مقدمة الملف:
يُعتبرُ حسن حنفي من أصحاب المشاريع الفكرية في العالم العربي. وعندما ننعت مفكرًا ما بأنه صاحب مشروع، فهذا يعني أنَّ مشروعه ينضوي تحت ثلاثة أبعاد: تصوُّرات حول الماضي، ومقاربات حول الواقع الراهن، بالإضافة لتشوُّفات حول المستقبل. فلا بدّ له ابتداء من فهم التراث واستلهامه واستملاكه كمبادأة أولية، بالإضافة لاستلهام واستملاك جوهر الحداثة الغربية التي تتسيَّد عالم اليوم على الأصعدة كافة؛ الفلسفية والسياسية والعلمية والحضارية والقوة الاقتصادية. هذان العنصران يشكلان عند صاحب المشروع الفكري رافدين أساسيْن من أجل فهم الواقع العربي الراهن وتقديم مقاربات راهنة لهذا الواقع تقود بالضرورة إلى انبثاق مشروع النهضة المتعثر والسير قدمًا نحو الحداثة.
وعندما نستعرض النتاج الفكري لحسن حنفي فسوف نكتشف بسهولة وجود هذه الفضاءات الثلاثة في مشروعه. وقد نحَتَ حنفي تعبيرًا خاصًّا به لنعت الفضاءات السابقة عندما أطلق عليها "الجبهات الثلاث". وتشير هذه الجبهات الثلاث إلى جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدَّد، ولكل جبهة من هذه الجبهات مؤلفات وعناوين خاصة بها. فالجبهة الأولى جاءت تحت مسمى "الموقف من التراث"، والجبهة الثانية جاءت تحت مسمى "الموقف من التراث الغربي"؛ فدراسة الوافد الغربي واحتوائه واستملاكه جاءت عند حنفي تحت مسمّى علم الاستغراب. أمّا الجبهة الثالثة فجاءت عنده تحت مسمى "موقفنا من الواقع... نظرية التفسير".
الجبهة الأولى والثانية لهما طبيعة حضارية، بينما تصبّ الثالثة في الواقع الراهن المباشر. وقد شبَّه حنفي الجبهات الثلاث بأضلاع مثلث تكون الأنا في وسطها. والجبهات الثلاث هي في نهاية المطاف تمثل أبعاد الزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.
هكذا، وجد حنفي نفسه واقعًا بين آخرين عملاقين: الآخر الغربي المتسيِّد لعالمنا المعاصر، والآخر التراثي المتربِّع على عرش الماضي. وهذا هو قدر كل المهمومين بفكر النهضة. ولعلَّ استيعاب وتملُّك هذين الآخرين هو المرحلة السهلة في صيرورة أي مشروع نهضوي لوفرة النتاج الفكري فيهما. ويبقى التحدّي الأكبر هو مقاربة الواقع الراهن بأدوات ومفاهيم راهنيّة. هنا تحديدًا تظهر أوجه القصور في المشاريع النهضويّة. فالنتاج الفلسفي الراهن فقير فقرًا مدقعًا ولا يكاد يفي بمتطلبات انبثاق مشروع نهضوي. وما زال المشروع النهضوي العربي يرواح مكانه منذ قرن أو يزيد، وهو عاجز عن الإقلاع نحو الحداثة. ولكننا لا نستطيع إنكار مساهمات حنفي في هذا السياق، والتي جاءت تحت مسميات راهنيّة مثل التجديد والثورة.
إنَّ إكسابَ التراث راهنيّةٌ، شكَّل معضلةً حقيقيةً لدى أغلب المفكرين، لأنَّ التراث في معظمه مرتبط بنصوص مقدَّسة لا يمكن تجاوزها، والمَخرج الوحيد المتاح هو التأويل أو الهرمنيوطيقيا. تعتمد الهرمنيوطيقيا على فكرة ثبات النص وتغيُّر الدلالة. ويذهب أصحاب التيار الهرمنيوطيقي أنَّ أيّ نص لا تتجدَّد دلالته مع مرور الزمن يفقد راهنيته ويصبح نصًا ماضويًا لا يمتّ للواقع الراهن بصلة. وعلى كل عصر إكساب النصوص راهنيّة من خلال إنتاج دلالات جديدة لهذه النصوص بواسطة عملية التأويل. ولكنَّ التأويل ربَّما لا يكون مقبولًا من قبل بعض التيارات السلفية الذين يرفضون التأويل ويدافعون عن المعنى الظاهري للنص المرتبط بالضرورة بالماضي. والحقيقة أنَّ التأويل ارتبط على الدوام بمعارك فكرية قادت للتكفير في بعض الأحيان. لقد واجه أحد تلامذة حنفي، وهو نصر حامد أبو زيد حملة شرسة بسبب تأويلاته للنصوص. علاوة على ذلك خاض حنفي الكثير من المعارك الفكرية مع الاتجاه السلفي بسبب دعوته للتجديد.
قدَّم حنفي تصوُّرات ورؤى حول الثورة المنشودة في العالم العربي في الكثير من مؤلّفاته، وخاصة كتاب "من العقيدة إلى الثورة". ولكن المفاجئ أنَّ حنفي تبنّى في وقت لاحق طروحات "لاهوت التحرير" الذي ظهر في أميركا اللاتينية والذي وظّف اللاهوت المسيحي وأعاد تأويله بما يخدم حركات التحرُّر في أميركا اللاتينية، حيث تبنّى مقولة أنَّ المسيح لم يكن مخلِّصًا فقط، بل كان محرِّرًا أيضًا. هل أنَّ حنفي وجد ضالته في التجربة اللاتينية ولم تفلح محاولاته في خلق نظرية ثورية راهنية بالاستناد للتراث؟!
لقد عاش حنفي ثورات الربيع العربي التي انبثقت من تونس، ثم امتدّت لاحقًا لمصر وبعض الدول العربية. والتساؤل الصعب في هذا السياق هو: هل جاءت ثورات الربيع العربي كنتيجة حتمية للجهود الفكرية التي قدَّمها حنفي حول الثورة هو وغيره من المفكرين المعاصرين؟ والتساؤل الأصعب هو: هل جاءت ثورات الربيع العربي متفقة مع الأفكار الثورية التي طرحها هؤلاء المفكرون؟
ربما تكون أجوبة حنفي على هذين التساؤلين مواربة، ولم يستطع الجزم في هذا الرأي في الحوارات الفكرية التي أجراها بعد نجاح الثورة في مصر. إنَّ المراقب لهذه الثورات لا يمكنه أن يجد علاقة واضحة بين الطروحات الثورية لحنفي وما حصل بالفعل من تداعيات لهذه الثورات. لا أحد ينكر العلاقة بين الفكر والثورات، فالثورة الفرنسية كانت محصلة للفكر التنويري للقرن الثامن عشر الذي جاء به "روسو" و"مونتيسكيو" و"فولتير" وغيرهم.
يحتوي هذا الملف على مقاربات مختلفة لِما دعاه حنفي "الجبهات الثلاث"، حيث اختار الكُتّاب المشاركون جبهةً بعينها للكتابة عنها. فقد جاءت المقالات المتمحورة حول الاستغراب لتعبِّر عن جبهة الوافد، وجاءت المقالات المتمحورة حول الثورة والتغيير لتعبِّر عن جبهة الواقع، بينما جاءت المقالات التي تتناول التراث والنقل والعقيدة لتعبِّر عن جبهة الماضي.
مجدي ممدوح