كلّما تقدّم بنا العمر. عبرت الشارع تحت المطر، مدرسة قديمة هنا ربَّما من مائة عام وأكثر. آثارنا هنا منذ آلاف السنين، أضرحة وكنائس وآبار وبيوت عتيقة وكهوف. للصخر حكمته العظيمة في نقش الوجود).
(السماءُ الغائمة تجلب المطرَ والحزنَ. أين يستريح المتعبون من أنفسهم؟!).
المطرُ هنا طقسٌ للكتابة ومفتاح أحداثها..
(إنَّها تمطر الآن في حارة المسيحيّة، شارع الخضر، حارة الحباشنة، شارع القلعة، دار دليوان المجالي، دوّار صلاح الدين، مواقف باصات قرى البرارشة، والشهابية، القلعة والكنائس والمساجد. مطر في كل مكان يلامس وجوهَ المارّة القليلين، أيقظ في ذاكرتي مشخص المجالي، والشيخ إبراهيم وزوجته عليا الضمور وهي تصرخ: "النار ولا العار"، " المنيّة ولا الدنيّة". حرقوا أبناءها والدَّخيل يختبئ في حماهم داخل الخيمة. قلبُ أمّ صامد وشفتان تكوّرتا بزغرودة لا تنطفئ للأبد. كوميض البرق تنطفئ أمام عينيّ أشياء وتضيء أخرى).
تتمتَّع هذه الرواية بفوضى الحياة واحتمالاتها.. كالمطر الذي يحضر ويغيب بحسب اخضرار السَّرد أو جفاف الحلق وقسوة الأحداث ووجع النّوائب.
تبدأ الرِّواية بحادثة واقعيّة. حادثة دهس "أبو ساهر المعايطة" وريث مكتبة "خزانة الجاحظ"، وتنتهي مع جائحة كورونا:
(جدّو تراك ع اللايف يا جدّو، كل الناس تشوفك وتسمع حسّك. حانت منّي التفاتة نحوهم جميعًا وهم يتجمهرون متلهِّفين للنَّجاة من وباء اسمه الكورونا. همستُ لنفسي: ترى هل يمكننا تخيُّل ما ستكون عليه الحياة لو التقينا بعد هذه المحنة؟!).
"راكين" ليست رواية خطيّة يتنامى فيها السَّرد من الحدث إلى العقدة ثم الحلول المقترحة والخاتمة، بل تعتمد على سرد ينداح دوائر يتَّسع تموُّجها حدّ التَّلاشي أو تضيق دوائرها، ثم تلتحم وتنفصل، وتتجدَّد؛ وفقًا لتدفُّق ذاكرة الرّاوي محمد "أو الروائيّة نهال" حيث يتدفَّق السَّرد مثل آلة تستقبل الزَّمن طازجًا وتخرجه ماضيًا، تتحسَّس الواقع بتفاصيله وتعيد إنتاجه تاريخًا.
"لاحظ (جورج لوكاتش) أنَّ الرِّوائي يشكِّل عالمه السَّردي من تفكيك الواقع وإعادة بنائه المخيالي متَّكئًا على ما اختزنته الذاكرة من الماضي في محاولة لإضاءة المستقبل..".
إنَّها رواية "الآن هنا"؛ الآن في زمن الكورونا والإرهاب والفساد.. وهنا في الأردن؛ عمّان، راكين، المكتبة، المقهى، المنزل، الحقل، والـ"فيسبوك" أيضًا..
(امتلأ الشارع بالشَّتائم أغلقوه بالغضب. شاع الخبر كأنهُ نارٌ في الهشيم. رأيتُ وجهَ خديجة جامدًا كأنه منحوت من صخر، تولول وتصيح: يا ميمتي يا معاذ، أحرقوه، مجرمين مجرمين هذول مش بشر..).
(لكلِّ شيء مفتاح، تساءلتُ: ترى بماذا فكّر معاذ وهو في العاصفة عالقًا في ماء النهر البارد ساعات طويلة؟! ما الذي خطر بباله؟! الحياة أم الموت؟!).
الرّغبة هي الحياة. أكتب لأرتاح. وأحسُّ بنفسي.. أحسُّ لا أكثر.. يقول الرّاوي "محمد"- (الراوية نهال الكامنة في ظلِّ عائشة بثقافتها الشاملة): "لتفوح رائحة الموسيقى"، ولتعرِّفنا على غويا وسلمان رشدي ويوسف زيدان ودستويفسكي وشكسبير والسيدة جوديفا ومروان البطوش وابن الوردي وغوغان.. والهجيني (محمد يرد الحمل لا مال)..
هكذا تحاول الذاكرة أنْ تذيبَ في مصهرها الخاص كل ما دبَّ على وجه التجربة في الماضي وما في التجربة من فواعل، وتسجيل أبرزها أثرًا وأكثرها إثارة للعقل، ووخزًا للذائقة. فتشكِّله فنًّا يجعل الزمن أخفّ وزنًا والمكان أكثر شفافيّة والإنسان أجمل. في عالم يفتقر للمنطق واللُّطف.
(وحلفت بحياة كوفي عنان وعمر البشير وهيومن رايتس ورأس ترامب الذي يمتلئ جنونا وخططًا جهنميّة، طمأنتها بأنني لم أنشر على الفيسبوك منذ مدة..).
ثمّة ترابط زمكاني يذكِّر بانحناء الزَّمن عند "أينشتاين"؛ كلّما تقدَّمتْ الرواية تتَّضح صورة شخوصها وتترسَّخ الشخصيتان المركزيتان (محمد وعائشة) كمرجعيّة للمكان والزمان، الأمر الذي جعل الرواية تنهج نهجًا سرديًّا يربط المكان بالإنسان، فيتشكَّل الزمن وفقًا للمكان والحضور الإنساني فيه، ويتلوّنان بما تمنحه لهما العلاقات الإنسانية من وهج.
في "راكين" تكتشف نهال انبعاج الزَّمن، فيختلط في الذهن الحاضر والماضي والمستقبل كمفاهيم نسبيّة.. مثلًا: الوقت ينساب بطيئًا في قرية راكين. بينما الزَّمن يمرُّ سريعًا في عمّان وبتسارع كبير في وسائل االتواصل الاجتماعي "الفيسبوك هنا". أليس كذلك؟
الزمن -زمن الرواية- لا يسير بخط مستقيم. بل يسير وفق تدفُّقه عبر مصهر المخيال الروائي. ها هي نهال تفتح ذاكرة عائشة "قطب الرِّواية المُشع". فتروي لبطل الرواية وراويها الافتراضي "محمد" سيرتها:
(حياتي تنبع من أعماقي وحدي، وكأنني جئتُ الحياة وحملتُ عدّة الوحدة منذ الصغر، كبرتُ بصحبة الأشياء الصامتة، الدمى والكتب والأوراق والأقلام والغناء والموسيٍقى ونافذة تطّلُّ على الأشجار العالية والسَّحاب والكراسي وبوّابة واسعة وغروب الشمس ومطر الشتاء، صنعتُ عرائسي الصغيرة من خرق بالية، خيَّطتُ لها أعين بلاستيكيّة من أزرار ملوّنة. صحبتُ قطتي كثيرًا وكلبي والبطّة والخروف والأرنب وطائر الحبش، طرتُ كالفراشة بين صديقاتي، أقيمُ معهنّ الدنيا وأقعدها، نمسك أيدي بعضنا بعضًا ونردّد فتّحت الوردة، غمّضت الوردة. وأعود عند غياب الشمس أنتظر عودة أمي وقلبي ممتلئ بالوحدة. كانت تغلق الدكان الكبير وحين تعود تنام من شدّة التعب. حدَّثتني أحيانًا عن عمّان بيوتها القديمة سناسل الحجارة. عمّان مدينة المياه قديمًا، امتلأ صحن المدينة بالبيوت، وبدأ رؤساء القبائل ينزحون ناحية الجبل، جبل عمّان. مدينة الجبال السبعة والقصور والبنايات العالية والفنادق والشركات الكبيرة. حدّثتني عائشة عن عربة بائع الكعك التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر).
ثم تتحدَّث عائشة "شعلة الحكاية وقطبها المتوهِّج" تتحدَّث عن "الندبة"/ "الصفعة" التي تلقَّتها من أبيها ومعايير الذكورة المزدوجة.
نمط جديد في الكتابة وسرد ما بعد حداثي تختلط فيه السيرة بالتاريخ بالواقع، وتمتزج الحكاية التراثيّة بالنص الحديث. أيضًا ثمة تقنيات تتعلق بتقنية الكولاج، الشذرات النصيّة المنتقاة، تهجين النص، الكولاج الذي يعبر التجارب التوافقية، تزامن سرد حدثين أو أكثر في أماكن مختلفة، التجاور بين الثقافات، الاختزال الزمني، الانتقال السريع من حدث لآخر من حكاية لأخرى إلى حدّ التداخُل.
(زارني جدي ليلة أمس، جدّي الذي التقى الثوّار على محطة سكة القطرانة حاملًا خزانة كتبه، تنقّل بين دمشق وبغداد، واستقرَّ في القدس، وقرب حائط البراق عام 1921 أسّس خزانة الجاحظ،... بالأمس رأيتُ جدّي في الحلم، كعادته يحمل بيده اليمنى عصاه ويلفّ على ساعده عباءته. كان غاضبًا، وبّخني بشدّة وقال: ألستم رجالًا كيف تُسرقون في وضح النهار؟ رأيتُ نفسي من فرط خوفي أركض في العتمة، أركض.. قلبي في يدي، والبيوت الكثيرة التي سكنتها ترتجف في جيوبي، والشوارع التي قطعتها مكتظّة بالغرباء، ما أكثر الغرباء هنا في عمّان!! كانوا يدفعونني بقوّة بأيديهم وهم يقولون: اهرب اهرب بغنائمك الرّخيصة أيها المجنون).
أبواب متداخلة تقود إلى حكايات لا نهائيّة، مجازات تنساب بسلاسة، اشتباك بين الواقع والمخيّلة لا نشعر به. اختلاف النسج بين صفحة وأخرى يزيد (المنسوجة- النص) تماسكًا وجمالًا! والمثير في هذا النص أنَّنا كقرّاء، يمكننا إضافة حكايات أخرى من تلك التي نخنزنها في أذهاننا لنضيفها إلى هذه المتاهة العاطفيّة التي لا مدخل إليها ولا مخرج منها، بل هي رحلة دائريّة في صوت الحكّاء الذي لا يتوقف عن السرد.
ترمي نهال عقيل بحجارتها في المياه الرّاكدة، فتثير دوائر موج لا متناهية، تنساب بسلاسة واشتباك مع الشِّعر والسينما والرَّسم وصفحات متباعدة من التاريخ والجغرافيا والطبيعة الأردنية والثقافة الشعبية. ويتنقَّل بنا "محمد" السارد لابنه قاسم وزوجته خديجة والصاحب "القرين" "المكتبجي" الغائب الحاضر.. كل هؤلاء يحضرون متلفّعين بالشِّعر والموسيقى والرَّسم، فتتوالد النصوص داخل الحكاية المركزيّة (عائشة ومحمد- كما قيس وليلى)، وتتعدَّد الأصوات والاستطرادات من الخاص إلى العام..
(القلعة، القلعة، هذا أنت وهذا السلاح. ثم صاح: عزّة شواربنا أسوار الكرك، مش حجارها بس، سنطفئ عين الشيطان، الكلاب في القلعة يطلقون النار).
لغة شفافة ترفع العاميّة الكركيّة إلى فضاء البلاغة، وترق ناعمة وهي تتفاعل مع لوحة جوديفا، ومقولات شكسبير وأشعار مروان بطوش..
وتتنوَّع خيوط النسيج الروائي؛ تنوُّع في الألوان، في الروائح، في المواصفات.. وتتجلّى مهارة السارد/ الساردة في خلق التآلف في المختلف. وصهر التجربة الفردية في بوتقة النسيج الاجتماعي الأردني. والوصف الخارجي يفتح مغاليق الداخل: النفس البشرية وأسرارها. البيوت وخصوصياتها، الوطن وأوجاعه!!
نتجوَّل في الرِّواية مع تنهُّدات أبطالها وصخبهم الذي يعبِّر عن اضطراب الواقع من حولنا، ونجد صدى زفراتنا وتنهُّداتنا في مواجهة الهزائم وقسوتها.
مع نهال عقيل ومن خلال "راكين" الرِّواية والقرية والطفلة الواعدة؛ نعبُر إلى الوطن والتاريخ والجغرافيا.. والمستقبل، لنتعلّم شيئًا عن الحب، والوطنيّة، ومعنى اللهاث في عالم يعجّ بالمتناقضات.
تعدَّدت مصطلحات الأسلوبيّة، ومفاهيمها، وآليات اشتغالها، ويعتبر الانزياحُ مِن أشهر المفاهيم الحداثية التي تجلّت في هذه الرواية عبر الكلمات المفتاحيّة، ومن خلال الانزياح في التغيُّر الدلالي للمواقف والتشبيهات، التقديم والتأخير لغويًّا وزمنيًّا، اختيار اللفظ الملائم للمتكلم، المعنى الخفي غالبًا والظاهر أحيانًا، الانزياح الاستدلالي، إنَّها رواية الانزياحات بامتياز؛ انزياح القيم والمفاهيم، انزياح الرمز والإشارة، انزياح الدال والمدلول.. انزياح مفاهيم قارّة عن الزواج والنجاح والفشل والموت والحياة، والعبور بنا نحن القرّاء إلى حقل الشغف بالمعرفة والتفاصيل التي تصنع الفرق، وشغف التناصات مع إبداعات البشر قديمها وحديثها، بالفصحى البليغة وبالعاميّة الكركيّة وإيقاعاتها.
(أنت حبلى منذ أشهر طويلة، منظركِ مُغرٍ، وكأنَّ طفلكِ رجل انطوائي يدفن نفسه في مكان ما حين تمشين، وخصوصًا حين تتصفَّحين كتابا أو تدّخنين. بحبّكي... ولم أنجب ولدًا أنجبت راكين، بنت لا تعرف الانطواء أبدًا. الرسام يرسمني الآن، بورتريه بقلم رصاص. شعور مدهش حقًّا، لم أجرِّبه من قبل).
"راكين" هي الماضي والمستقبل.
"راكين" رواية منسوجة بخيوط ملوَّنة، كل خيط جاءت به الرِّوائيّة نهال عقيل من زمان ما ومن مكان ما، تمتح من عالم صغير بحجم الكرة الأرضيّة، وتنطلق من عالم كبير بحجم راكين. فكانت رواية راكين التي نقحت فيها نهال عقيل من روحها فصارت وطنًا، وصارت حكاية إنسانيّة، وصارت نصًّا مؤنسًا وممتعًا ومحرِّضًا في آن معًا.