د. زهير توفيق
كاتب وأكاديمي أردني
يَفترضُ حسن حنفي وجودَ التراث على مستويات عدّة، فهو أوَّلًا وجود مادي قائم في الكتب والمخطوطات، ويرتبط هذا المستوى بعمليّة إحياء التراث، وهي عملية أيديولوجية تحرِّكها رغبات الحاضـر وضـرورة التحكُّم فيه. أمّا المستوى الثاني فيتعلق بوجود التراث على مستوى نفسي عند الجماهير مكوِّنًا جزءًا لا يتجزّأ من واقعها. وما دامت ارتباطاته قائمة وحيّة بالواقع فهناك إذن إضافات وتفاسير جديدة يعطيها كل جيل جديد لتراثِ أسلافِه حتى تندمج في التراث وتصبح جزءًا لا يتجزَّأ منه.
فشلت كافة المشاريع التحديثية والنهضوية التي حاولت تجاوز التراث فشلًا ذريعًا. وهذا الفشل قاد المفكرين العرب المعاصرين للاهتمام بالتراث، كل من منظوره الخاص. وقد تباين الموقف من التراث تباينًا حادًا بين أصحاب المشاريع الفكرية. فمن داعٍ للعودة له من أجل تصفيته والتخلص من حضوره القامع في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، ومن داعٍ للعودة له واستلهام عناصر القوة فيه وفرز ما هو راهني وبما يخدم مشروع النهضة والتحديث، إلى داعٍ لاستلهامه كعنصر مكوِّن للهوية وسط العواصف والتأثيرات الحضارية القادمة من الغرب والتي لم يعُد بالمستطاع إغلاق الأبواب أمامها.
وسط هذه التيارات الفكرية المتناقضة في الموقف من التراث، ظهر مشروع حسن حنفي متضمنًا أوسع قراءة معاصرة للتراث العربي الإسلامي. وشكلت هذه القراءة مساحة كبيرة من مشروع حنفي الذي قسمه لثلاثة فضاءات هي: التراث العربي الإسلامي، والفكر الغربي، والواقع العربي الراهن. ما يهمّ حسن حنفي بالطبع هو الواقع الراهن، ولكن مقاربة هذا الواقع الراهن وتطويره يستلزم الإفادة من التجربة الغربية والتراث على حد سواء، ولا غنى لأي مشروع تحديثي عن كليهما. وعلينا الانتباه إلى أنَّ النهضة لا تتحقق بإحياء التراث فقط، كما تتصوَّر النزعة السلفية في الفكر العربي، بل لا بد من وجود جدل مستمر بين التراث والنزعات التجديدية، حيث لا بد لنا من توظيف الماضي والتراث في معارك الحاضـر وسجالاته السياسية.
وفق الرؤية السابقة، بدأ حنفي مشواره الفكري بقراءة معمّقة للفكر الغربي، حيث قام بدراسة الفلسفة الغربية وتدريسها في الغرب زمنًا ليس بالقصير. وهو خريج جامعة السوربون العريقة، ما كان له كبير الأثر في نزعته نحو التجديد. علاوة على ذلك استكمل حنفي تجهيزه الثقافي باطِّلاعه المعمَّق على التراث من مصادره الأصلية ومتونه المؤسِّسة. لم يستند حنفي ولم يركن لرؤى المتأخرين، بل عاد للمنابع الأصلية للتراث متجاوزًا كافة التأويلات اللاحقة.
اكتشف حنفي أنَّ التراث ليس مجرَّد أفكار وممارسات بائدة توارثناها وما زلنا نمارسها بفعل العادة، بل هو متضمّن في صميم عقولنا وأدوات تفكيرنا، ممّا يجعل "الماضي حاضـرًا معاشًا، والحاضـر ماضيًا متحركًا" ويتطلَّب هذا التفاعل والتداخل بين الماضي والحاضـر "إجراء تركيب تبادلي فكري يتجاوز الغربة والاغتراب وتحقيق الوعي الذاتي والاستقلال التاريخي، من خلال مواجهة الثنائيات الضدّية وحلّها وخاصة الأصالة والمعاصـرة". إنَّ التجديد يعني ربط الماضي بالحاضـر حتى لا يشعر الإنسان بالغربة، فالتراث والتجديد عملية تحقيق الهوية عن طريق تحرير الصلة بين الأنا والآخر، والكشف عن الأنا والآخر، وتحريرها من سيطرة الثقافات الغازية.
وعلى الرغم من تباين مستويات التحديث والتقليد في المجتمعات العربية، إلا أنها في غالبيّتها مجتمعات انتقالية تجاوزت التقليد، ولم تدخل في الحداثة، وبقيت تراوح في مكانها ويعاني أصحابها من ازدواجية فكرية وسلوكية في المواقف الحدية، بالعودة إلى التقليد والبنى الأولية، لتجاوز القلق الداخلي والتهديد الخارجي. فحتى نفهم واقعنا يجب إضاءة الماضي؛ مفتاح فهم الحاضـر المعاصـر، ومقاربته علميًا تعني إعادة بناء الإنسان العربي من جديد شـرطًا مسبقًا لتحقيق الإصلاح في البلدان العربية، التي تتطلع للتنمية والتحديث، ولن يتحقق ذلك إلا بنهضة أساسها فهم الماضي الحيّ في حاضـرنا المعاصـر: "لن يتغير الواقع المادي إذا لم نستطع القضاء على معوقات التحرر النفسية، أي البنية الشعورية والتفكيرية للإنسان في البلدان النامية"، ولا يعني هذا النظر إلى الدين "نظرة براغماتية؛ أي استغلال الدين لصالح الثورة، بل هي عملية نظرية تحتوي على مقاييس صدقها النظري".
يفترض حنفي وجود التراث على مستويات عدة، فهو أوَّلًا وجود مادي قائم في الكتب والمخطوطات، ويرتبط هذا المستوى بعملية إحياء التراث، وهي عملية أيديولوجية تحركها رغبات الحاضـر وضـرورة التحكم فيه. أمّا المستوى الثاني فيتعلق بوجود التراث على مستوى نفسي عند الجماهير مكوِّنًا جزءًا لا يتجزّأ من واقعها، وفي المحصلة النهائيّة "ليس له وجود مستقلّ عن الواقع حتى يتغيَّر ويتبدَّل باستمرار". وما دامت ارتباطاته قائمة وحيّة بالواقع فهناك إذن "إضافات وتفاسير جديدة يعطيها كل جيل جديد لتراث أسلافه حتى تندمج في التراث وتصبح جزءًا لا يتجزأ منه".
وما دام الهاجس الأساسي عنده هو تغيير الواقع، فلا بد لنا من أن نبدأ من عقلية الجماهير، والعمل على تغييرها لصالح التغير الاجتماعي، وتجريد الجماهير من ذاتها. ولن يتم لنا ذلك "إلا بتجديد التراث وتجريده من الطلاسم القديمة والعقد الموروثة".
أمّا على مستوى الماهية، فالتراث ليس قضية دينية، بل هو قضية وطنية وشخصية داخلية، لأنها من صميم وجودنا واهتمامنا، يدرسه ويجدِّده باحثون في علم الاجتماع الحضاري، الذين يشكلون نخبة حزب طليعي معني بالتغيير والنهضة.
وقبل طرح مشـروعه التجديدي في التعامل مع التراث يستعرض د.حنفي الحلول الجاهزة القاصـرة، التي فشلت في مقاربة التراث وحل مشكلته، وأهمها: الاكتفاء الذاتي للتراث؛ أي المنهج السلفي الذي أثبت عجزه وفشله نظريًا وحركيًا، ولم يظهر منه -بحسب د.حنفي- إلا النفاق والعجز والنرجسية. أمّا نقيضه: المنهج الليبرالي، ويسميه الاكتفاء الذاتي للتجديد، فقد تجلت توقعاته المنهجية في قصور النظرة العلمية والتقليد للغرب والازدواجية. وحتى المنهج الوسطي التوفيقي الذي بشَّـر به مفكرو عصـر النهضة لتجاوز الثنائية، بتجميع أفضل إيجابيات الاتجاهين وعزل السلبيات، فإنه لم يوفق في التطبيق، وتحول التوفيق إلى تلفيق لم يحقق شيئًا إيجابيًا، على الرغم من التوفيق والتركيب الشكلي الظاهري لمعطيات الفكر الغربي ودمجها بمعطيات الفكر العربي الإسلامي "غالبًا ما يتم التجديد من الخارج قياسًا على مذهب أوروبي كإنتاج ماركسية غربية أو شخصانية إسلامية".
وهذا التوفيق على أرضية خارجية؛ أي بناءً على معطيات الفكر الغربي، أما التوفيق والتجديد من الداخل فيعني إبراز أهم الجوانب المضيئة والتقدمية في التراث القديم. ولا يخرج هذا الاتجاه عن النزعة الانتقائية التي فتَّتت التراث ومزّقت كليته من خلال عزل بعض الجوانب التي تبدو للباحث أكثر عصـرية، فهو منهج انتقائي يفتقر للمعايير الموضوعية لتحديد صلاحية هذا أو ذاك.
ومن خلال بيان تهافت هذه الاتجاهات، يتقدم د.حنفي لتجديد التراث؛ أي حل مشكلة الماضي الممتد في الحاضـر، وكما جربت مناهج الفكر السابقة حظها في التعامل مع التراث، فشلت كذلك كاتجاهات عملية، وأنتجت الفشل نفسه، ومن هذه التيارات ما يصفها د.حنفي: بالتغيير بواسطة القديم أو الحركات السلفية، ويعود فشل هذا الاتجاه الحركي إلى الأسباب التالية:
1- سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري.
2- الدعوة إلى الحكم الثيوقراطي.
3- مناقضة روح العصـر.
4- تأخر فكر الإصلاح الديني عن مستوى تطور الواقع المعاصـر.
5- التعصُّب.
6- اتِّباع أساليب العنف والقوة وليس الإقناع لتغيير الواقع، وعدم الانتظار حتى تنضج الأمور ويرتفع مستوى وعي الجماهير.
7- سيادة التصوُّر الرأسمالي للدين.
أمّا الاتجاه الحركي الثاني الذي فشل في مقاربة التراث عمليًا، فهو التصدي للتراث بأدوات الفكر الغربي، أو التغريب، ويتمثّل حصاده المعرفي بالتشدُّق بألفاظ صعبة على الجمهور، والتبعيّة للفكر الغربي، ومعاداة التراث القومي، ونقصان التنظيم المباشـر للواقع.
وأمّا التيارات الراديكالية التي انبثقت عن هذا الاتجاه، وخاصة الماركسية والقومية دون تحديدها بالاسم، فقد فشلت هي الأخرى في تحقيق التغيير والتجديد، لأنها سقطت بالانقلابية والعمل السـري، واتباع العنف والصـراع الطبقي، الذي مزق الوحدة الوطنية.
أمّا التيار العملي الثالث المنبثق عن الاتجاه التوفيقي، وهو تيار جمع بين القديم والجديد، فهو نفسه منهج التوفيق الذي تحوَّل إلى تلفيق، وتميّزت مخرجاته بالتحيّز لمصالح الطبقة الوسطى، والوقوف موقف العداء من أصحاب التغيير الجذري، وهي الطبقات الشعبية وقواها السياسية، ونظرًا لنزعتها النخبوية، فقد تم استبعاد الجماهير الشعبية من المشاركة في حل مشاكلها، وظلت موضوعًا تفكر به الطبقة الوسطى لا أكثر ولا أقل.
وتتجاوز مشكلة التراث -بحسب د.حنفي- أبعادها العملية والعلمية النفعية، فهو مشكلة معرفية تتعلق بالمناهج والبحث العلمي، الذي يتصدى له بأدوات ومفاهيم ومصادرات متباينة بالقوة والضعف من مفكر إلى آخر. وهنا يسهب د.حنفي في نقد القراءات الغربية للتراث، وخاصة الجهود الاستشـراقية، التي أدخلت الدراسات الإسلامية في أزمة معرفية تعود إلى ما يسميه النعرة العلمية عند المستشـرقين، ومعناها دراسة الظاهرة الفكرية على أنَّها ظاهرة مادية خالصة، وتاريخ خالص مكوَّن من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية. ونحاول ابتداء من هذه العوامل تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها، وكأني به يستثني الظاهرة الإسلامية ومعطياتها الأساسية من الدراسة الموضوعية بالمناهج الغربية، لإفساح المجال لمنهجه الشعوري، للاستحواذ على الظاهرة واحتكار دراستها، وكأنَّ (المنهج الشعوري) منهج إسلامي خاص لا يمتّ للمناهج الغربية بصلة، ومصدر الخطأ الأساسي عند المستشـرقين بكونهم باحثين في التراث -كما يقول حنفي- أنَّ معظمهم من أهل الكتاب مسيحيين ويهودًا ينكرون الوحي الإسلامي، ومن المستحيل عليهم -كما يقول- إرجاع الظواهر التي يدرسونها إلى أصول في الكتاب والسنّة. وهذا أغرب استنتاج، وحُكم مسبق في تقييم جهد الآخرين، فمن نفي صلاحية المناهج الغربيّة، إلى التحيُّز إلى ما هو أكثرها صوفيّة ولا عقلانيّة إلى التشكيك بجهود المستشـرقين لأسباب دينيّة. في حين أنَّ الأقرب للصواب هو القول بانحياز بعضهم لخدمة الاستعمار وتنفيذ أهدافه.
وعليه، فإنَّ التشكيك بجدوى المناهج الفكرية، باستثناء الحدس والشعور، يعني استثناء العقل أو ممارسة العقلانية خارج العقل، ولا يوجد خارج العقل إلا اللاعقل على صعيد المنهج والموضوع.
وبطريقة ضمنيّة يشكل هذا الموقف الاستثنائي لمفكِّرنا موقفًا مسبقًا من دراسات المفكرين العرب المسيحيين والعلمانيين بحجة عدم تمثلهم بالقرآن والسنّة على النحو الذي يفترضه الإيمان الديني. وهو باعتقاده هذا يصعِّب ولا يسهِّل الحل ولا البحث في الظاهرة الإسلامية كما يعتقد.
أمّا أهم الاتجاهات الاستشـراقية التي فشلت في مقاربة التراث فهي:
1- المنهج التاريخي، ومشكلته المعرفيّة هي "القضاء على وحدة الظاهرة واستقلالها وإرجاعها إلى عناصـر مادية وإلى عوامل تاريخية، مع أنَّ هذه العناصـر المادية ما هي إلا عوامل للفكر وليست مصدرًا لموضوعاته".
2- المنهج التحليلي، ومشكلته هي تفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصـر يتم التأليف بينها في حزمة لا متجانسة من الواقع، أو العوامل التي أنشأتها، وهو مخالف لطبيعة الظاهرة المدروسة التي تكوَّنت أساسًا من تحويل النص الموصل به إلى معنى، والمعنى إلى بناء نظري.
3- المنهج الإسقاطي، وهو منهج لا شعوري يتمّ فيه استبدال الظاهرة المدروسة بظواهر أخرى هي أشكال الأبنية النظرية الموجودة في ذهن المستشـرق، يراها في الواقع، مخفيًا بذلك الظاهرة الموضوعية التي أمامه التي كان في نيّته دراستها.
4- منهج الأثر والتأثير، ويعني القضاء على ما تبقى من الظاهرة، مفرّغًا إياها من مضمونها، ومرجعًا إياها إلى مصادر خارجية في بيئات ثقافية أخرى، دون وضع أي منطق سابق لمفهوم الأثر والتأثر.
ولا ندري عن أيّ مستشـرق أو مستشـرقين يتكلم د.حسن حنفي حتى يدين أبحاثهم ودراساتهم الإسلامية بالكامل، وإذا كانت مناهجهم (وليس رؤيتهم) فاشلة في دراسة التراث؛ أيْ بيان حدوده ودلالته وتاريخيته، فما هي المناهج القادرة والأكفأ لتحقيق ذلك؟ وكيف يمكن فهم التراث في ذاته وتجديده وقد تحوَّل إلى تابو لا يحق لمن كان خارج دائرة الإيمان والإسلام الاقتراب منه والبحث فيه؟
أمّا المناهج السلفية المضادة للاستشـراق فلا تنتج إلا الإخفاقات نفسها، وإن بطريقة مغايرة، وتتمثل بالخطابة والتنويه الذاتي، وهي مناهج ساذجة، يعتبرها مراهقة فكرية تسودها العاطفة والانفعال. وأهم هذه المناهج:
1- منهج تحصيل الحاصل.
2- التكرار.
3- التقريض والدفاع.
4- الجدل والمهاترات.
قدَّم المفكر العربي حسن حنفي قراءة أيديولوجية لمختلف الاتجاهات الفكرية التي درست التراث، وعرض أنصاف الحقائق لتدعيم بدائله المنهجيّة، التي يراها صالحة لحل مشكلته وتجديده، إلا أنه استثنى مقاربات أخرى أكثر جديّة في الشـرق والغرب، قدَّمت أفضل ما لديها.