د. أشرف حزين
باحث أردني مقيم في أميركا ومحاضر في جامعة لوس أنجلوس
إنَّ الحضارة الغربيّة من منظور حسن حنفي هي حضارة مشروطة بزمان ومكان معيَّن، وهي نتاج البيئة الغربيّة، ولا يوجد أي مبرِّر لتعميم نموذجها على شعوب العالم، ويعبِّر حنفي عن نقده الشديد للمركزيّة الأوروبيّة بلا مواربة أو تحفُّظ، حيث ينتقد كافة أشكال التمركز الفكريّة والحضاريّة والسياسيّة والأيدولوجيّة. ويصرِّح أنَّ جزءًا من مشروعه الفكري مخصَّص للقضاء على المركزيّة الغربيّة، ويؤكد أنَّ هذه المركزيّة قد تكرَّست من خلال القوة العسكريّة التي هيمنت على شعوب الشرق وأخضعتها وفرضت عليها نموذجها الثقافي بوصفه النموذج الأوحد والوحيد.
هل الثقافة الغربية ثقافة كونية عابرة للجغرافيا كما يروِّج لذلك المتحمسون من دعاة التغريب في الوطن العربي؟ هذا هو السؤال البدئي الذي يطرحه المفكر حنفي في دراسته لتاريخ الوعي الأوروبي. وربَّما نستطيع صياغة السؤال بشكل أكثر تحديدًا: هل الحداثة الغربية التي ابتدأت في القرن السابع عشر الميلادي هي حداثة كونيّة تصلح لكل شعوب الأرض باختلاف ثقافاتهم وحضاراتهم؟ الحقيقة أن كونيّة الحداثة الغربيّة ليست مقولة من ابتكار دعاة التغريب في العالم العربي أو العالم غير الغربي عمومًا، بل هي مقولة تجد جذورها لدى العديد من مفكري الغرب وفلاسفته الكبار. وقد اتخذت هذه المقولة شكلين: الشكل الأول كان صريحًا ومباشرًا كما هي الحال عند "جورج هيجل" و"يورجين هابرماس"، والثاني كان ضمنيًّا مستترًا كما نراه عند أغلب فلاسفة الأنوار من أمثال "عمانوئيل كانط" و"فولتير".
لقد انعكست الأفكار الغربية حول مركزية ثقافتهم وكونيّتها على الحركة الفكرية والفلسفية والثقافية في العالم العربي بشكل صارخ. يشير حسن حنفي إلى أنَّ هذه المركزيّة قد ظهرت بشكل فجّ في ثقافتنا المعاصرة عندما أصبح النتاج الفكري في العالم العربي يصنَّف وفق نظام الوكالات الحضارية للغرب. فقد أصبح هناك وكالات للاشتراكية والماركسية والليبرالية والقومية والوجودية والوضعية والشخصانية، وامتدَّ ذلك إلى الفنون التي هيمن عليها هي الأخرى نظام الوكالات مثل السوريالية والتكعيبية والانطباعية وغيرها من المدارس التي ظهرت في الغرب. والكارثة الكبرى التي حدثت في الفكر العربي المعاصر أنَّ الوكلاء الحضاريين لم يكلِّفوا أنفسهم عناء تبيئة هذه التيارات الغربية واستيعابها بما يتوافق مع الصيرورة التاريخية لتشكُّل الثقافة العربية في العصور السالفة. وحتى في الحالات التي حاول بعضهم فيها تأصيل التيارات الغربية وفق السياق التراثي العربي الإسلامي، فقد جاءت المحاولات فجّة للغاية، بل ومضحكة في أغلب الأحيان. ومهما قيل عن مشاريع القراءات الماركسية للتراث التي قدَّمها مفكرون مثل حسين مروة وطيب تيزيني، إلا أنها جاءت كمحاولات لإدخال التراث قسرًا وجبرًا في قوالب مُعدّة سلفًا، دون مراعاة للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه. وقد تم وضع النصوص التراثية على أجهزة التعذيب لكي تعترف بأشياء لم تقلها ولا تمتّ بصلة لروحها وهويّتها الحضارية.
كان للتبعية الفكرية وجه آخر أشد خطورة، وهو التبعية السياسية. فقد أصبح دعاة التغريب والوكلاء الحضاريون موالين للغرب وممثلين لمصالحه في منطقتنا العربية. وقد أدَّت هذه التبعيّة الفكريّة والموالاة السياسيّة إلى ردود أفعال متعددة الجوانب وثورات وطنية ودعوات للحفاظ على الهوية ضدّ التغريب والهيمنة الغربية. ويشير حنفي إلى حقيقة أنَّ الاستعمار الفرنسي كان هو الأشد حربًا على الهوية والثقافة الوطنية كما حدث في دول المغرب العربي. ويؤكد حنفي أنَّ ردود الأفعال تجاه تيارات التغريب لم تسلم هي الأخرى من آفة التغريب، حيث إنَّ روّاد عصر النهضة من أمثال الأفغاني والطهطاوي وشبلي شميل، لم يتمكنوا من الخروج عن المركزية الغربية؛ فلم يستطع الأفغاني الخروج عن المركزية الغربية لأنه تبنّى مشروع إصلاح ديني على الطريقة الغربيّة كما جاءت في إصلاحية "مارتن لوثر"، كما أنَّ الطهطاوي هو الآخر لم يتعدَّ بتفكيره النموذج السياسي الليبرالي الغربي. كل هذه العوامل أدَّت إلى تكريس النزعة المركزيّة الغربيّة.
يعبِّر حسن حنفي عن نقده الشديد للمركزية الأوروبية بلا مواربة أو تحفُّظ، حيث ينقد كافة أشكال التمركز الفكرية والحضارية والسياسية والأيدولوجية. فهو على سبيل المثال أشد جذرية في نقده للمركزية الغربية من إدوارد سعيد. لأنَّ "سعيد" في نهاية المطاف ينتمي للثقافة الغربية وينتمي في اشتغالاته الفكرية للمنهجية الغربية، حيث وظف المنهج البنيوي والفوكوي في نقده للتمركز الغربي. علاوة على أنَّ إدوارد سعيد انصبَّ نقده على الظاهرة الاستعمارية والظاهرة الاستشراقية بوصفها الرديف الثقافي للظاهرة الاستعمارية. فالاستشراق كما رآه سعيد لم يكن خطابًا معرفيًا محايدًا في دراسته للشرق، بل كان الهدف منه هو تقديم المبررات والأدوات المعرفية من أجل الهيمنة على الشرق واستعماره ونهب موارده. وقد لاحظ سعيد أنَّ الخطاب الاستشراقي قد كرَّس صورة الشرق بوصفه عالمًا من الاستبداد والتخلف والسحر والشعوذة والغيبيات، ما يترتب عليه أنَّ شعوبه غير قادرة على حكم نفسها بنفسها، بل هي مضطرة للانضواء تحت الوصاية الغربية حتى تبلغ سن الرشد.
يصرِّح حنفي -دون مواربة أيضًا- أنَّ جزءًا من مشروعه الفكري مخصَّص للقضاء على المركزية الغربية، ويؤكد أنَّ هذه المركزية قد تكرَّست من خلال القوة العسكرية التي هيمنت على شعوب الشرق وأخضعتها وفرضت عليها نموذجها الثقافي بوصفه النموذج الأوحد والوحيد. إنَّ الحضارة الغربية من منظور حسن حنفي هي حضارة مشروطة بزمان ومكان معيَّن، وهي نتاج البيئة الغربية، ولا يوجد أي مبرِّر لتعميم نموذجها على شعوب العالم. لقد جعلت الحضارة الغربية من نفسها مركزًا للعالم، وأصبح كل ما يخصّها عالميًّا، وهذا قاد بدوره إلى كل الشطط المعرفي والرؤية الممسوخة للتاريخ العالمي. إنَّ الحرب العالمية الأولى والثانية ليست حربًا عالمية برأي حنفي، بل هي حرب أوروبية بامتياز قامت على الصراع بين القوميات والعرقيات الأوروبية المختلفة ولا دخل لشعوب العالم بهذه الحرب، حيث تمَّ الزجّ بها قسرًا وجبرًا. بل إنَّ التحقيب التاريخي المعتمد حاليًا من قبل المناهج الغربية هو تحقيب يخص الحضارة الغربية نفسها ولا ينطبق على الحضارات الأخرى. فالحقبة القرونوسطية الأوروبية المتخلفة لا تعنينا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية بشيء. فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية في هذه الحقبة تعيش عصر ازدهارها الذهبيّ، وبالتالي فإنَّ الزمن الغربي ليس زمنًا كونيًّا بالضرورة.
الحضارة الغربية وفق رؤية حنفي هي مجرَّد مرحلة من مراحل تطوُّر الحضارة الإنسانية، ويجب دراستها وفق هذا المنظور لا أكثر. لا يخفي حسن حنفي إعطاءه الأولوية للوعي الفلسفي ضمن مشروعه الفكري من أجل القبض والإمساك بالعقل الغربي وموضعته وجعله مدروسًا بعد أن ظلَّ يمارس دور الدّارس. ولهذا السبب، فإنَّ خطة حنفي للقضاء على المركزية الغربية تدور في مجملها حول إسقاط هذه المركزية على الصعيد الفلسفي قبل كل شيء. فالفلسفة الغربية هي قطب الرَّحى في هذه المركزية، وهي الدعامة الأساسية في هذه المركزية إلى جانب الفنون التي دشّنت عصر نهضته، وديانته المسيحية التي اعتبرها "هيجل" ذروة الوعي الديني البشري.
إنَّ التصوُّر السابق الذي قدَّمه حنفي حول الحضارة الغربية كونها حضارة محددة ضمن زمانها ومكانها الأوروبيين تقوده إلى استنتاجات في غاية الأهمية. فقد فشلت هذه الحضارة في فرض كونيّتها، وبالتالي فهي حضارة تخضع لقوانين النشوء والتطور والانحدار. ويتساءل حسن حنفي بعد دراسته المعمقة لتيارات الفلسفة الغربية: ما هو مصير الوعي الأوروبي، إذا كانت هذه هي مصادره وهذا هو تكوينه وتلك هي بنيته؟
يلاحظ حنفي أنَّ الوعي الأوروبي قد بدأ بالانحدار بالفعل، وهناك علامات واضحة على هذا الانحدار والتراجع. إنَّ أهم علامة على أفول الوعي الغربي هي ظهور الفلسفات العدميّة. وخير ممثل للعدميّة في الفكر الغربي هو الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" الذي يُعتبر عرّاب العدميّة في الحضارة الغربيّة. وظهرت كذلك علامات العدميّة في الفلسفة الوجودية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، ووصلت ذروتها بعد الحرب الثانية التي أدخلت الإنسان الأوروبي في المصير المجهول والضياع. وظهرت أفكار في غاية التشاؤم في نتاج الفلاسفة الوجوديين، تمثلت بمفاهيم العدم والموت والضياع والغثيان والفراغ والعبث والسقوط. ثم يشير حنفي إلى وصول الوعي الأوروبي إلى مرحلة الانحلال بظهور الفلسفة التفكيكية عند "جاك دريدا" واليأس الكامل من تقديم عقلانية معاصرة معبِّرة عن الواقع الغربي، واللجوء بدلًا من ذلك إلى دراسات الخطاب والاستعاضة عن الواقع بالخطاب. لقد أصبحت الفلسفة عند "دريدا" سلسلة لا تنتهي من الخطابات المغلقة على ذاتها دون أن تحيل لمدلول خارجها. لقد أصبح الدال الخطابي هو الأصل وهو الحضور، وأصبح المدلول الواقعي هو الغياب. وهكذا وصل الوعي الغربي لمرحلة من النتاج الفلسفي تدور وتدور حول ألاعيب الخطاب.
مظهر آخر من مظاهر الموت الحضاري الغربي يشخِّصه حسن حنفي، وهو الموت الروحي. ويظهر هذا الموت بشكلٍ جليّ في الفنون بكافة أشكالها، الرسم والموسيقى والأدب. على صعيد الموسيقى يشير حنفي إلى التحوُّل للموسيقى اللانغميّة وظهور الإيقاعات البدائية. ويعتبر اللجوء للموسيقى البدائيّة مؤشرًا خطيرًا، لأنه يعني أنَّ الحضارة الغربيّة قد أصبحت تبحث عن روح جديدة غير روحها الشائخة. لقد كان "جورج هيجل" قد اعتبر هذه الحضارات البدائية بمثابة مرحلة الطفولة في تاريخ العالم. ويبدو أنَّ الحضارة الغربية تحاول العودة لحقبة الطفولة الحضارية لتجديد روحها. أمّا على صعيد الرسم، فقد ازدهر الفن التجريدي الذي لا يعبِّر عن أي عواطف أو انفعالات.
إنَّ كل مظاهر الأفول التي يشير إليها حنفي قد اعترف بها مفكرو الغرب أنفسهم. وهذا يذكرنا بكتاب "تدهور الحضارة الغربية" لـِ"أوزفالد شبنغلر". يرى "شبنغلر" أنَّ الحضارة عبارة عن كائن حي لها طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها، وأنها تموت عندما تحقق روحها جميع إمكاناتها الباطنة على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وعلوم ودول، وأنَّ الحضارة عندما تحقق هذه الأمور وتستنزف إمكانات روحها في تجسيد هذه الإنجازات، فإنها تتخشَّب وتتحوَّل إلى مدنية، ثم تتجاوز بعد ذلك مرحلة المدنية نحو الانحلال والاضمحلال. إنَّ كل شيء في الغرب يشير إلى أنه انتقل من الحقبة الحضارية إلى الحقبة المدنية والتي تؤذن بالأفول. وإذا ما أضفنا لكل العوامل السابقة الطبيعة الرأسمالية للمدنية الغربية، فإنَّ الكارثة تصبح أعمق. لقد كان طموح الرأسمالية وحلمها الكبير هو تحقيق أكبر قدر من الإنتاج لأكبر قدر من الاستهلاك من أجل الحصول على أكبر قدر من السعادة. فأين المدنية الغربية من كل هذا؟ ما نشاهده في الغرب هو أزمات طاحنة تؤكد الرؤية الماركسية للرأسمالية بوصفها حفّارة قبرها.
بين كل مظاهر التدهور التي أشرنا إليها، يبقى التدهور في الفنون هو الأكثر كارثية على مستقبل الحداثة الغربية. فهذه الحداثة قد بدأت جذورها بالأصل في عصر النهضة الذي كان عصر نهوض فني، وكان روّاد هذا العصر فنانين عظام من أمثال "ليوناردو دافنشي" و"مايكل أنجلو" و"بترارك"، وكذلك "دانتي". إنَّ تراجع الفنون يعتبر علامة شؤم بالغة الخطورة في سيرورة الحضارة الغربية، لأنَّ هذا يعني أنَّ هذه الحضارة قد انفصلت أخيرًا عن منبعها الأصلي، وأصبحت تسير نحو قدرها المحتوم.