هند سليمان
كاتبة أردنية
Hindsuln67@gmail.com
لَم يغِبْ عن خاطر شاعر الأردن "عرار" أُنسه بتلِّ إربد إلى الحدّ الذي أوصى أنْ تُوارى عظامه في ثراه: "وقُلن لصحبي واروا بعض أعظمه.. في تلّ إربدَ أو في سفح شيحانِ"، كان يعلم بقلب الشاعر وروح المتمرِّد ما احتضن التلّ بين أذرعِه وما ترامى على جوانبِه من تاريخٍ شهد عُمرَ إربد ونضجها، وما عبق في أثيره من روائح المقيمين، وما ضجَّ فيه من أصوات العابرين.
إربد هي تلّ إربد. هذا ما قاله كل مَن تحدَّث عن التلّ وتاريخه وعمرانه وساكنيه. هو الشيخ الذي يطلُّ بوجهه على المدينة بأكملها، يسرد قصصها، ويحكي عمرها من بدايات نشأتها وباكورة نضجها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
تلّ إربد هو تلّ صناعي يعود تاريخ بنائه إلى 2500 قبل الميلاد، حيث أظهر تأريخ آثاره وجود الحياة فيه لِما يعود إلى العصر البرونزي.
وهو مركز المدينة، ترامت على جوانبه وجوه الحياة، وبدأت معالم المدينة تنتشر على امتداده من كلِّ الجهات. فعلى امتداد الجنوب منه يتواجد السوق بكل تنوُّعاته من سوق الجلود وهو أقدم سوق في إربد، إلى سوق الصّاغة وسوق الطيور، وسوق الحميديّة الذي تُباع فيه الأقمشة ولوازم الخيّاطين بشكل رئيس.
أمّا من جهة الغرب فيمتدّ التلّ نحو منطقة البارحة والتي تشكِّل إربد القديمة بحواريها وشوارعها وعوائلها.
يطلُّ شمال التلّ على مخيَّم إربد للّاجئين الفلسطينيّين، والذي يفصله عنه مقبرة التلّ. حيث رأى التلّ بعين الشيخ وجع اللُّجوء وغربة الشّتات.
ويطلُّ التلّ على سوق "البالة" للملابس المستعملة والذي يحيط بشرقه كأنَّه سور، وسوق البخاريّة الذي يُعدُّ أقدم سوق بعد سوق الجلود.
يُحاط التلّ بسور ضخم مبني من الحجارة البازلتيّة الضخمة. وما زالت بقاياه ماثلة في الطّرف الغربيّ من التلّ حيث هُدم لتوسعة الشارع المجاور.
لم يحتوِ تلّ إربد نفسه على المحلات التجارية بسبب ارتفاعه الذي يجعل حركة الناس إليه شاقّة. فامتدَّت المحال التجارية والأسواق على محاذاته من جهة الجنوب إلى الجنوب الغربي.
جدير بالذكر أنَّ التلّ هو السبب في انتشار هذه الأسواق لضمان وصول ساكنيه إليها وقضاء حوائجهم منها. فقد ذُكر أنَّ الأثرياء من سكان إربد كانوا يفضِّلون العيش على التلّ لتجنُّب أدخنة المدافئ المنتشرة من البيوت المقامة على امتداد جوانبه.
يُذكر من أهميّة الامتداد الجنوبي الغربي للتلّ وجود تجمُّع مائي عزَّز حيويّة المكان وتفضيل الناس الإقامة وممارسة طقوس الحياة فيه. تمثَّل هذا التجمُّع في بركة ماء مربَّعة الشكل واسعة المساحة بعمق ما يقترب من المتر أقامها الرومان وأقاموا على جوانبها آبارًا سبعة تتجمّع فيها مياه الأمطار وتفيض لتمتلئ البركة بالماء الزائد منها. كان سكان إربد يفدون إلى هذه الآبار للتزوُّد بالماء النقيّ لاستخداماتهم اليومية المختلفة. تناقل المحدثون أنَّ عمق البئر اقترب من السبعة أمتار وأنَّ شكله إجاصيّ. وقد بيَّنت الشواهد أنَّ فوّهة كل بئر كانت مغطاة بحجر بازلتي كبير دائري الشكل يتوسطه فتحة تسمح بدخول الدّلو منه وسحب الماء من البئر. كما يعمل هذا الحجر على منع وصول الأتربة إلى ماء البئر ويحمي الواردين إليه للتزوُّد بالماء من السقوط فيه. كل واحد من هذه الحجارة البازلتية يسمى "خرزة"؛ وهذا سبب شهرة إربد بالخرزات السّبع، ولم تتواجد في كل المملكة إلّا فيها. هذا وقد خلّد ذكرها عرار حين قال في قصيدته الشهيرة في رثاء عمّه فؤاد التلّ بعد عودته من المنفى:
يا إربد الخرزات حيّاكِ الحيا
رغم الجفاءِ ورغم كل تقاطعِ
أجمعت الأحاديث المنقولة على ارتباط عدد من العشائر في إربد بهذه الخرزات حيث كانت كل عشيرة منها تسيطر على بئر تسمى خرزته باسمها. هذه العشائر هي التلول، العبندات، الحجازات، آل دلقموني، الشرايري، الخريسات والحتاملة. إلا أنَّ بعضهم لا يؤيِّد هذا القول لِما يولّد من حساسية لدى عائلات إربد الأخرى.
بدأ الناس بالاستغناء عن الآبار المحيطة بالبِركة بعد إقامة تمديدات للمياه من عين راحوب شرق إربد سنة 1934م حيث أقيم خزّان كبير على التلّ ليعمل ارتفاعه على زيادة تدفُّق الماء في المواسير إلى المناطق المحيطة به. وقد تفرّع من الخزّان أنابيب عدة تصل إلى المناطق المجاورة وتزوِّد أهلها بالماء ومنها مخيَّم إربد الذي وصله أنبوب طويل مزوَّد بصنبور كانت نساء المخيَّم يفدن إليه للتزوُّد بالماء.
أمّا البركة، فقد قام عليها مجمَّع للباصات عُرف بمجمَّع الأغوار القديم والذي اشتدَّت الحاجة إليه بعد نزوح الفلسطينيين إلى المخيَّم.
ظهْر التلّ هو راوٍ لقصة تحكي تاريخًا عريقًا، وحضارة زاهية، وتراثًا أصيلًا.
قام عليه مسجد الأمير حسن وكنيسة القديس جاورجيوس؛ دارا عبادة تعانقت ظلالهما في سرد لوحدة الحال بين أصحاب الديانتين. فكان المسلم يبتهج في مناسبات أخيه المسيحي، والمسيحي يُسرُّ في أعياد المسلمين، حتى إنَّ النساء المسيحيات فيما يُروى كُنّ يرتدين غطاء الرأس والثوب الطويل تيمُّنًا بجاراتهن المسلمات، وتأكيدًا على وحدة العادات والمشاعر.
ضربت المدارس بجذورها أرض التلّ. فيها تهجّأت الأجيال أبجديّات الوطنيّة، وتشبَّعت بحب العلم. ومنها انطلق المثقفون والشعراء والسياسيون يرسمون شكل الأردن الثقافي والسياسي والاجتماعي.
أعرق تلك المدارس مدرسة "حسن كامل الصباح" التي قامت على الجهة الشرقية من التل. وكانت هي أول مدرسة في إربد وثاني مدرسة في إمارة الشرق إضافة إلى مدرسة "السلط".
بنيت المدرسة في العام 1900م. كانت في ذلك الوقت مدرسة ابتدائية سميت بالمدرسة "الرشيدية"، واحتوت على ستة صفوف. في العام 1922م جمع الأهالي التبرُّعات لتوسعة المدرسة فأصبحت تحتوي على أحد عشر صفًا مجهزًا ليتخرج الفوج الأوّل من طلبتها في العام 1927. وكان أوَّل مَن استلم إدارتها الأستاذ إسماعيل شركس الذي أدارها بالحكمة والحزم.
يرى القادم إلى المدرسة على أحد جدرانها أبياتًا من الشعر على لسان السلطان العثماني تضمَّنت في معناها حبّ العلم وحبّ الخير والهمّة العالية في السّعي لتحصيل العلم.
في العام 1958م أُطلق على المدرسة اسم "حسن كامل الصباح" تخليدًا لذكرى المخترع اللبناني الذي قدَّم الكثير في الرياضيات والهندسة الكهربائيّة.
على السفح الجنوبي للتلّ، وبجوار المسجد والكنيسة يقع بيت عرار شاهدًا على تراث معماري، وإرث ثقافي، واهتمام بالصحة والعلم على مدى قرن من الزمان. بناه صالح مصطفى التلّ والد الشاعر مصطفى وهبي التلّ في العام 1888م من حجر البازلت الأسود. كان البيت يتألف من غرفتين وفناء كبير مرصوف بحجر القرطيان الوردي. في العام 1905 أجريت توسعة للبيت وأضيفت له ملاحق ليتضمّن خمس غرف وليوانتين (ليوانة: هي الساحة الصغيرة) بالإضافة إلى الفناء الكبير الذي تتجذَّر فيه شجرة توت كبيرة لا زالت راسخة إلى اليوم.
وقد مرَّ بهذا البيت سكان كثر وتحوَّل من بيت إلى مدرسة تارة، وإلى مستشفى تارة أخرى. سكنته عائلة عرار منذ قام والده ببنائه ومن ثم أقام فيه المستشار البريطاني "سمر سميث" زمن الانتداب البريطاني في فلسطين. وفي العام 1918 تحوَّل البيت إلى مدرسة لمدة ثلاث سنوات عادت بعدها العائلة لتسكنه في العام 1922. بعد ذلك أقام فيه طبيب بريطاني من أصل هندي يدعى "سنيان" والذي بدوره حوَّله إلى مستشفى لمدة خمس سنوات إلى أن أقام فيه الدكتور محمد صبحي أبوغنيمة والذي اتَّخذه سكنًا وعيادة إلى الوقت الذي أقام الشاعر عرار في بيت عائلته. وفي العام 1944 حوَّل محمود أبوغنيمة البيت إلى مدرسة العروبة الابتدائيّة حتى العام 1957 الذي عادت فيه العائلة للسّكن في البيت مرّة أخرى. وتوارثه الأبناء والأحفاد حتى آلت ملكيّته إلى شقيقات عرار وقمن بتحويله إلى وقف لذكراه في العام 1988. في الحادي والثلاثين من شهر آذار عام 1989 تمَّ نقل رفات عرار من مقبرة التلّ إلى بيت عرار ليبقى ضريحه شاهدًا على ثقل البيت الثقافي والسياسي والاجتماعي. وفي العام 1994 قامت وزارة الثقافة بإعلان البيت دارة ثقافية ووجهة للزوّار والسيّاح، وساحة لإقامة الفعاليّات الثقافيّة المتنوّعة.
يشاهد زائر بيت عرار بالإضافة للمعمار الجميل مكتبة عرار وكرسيّه وصوره، والكتب والمؤلفات التي تتضمّن سيرته وأشعاره ومراحل نضاله.
الشارع الذي يقع فيه بيت عرار يقابله مبنى ضخم يعتبر قلعة بناها العثمانيون عام 1886م واتَّخذوها مقرًّا للحكم العثماني أطلقوا عليها اسم السرايا. مع تأسيس إمارة شرق الأردن تحوَّل المبنى إلى مقرّ أمني شامل. وفي العام 1929 خُصِّص جزء منه كسجن عرف باسم سجن إربد حتى مطلع التسعينات حيث تملَّكته دائرة الآثار العامة وحوَّلته إلى متحف السرايا.
تكوّن سجن السرايا من عدد ممّا كان يسمّى "القواويش" أي المهاجع. الشمالي منها لأصحاب المشاكل الدائمة، والجنوبي لأصحاب الأحكام الطويلة والمعتقلين السياسيين، والشرقي لأصحاب الأحكام المتوسطة. بالإضافة لذلك كان في السجن غرفة لعليّة القوم والأثرياء، وغرفة النَّظارة وغرفة مطبخ وأخرى للغسيل، ومَرافق السجن الأخرى.
بعد تحويله إلى متحف تحوَّلت المهاجع إلى قاعات للعرض كل واحدة لها اسم يميِّزها تعرض فيها الآثار والفسيفساء والأواني الفخاريّة.
على السفح الجنوبي الغربي للتلّ يقوم بيت علي خلقي الشرايري صاحب السيرة النضالية والسياسية، والمشارك في الثورة العربية الكبرى. بُني البيت في العام 1908م، وكان مسرحًا للّقاءات والمشاورات الوطنية وتوقيع الاتفاقيات. شهد البيت الكثير من الأحداث السياسية وزاره شخصيات نضالية وسياسية متعددة. فقد زاره الأمير عبدالله بن الحسين والشيخ عزالدين القسام، وياسر العظمة. كما زاره "تشرشل" و"لورنس العرب"، ممّا يدلّ على أهميّة المنزل الوطنيّة والسياسيّة.
أقامت عائلة خلقي الشرايري في البيت حتى عام 1985، تمَّ بعدها إزالة جزء منه لعمل التوسعة اللازمة لشارع البارحة. وبقي البيت مهجورًا حتى بداية التسعينات إلى أن تمَّ تأجيره منجرة ثم مَحْددة من بعد ذلك.
قامت بلدية إربد بامتلاك البيت لِما له من تاريخ سياسي، واتَّخذت جزءًا منه كمتحف يضمُّ كتبًا عن رجالات السياسة في الشمال وإنجازاتهم الوطنية. ويضمّ كذلك صورًا تاريخيّة ووثائق تخص الاتفاقيات والمعاهدات التي وُقِّعت في هذا المنزل.
في العام 1920 قدِم إلى التلّ تاجر من سوريا وأقام بيتًا على الجهة الغربيّة منه سمّي "بيت النابلسي". يُعتبر هذا البيت تحفة معمارية، حيث بناه النابلسي على طراز البيوت الشاميّة القديمة المكوَّنة من طابقين؛ الأرضي ويضمّ غرفًا وفناءً كبيرًا تميّزه حجارة أرضيّته وشجرة الليمون الكبيرة فيه والنافورة التي تتوسّطه. بالإضافة لبئر ماء يصل عمقه عشرة أمتار تتجمَّع فيه مياه الأمطار عبر قناة خارجيّة. أمّا الطابق الثاني فيضمّ غرفًا أخرى ويربطه بالطابق الأرضي درج مكشوف.
حجارة البناء المنحوتة، وزجاج النوافذ الملوّن والفناء جميعها مَنَحتْ البيت جماله الخاص، وأهميّته المعماريّة.
بقي البيت مُستخدمًا لسكن عائلة النابلسي حتى العام 1965 تحوّل بعدها إلى مدرسة للإناث لمدة بسيطة إلى أن استملكته بلدية إربد للحفاظ عليه لقيمته التراثيّة والمعماريّة التي ارتبطت بنشأة المدينة.
قامت وزارة السياحة بتجهيز غرفة كبيرة في البيت لعرض المشغولات اليدويّة التي تُنجزها نساء الجمعيات الخيرية. بالإضافة إلى غرفة أخرى جهَّزتها بالفرش والبسط التراثيّة. وقد سمحت بقيام النشاطات والفعاليات الثقافية في "بيت النابلسي".
هذا هو تلّ إربد، سورها الحامي، وحارسها الذي لم تغفل عيناه يومًا عن حراستها، وشيخها الذي احتضن إلى صدره التاريخ والنضال والشعر والعلم، ووزَّع بيديه على جوانبه أسواق إربد وشوارعها، والأب الذي تناسلت منه المدينة أحياءً وحاراتٍ وعائلاتٍ والكثير من الأبناء الذين يأمل التلّ أن يعرفوه كما عرفه كلّ مَن عاش على ارتفاعه ومشى على امتداده فأحبّه وألقى عليه السَّلام.