د. دلال عنبتاوي
كاتبة وناقدة أردنية
تقوم فكرة كتاب "إرث الدم" على الصراع القائم في الحياة والوجود بين الضحيّة والجلّاد، ويؤكد المؤلف أنَّ الوقائع والتاريخ والشواهد تمنحنا الدلائل على أنَّ العلاقة بين الجلاد والضحيّة هي علاقة تشابك وتماثل واتِّصال، وليست قطع وانفصال، وهي علاقة ظليّة بين التابع والمتبوع، وكما أنَّ السيد لا يستطيع التخلّي عن رفاهِه بطرد العبد، فإنَّ الأخير يقرُّ في نفسه أنه لا يستطيع العيش دون سيِّد.
• عتبة العنوان
إنَّ فكرةَ الإرث فكرةٌ جدليّةٌ محيِّرة بعض الشيء؛ فجذور التَّعامل معها يُحيل إلى دلالات هذه اللفظة دينيًّا، إذْ عادةً ما يكون هناك وارث وموروث لشيء مادي. وقد وردت هذه اللفظة في الكثير من اشتقاقاتها في اللغة، وظهرت في كثير من تمثُّلاتها في القرآن الكريم. وكلمة إرث في أصلها اللغويّ مصدر ورث في لغة العرب ولسانهم، قال ابن فارس في معجم "مقاييس اللغة": "الواو والراء والثاء: كلمة واحدة هي الورث، والميراث أصله الواو (موراث) وهو أن يصير الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب".
إذن، هناك مادة تنتقل بين طرفين، لكن اللافت هنا أنَّ الإرث كان "الدم" الذي ارتبط به عنوان الكتاب. إنَّ توظيف كلمة "الدم" في النص وغيره غالبًا ما يتمّ لأهميَّتها ولحضورها في الحياة المعيشة ولأبعادها اللغويّة والعلميّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلأنَّها ترتبط بالمادة الأساسيّة المكوِّنة للحياة، فهي تشكِّل في وجودها الدّعامة الرَّئيسة لحياة الكائن الحيّ.
• إرث االدم: العلاقة المُلتبسة بين الجلّاد والضحيّة
قامت فكرة هذا الكتاب على الصراع القائم في الحياة والوجود أصلًا بين الضحيّة والجلّاد، وبين (المحتل/ المستعمِر/ المسيطِر) و(المستعمَرالمسيطَر عليه)، أو -كما جاء في مقدمة الكتاب- بين "غالب ومغلوب تشكّلا انطلاقًا من الحياة والزمن، حتّى اتّخذا شكلًا في الحضور واللغة من الصَّعب تجاوزه، يقفان على مربّع واحد وضمن بقعةٍ جغرافيّةٍ محدّدة، ومساحة وزمن واحد، مُحاط بكثير من الخوف والرّهبة والمصير المجهول لكليهما". واستطاع الكاتب أن يعبِّر عن المنتصر والمهزوم في أدقّ تمثُّلات وجودهما في هذه الحياة عبر قناة قويّة لسائلٍ ذي لون أحمر مميَّز هو "الدم".
تتجلى الثيمة الرئيسة في كتاب نشوان "إرث الدم" عبر توضيح تلك العلاقة بين الضحيّة والجلّاد وأشكال وجودها، وقد يبدو للوهلة الأولى وكأنَّ الكاتب لا ينتصر لطرف من الطرفين، خاصة في بحثِه حول تمثُّلات العلاقة من زاوية الجلّاد، لكنه (الكاتب) وبوعي منه انحاز إلى الوقوف مع المهزوم والمستعمَر (بفتح العين) وهو المغلوب، مقابل المستعمِر (بكسر العين) وهو الغالب، وقد سعى نشوان إلى طرح أشكال وتمثُّلات كل من الغالب والمغلوب عبر عناوين موحية معبِّرة:
"في البَدء كان المنفى"، "الاجتماع وفكرةُ السُّلطة"، "تبادُليّة الخطاب"، "ولادة الجلَّاد والضحيّة في الأسطورة"، "الصديق العدوّ"، "مجتمعاتُ ما بعد الاستعمار"، "سرديّة الموت/ الخلود"، "احتلال اللّغة/ العقل"، "الصدمةُ والخوف"، "الخروج من نمطيّة الصورة"، "قهريّات الحداثة"، "الثنائيّات الزائفة"، "الضحيّة تحرّر الجلَّاد".
سارت هذه العناوين بشكل متوازٍ وسلس، وسَعَتْ للوصول إلى خاتمة تفضي للوصول إلى نتيجة والتي غالبًا ما تكون على صعيد الواقع محسومة لصالح مَن ينتصر ويصير غالبًا فيها، وفي الوقت ذاته يتوارى المغلوب فيها منزويًا مكسورًا؛ ففي العتبة التي اقترنت بالرقم (1) يبيِّن نشوان أنَّ فكرة العلاقة بين الجلاد والضحية في أساسها كانت تقوم على نوع من العلاقة الضديّة/ الانتهاكيّة التي تُخضِع جسد الضحيّة وعقله لسيطرتها بتفكيك سيادته على نفسه وسلب إرادته.
وتأخذنا العتبة التي حملت رقم (2) إلى الحديث عن الظواهر التي بقيت غامضة في العلاقات الإنسانية، والتي من أهمها تلك الرغبة في النفس البشرية بامتلاك القوة/ السلطة للسيطرة على الآخر وتجريده من ذاتيّته وتحويله إلى تابع، وقد كشف الكاتب في هذه العتبة أنَّ الفن والأدب رصدا ضمن حقولهما المختلفة في الرِّواية والشعر والمسرح والسينما صورًا متنوِّعة لتلك العلاقة الغامضة، التي تمنح الأشياء والشخصيات والمواقف قيمًا مختلفة ومتناقضة.
ينتقل الكاتب إلى الحديث عن متلازمة الأضداد التي يعدّها أمرًا يثير التساؤلات والاهتمام، ولعلَّ أهم تلك الأسئلة تتمركز حول: هل يمكن للأضداد أن تجتمع وتتآلف مع بعضها بعضًا؟ وقد سعى للبحث عن الإجابة من خلال عرض توصيف الباحثين لتلك العلاقة بين الضحية والجلاد، وجاءت بعدد من الأوصاف منها "متلازمة الأضداد" و"متلازمة ستوكهولم"، وكلها تشير إلى تعاطف الضحيّة مع الجلّاد، وأنَّ الضحية والجلاد يطوِّران سلوكهما لتكريس نمط لحماية الحياة التي أسّست للعلاقة بينهما وشروطها.
في الباب المُعنوَن "في البدء كان المنفى" يشير الكاتب إلى قصة آدم وحواء، وأنَّ بدايتهما كانت بالنَّفي الذي يتحوَّل فيما بعد إلى اختيار للحياة، ويؤكد أنه ليس من المصادفة أنْ تقومَ أولى الحكايات الإنسانية؛ قصة آدم وحواء، على فكرة الإغواء/ الخطيئة، ثم الطرد/ المنفى/ المعرفة/ الولادة/ الحياة/ الموت، وكذلك قصة الهبوط إلى الأرض، ومن ثم المرور بالكثير من المحطات وصولًا الى الفناء الذي يطال الجلاد والضحية معًا في النهاية.
وحول "الاجتماع وفكرة السلطة" وتجليات حضور الضحية والجلاد، فإنَّ الكاتب يبحث في موضوع الثنائيات التي يتجلّى ويتمظهر فيها حضور الضحية والجلاد في الطبيعة ومملكة الحيوان والنبات، ومفارقاتهما التي لا تخلو من الالتباس والتعقيد، فيبيِّن أنَّ فكرة السلطة والقتل والاغتصاب بحضورها تعبِّر عن الخوف كشعور أوّلي للدفاع عن الذات، وأنَّ العنف هو حالة فرديّة قبل أن يتحوَّل إلى منظومة ثقافيّة ورمزيّات كرنفاليّة، ويرى الكاتب أنَّ لا شيء يُعلي من الشعور بالسلطة أكثر من خوف الخاضعين وشعورهم بالذُّعر.
أمّا في حديثه عن "تبادليّة الخطاب"، فإنَّ الكاتب يرى أنَّ النص في الغالب يتكئ على فكرة التبادليّة التي يقصد بها ظهور الخطاب بتعبيره الواضح والسافر والفاضح عن تلك العلاقة التي ربطت بين الضحية والجلاد، وأوجدت لغة سريّة خفيّة تعبِّر عن تبادل وتواصل ما، وتشابهات تعمِّق الغموض والالتباس للمُتابع، وتتجلّى في السلوك واللغة والرمزيات. وفي باب "ولادة الجلاد والضحية في الأسطورة" يشير نشوان إلى الصلة القويّة بين الأسطورة والتاريخ والأدب، وأنها كانت تحتِّم ضرورة الاستفادة من المادة الأسطورية كمصدر للمادة التاريخية، وهو يؤكد أنَّ الأسطورة في الأساس جاءت تعبيرًا أدبيًّا عن أنشطة الإنسان القديم الذي لم يكن قد طوَّر بعد أسلوبًا للكتابة التاريخية، ولأنَّ الأدب والفن موازيان للأسطورة، فقد بقيا مخلصين لروحها لأنَّها مثَّلت بالنسبة لهما لحظة ذهنيّة إبداعيّة عبَّرت بشكل مكثَّف ومختلط عن علاقة الإنسان مع محيطه الخارجي.
تحت عنوان "الصديق العدو" يكشف الكاتب أنَّ العلاقة بين الأفراد في البنية المجتمعية غالبًا ما تتأرجح بين إطارين هما القبول والرفض، والحب والكراهية. ويؤكد هنا أنَّ الوقائع والتاريخ والشواهد تمنحنا الدلائل على أنَّ العلاقة بين الجلاد والضحيّة هي علاقة تشابك وتماثل واتِّصال وليست قطع وانفصال حسب، وإنَّما هي علاقة ظليّة بين التابع والمتبوع، وكما أنَّ السيد لا يستطيع التخلّي عن رفاهِه بطرد العبد، فإنَّ الأخير يقرّ في نفسه أنه لا يستطيع العيش دون سيِّد، لذا نجد الكاتب يقول تحت عنوان "مجتمعات ما بعد الاستعمار": لم يكن الاستعمار مجرَّد احتلال لأرض خاوية، بل مؤسسة تقوم على السيطرة على المكان والإنسان وتطوِّع الإنسان لخدمة مصالحها انطلاقًا من إعادة إنتاج الكائن ثقافيًّا بتهديم مؤسساته المعرفيّة وتشويه منظوماته الاجتماعيّة، ليغدو المجتمع مرتبطًا ارتباطًا عضويًّا مع المستعمر، وهو ارتباط تابعي استلابي.
ويوضّح الكاتب أنَّ اللغة في المجتمع التابع لم تنجُ من التشويه والتعطيل، بل تحوَّلت إلى أداة للقهر والإذعان، وكان من نتيجة احتلال اللغة/ العقل تحوُّلها من وسيلة للمعرفة والتواصل إلى أداة قهريّة مليئة بالترميزات والعلاقات الإشاريّة والآليات التي تشوِّه معرفة الذات، وتقوّي الذات المستعمِرة (بكسر الميم) وتؤدّي إلى تشويه الرُّؤية.
في سردية الموت/ الخلود يتحدث الكاتب عن ثنائيّة الموت/ الحياة بوصفها ظاهرة وجوديّة تختلف عن تناول ثنائيّة الجلاد/ الضحية بوصفها ظاهرة ثقافيّة؛ فالعنف كفعل قهري يحوِّل الإنسان إلى كائن قدري مستلَب، ويحوِّله أيضًا إلى كائن متمرِّد يبحث عن الخلود انطلاقًا من العنف الذي يجده ذريعة للدفاع عن النفس. يعدُّ الكاتب الفن والأدب والنصوص والكتابة والنقش والنحت وغيرها وسيلة الإنسان للخلود، وكانت وسيلته للانتقال من المرحلة الشفاهيّة إلى التدوين والكتابة بما تحمل تلك الانتقالات من تحوُّل في المنظومات والهياكل الفكريّة والعقليّة.
ويؤكد الكاتب أنَّ احتلال اللغة/ العقل يأخذ بُعدًا مهمًّا لأننا لا نستطيع التواصل دون لغة محكيّة مكتوبة أو إشاريّة، ومن المستحيل السيطرة على الآخر دون معرفة لتلك اللغة، ومن الأكيد أنَّ الهيمنة تبدأ باحتلال اللغة؛ ذلك لأنَّ اللغة تشكِّل في حضورها علامة مهمّة على وجود الإنسان وتعاطيه مع الرموز، واللغة كائن حيّ تتعرَّض للنموّ والضّعف، وتكمن أهمية الأدب والفن في كونهما مرآتين تعكسان صورة الإنسان في قوَّته وضعفه وانتصاره وهزيمته، وأنهما تكشفان عن عدد من البلاغات التي تتَّصل بالطاقة التي تملكها للغزو/ الاحتلال والسيطرة/ السلطة. وعلى الرغم من مخاتلة اللغة وتخفّياتها؛ فإنها لا تستطيع إخفاء علامات ورموز وسمات الضحية وهيبة وجبروت الجلاد الذي تنطوي لغته غالبًا على مفردات باردة حدّ الموت، وتختار زمانها المستقبلي الذي يوفره الحس بالسيطرة، إذ تبدو اللغة في العلاقة بين الجلاد والضحية وفق شكلين يتعالى فيهما طرف على الآخر. ويبيِّن الكاتب أنَّ الأسطورة والنصوص الأدبية والفنية التي تناولت العلاقة بين الضحية والجلاد عبَّرت بصور كثيرة ومعنى واحد يختزل بلاغة اللغة وغموضها ومكائدها التي حملتها من الأسطورة وأمراض لغتها عندما واجهت لحظة الموت.
تحت عنوان "الخروج من نمطيّة الصورة" يشير الكاتب إلى أنَّ الصورة التي برزت في العلاقة بين الجلاد والضحية، الغالب والمغلوب، تقع في غالبية النصوص الكتابية الأدبية والثقافية والفنية البصرية بين حدَّي المشابهة والتقليد والانفصال والإقصاء. ويبيِّن أنَّ من أكثر النصوص التباسًا في التراث العربي بين الجلاد والضحيّة هي حكايات "ألف ليلة وليلة"، ويؤكد هنا أنَّ القراءة البعيدة عن شرط الكتابة التاريخي، والتحوُّلات الاجتماعية والصراعات القائمة وقتداك، أو النظر إليها بوصفها حكايات للمتعة وتزجية الوقت، تضلِّل القارئ والناقد في آن معًا، وتلغي وظيفة اللغة، ومسوغات البلاغات والتقنيات والأساليب المخاتلة، والرمزيات التي وظفت، وتسهم في غياب الضحية الحقيقيّ الذي كتب النص في أثناء صراعه مع السلطة.