د.غيضان السيد علي
باحث مصري وأستاذ مساعد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة- جامعة بني سويف
كتب حنفي "من النص إلى الواقع" إلى الفقيه كي يُحسن الاستدلال ويغلب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص، وبهذا الفهم يُدرَج حنفي ضمن التيار الهيرمنيوطيقي الذي يشاركه فيه عدد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين، ومن ثمَّ انطلقت هيرمنيوطيقا حسن حنفي في تأويل النصوص الدينية لِما يتناسب مع المصالح العامة، وعدم الخضوع للتفسيرات التقليدية التي تتقيَّد بحرفيّة النصوص فتقيِّد اتِّساعها وتزهق روحها.
يُعدُّ حسن حنفي (1935-2021م) ظاهرة فريدة ومميزة وجديرة بالدرس والبحث بوصفه واحدًا من أَبرز المفكرين العرب المعاصرين الذين قدّموا "دراسات فلسفية" عميقة وثريّة كمًّا وكيفًا حول مختلف الموضوعات و"القضايا المعاصرة" التي تهمّ الواقع العربيّ. وناقش بشكل استثنائي "هموم الفكر والوطن"، التي تمحورت حول "الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي"، ليربطها بمشروعه الفكري الكبير الذي حمل مسمى "التراث والتجديد"، منطلقًا "من العقيدة إلى الثورة"، و"من النص إلى الواقع"، و"من النقل إلى العقل"، و"من النقل إلى الإبداع". مندِّدًا بـ"حصار الزمن" و"جذور التسلط" وضيق الاستبداد. داعيًا إلى آفاق الحرية والـ"حوار بين الأجيال". رافضًا العزلة والتقوقع حول الذات، مندّدًا بثقافة الخوف المسيطرة على واقعنا العربي من أقصاه إلى أدناه، داعيًا إلى الثورة على صبرنا الذي طال بلا جدوى، فللصبر حدود، وللظلم نهاية. فلا مجال –عنده- للاستكانة التي يفرضها الفناء الصوفي والبقاء في الله، داعيًا إلى البقاء في الأرض، والاستمرار في المقاومة، كي يتحوّل الإنسان "من الفناء إلى البقاء".
وقد انشغل حنفي منذ بداياته المعرفيّة بالتفسير والتأويل، فكانت أطروحته الجامعية التي نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون -وما زالت بالفرنسيّة- تحمل عنوان: "مناهج التفسير: بحث في علم أصول الفقه"، وهي بمثابة إعادة نظر أو إعادة تفكير وتأويل للتراث الإسلامي في مغامرة فكرية أثارت إعجاب المستشرق الفرنسي "روبير برنشفيج" Robert Brunschvig الذي كتب تقديمًا لها واصفًا إيّاها بأنها "مغامرة عظمى غير مسبوقة في تاريخ الفكر الإسلامي... قام بها فيلسوف مجرِّب... للدفاع عن تراث روحي... ويؤسس لطريقة في التفسير الديني يمكن أن تطبَّق على حالات أخرى"( ).
وعبر هذه المنهجيّة الجديدة في التفسير كان مشروعه الكبير في التراث والتجديد، الذي أخلص له أيّما إخلاص وكرَّس له حياته، فكانت مَحَاوره الرئيسة كالتالي: من العقيدة إلى الثورة في علم الكلام، ومن النقل إلى الإبداع في علوم الحكمة، ومن النص إلى الواقع في علم أصول الفقه، ومن الفناء إلى البقاء في علوم التصوُّف، ومن النقل إلى العقل في العلوم النقلية الخمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه.
فقد أراد حسن حنفي أن يعيد تأويل النص الديني من أجل الخروج بقراءة جديدة تبعث الحياة في النص وتربطه بالواقع. مؤكدًا أنه لا يوجد نص لا يمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به. فقد كانت غايته منذ أطروحته للدكتوراه واضحة، تبلورت في دعوتين: الأولى هي دعوة الذاتية، وهي تعتبر الوحي، أو الدين، عِلمًا إِنسانيًا؛ لأنَّ الدين -كما يراه حنفي- هو في الأساس كلمة، والكلمة صيغت في نص، أي اللغة. والعلوم اللغوية الإنسانية لا تنفصل عن موضوعها المُوحى به. والثانية هي دعوة التذاوت أي تحويل البنية التاريخيّة للثقافة إلى بنية غائيّة، أي تحويل الثقافة الجامدة إلى ثقافة حركيّة، والفقيه هنا هو أكثر من مفسِّر، أكثر من مفكر حداثي، إنه مُصلح. الفقيه هو الوعي/ النموذج للجماعة أو الأمة الإسلامية( ).
وهذا الموقف النموذجي للفقيه هو ما سيجعل حنفي يرتضيه لنفسه لقبًا فيما بعد؛ إذ لم يرتضِ من ألقاب القدماء التي تباروا فيها مدحًا لأنفسهم أو تعظيمًا من الآخرين لهم إلا لقب الفقيه؛ حيث صرّح في أحد مؤلفاته اللاحقة، قائلًا: "أنا فقيه من فقهاء المسلمين، أجدِّد لهم دينهم، وأرعى مصالح الناس"( ). ولكنه رفض في الآن نفسه كثرة الألقاب قبل الاسم وبعده ممّا ارتضاه السابقون حتى اختلطت الأسماء بالألقاب متسائلًا باستنكار: "طالما أنَّ في الأمة كل هؤلاء العلماء، سيوف الدين، فلماذا احتُلّت الأرض، ونُهبت الثروات، وقُهرت الحريات، وتجزأت الأمة، وتخلّفت الأبنية الاجتماعية، وتغرّبت الهوية، وسكنت الجماهير؟!"( ).
ولكنَّ حنفي ليس فقيهًا كأسلافه من الفقهاء، بل هو فقيه من نوع آخر، فقيهٌ يؤمن بضرورة النظر وإعمال العقل في النص. فقيهٌ يؤمن إيمانًا راسخًا بأنَّ نفي النظر بدعوى النقل والأثر والوحي والنبوة والنص والحكم والأمر، هدمٌ للوحي ذاته وقضاء للنبوة ذاتها؛ فالعقل أساس النقل، ومَن يقدح في العقل يقدح في النقل. ويكمن دور العقل في استنباط هذه الشريعة من أدلّتها الشرعية، وتفصيلها طبقًا لواقع المجتمعات المختلفة، لقد أعطى الوحي الأسس العامة، وترك التفصيلات لعمل الأجيال واجتهاداتها وفقًا لواقعها. فبالعقل يتحوَّل الوحي إلى فهم ومن خلال الفهم يتحوَّل الوحي إلى واقع، وبناء اجتماعي، وحركة تاريخ( ).
فالأوامر الإلهية الواردة بالنص -عند حنفي- لا يمكن تنفيذها قبل فهمها، ولا يمكن فهمها إلا بالنظر العقلي؛ فتنفيذ الأوامر الإلهية بلا نظر يجعل الإنسان مجرد آلة صماء، في حين أنَّ الوحي أتى للإفهام والامتثال قبل أن يأتي للتكليف.
كما يرى حنفي أنَّ بيان الوحي لكل شيء لا يعني انتفاء النظر، بل يعني أنَّ الوحي قد حوى كل الأسس العامة التي يمكن عليها إقامة نظام في الحياة، وأنه لم يترك أساسًا إلا بَيَّنَه. ومن ثم تكون وظيفة العقل تحويل هذه الأسس العامة إلى نظام معيَّن لجماعة معيَّنة في عصر معيَّن. فالوحي ثابت والواقع يتغيَّر، ويحتاج كل عصر إلى تفصيل أكثر؛ نظرًا لما يحتويه الواقع من جِدّةٍ مستمرة. ولذلك لا يمكن أن يكون هناك تفسيرًا نهائيًا للنص، فالنص قابل لتفسيرات لا نهائية تتلاءم مع التغيرات اللانهائية التي يتعرّض لها الواقع في العصور المتلاحقة. ومن أجل ذلك كتب حنفي "من النص إلى الواقع" إلى الفقيه كي يُحسن الاستدلال ويغلب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص( ). وبهذا الفهم يُدرَج حنفي ضمن التيار الهيرمنيوطيقي الذي يشاركه فيه عدد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين من أمثال: محمد أركون، ومحمد شحرور، والطيب تيزيني، وعلى حرب، ونصر حامد أبوزيد، وعبدالمجيد الشرفي، وعبدالكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، وغيرهم.
ويرجع الأصل اللغوي لمصطلح الهيرمنيوطيقا Hermeneutics إلى الفعل الإغريقي hermeneuein وهو فعل يدل على عملية كشف الغموض الذي يكتنف شيئًا ما. وقد اشتق الفعل من اسم الإله الاغريقي "هرمس Hermes" رسول الآلهة إلى البشر. ومن اللفظ الإغريقي اشتقت الكلمة الإنجليزية Hermeneutics والتي اعتاد الباحثون العرب على تسميتها بالهيرمنيوطيقا أو الهرمنيطيقيا. أمّا المعنى الاصطلاحي لمصطلح "الهيرمنيوطيقا" فيعني وصف الجهود الفلسفية والتحليلية التي تهتم بمشكلات الفهم والتأويل. والهيرمنيوطيقا هي معضلة تفسير النص بصفة عامة سواء أكان هذا النص نصًا دينيًا، أو تاريخيًا، أو أدبيًا، فتثير تبعًا لذلك أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفّسر بالنص. وقد نشأ هذا المصطلح مرتبطًا بالنص الديني؛ حيث نهضة الإصلاح الديني الأوروبي في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي، وانتشار الفكر البروتستانتي الذي أدى إلى قطع علاقة المسيحيين بالكنيسة في روما، ومن ثمَّ تم القضاء على مرجعيّة تلك الكنيسة في تفسير النصوص المقدسة، فكان لا بد للكهنة البروتستانت، الذين قطعوا صلتهم تمامًا بكنيسة روما الكاثوليكية صاحبة الحق الحصري في تفسير الكتاب المقدس، أن يعتمدوا على أنفسهم في تفسيرهم للكتاب المقدس، وأن تكون لهم مرجعيّة نظريّة للتفسير يستأنسون بها. وفي هذا الإطار كانت هيرمنيوطيقا حسن حنفي التي سعت إلى إيجاد تفسير جديد للنصوص التراثية بعيدًا عن التفاسير المؤسساتية والتقليدية والتراثية، تفسيرًا يضع المصلحة العامة وتغيير الواقع إلى الأفضل نصب عينيه. تفسيرًا يجعل الإنسان أقرب إلى التفكير الإلهي عندما يفكر في نفسه، في معاشه وحياته. وأبعد ما يكون عن التفكير الإلهي عندما يفكر في الله، فالتفكير في إعمار الأرض مقدّمًا على التفكير في أحوال السماء.
ومن ثمَّ انطلقت هيرمنيوطيقا حسن حنفي في تأويل النصوص الدينية لِما يتناسب مع المصالح العامة، وعدم الخضوع للتفسيرات التقليدية التي تتقيَّد بحرفيّة النصوص فتقيِّد اتِّساعها وتزهق روحها. ومن أجل ذلك جاء كتاب حنفي "من النص إلى الواقع" ليفنِّد شبهة أنَّ التشريعات الإسلامية حرفية فقهية تضحّي بالمصالح العامة، قاسية لا تعرف إلا الرّجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي والصلب والتعليق على جذوع النخل وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، والتكليف بما لا يطاق. ولذلك جاء إهداء هذا الكتاب "إلى كل مَن يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص والحروف". ومن أجل هذا الهدف الأسمى حاول حنفي في كتابه "من العقيدة إلى الثورة" أن يعيد بناء علم أصول الدين التقليدي كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدَّها بأسس النظرية العامة وتعطيها موجّهات السلوك، وتعمل على إعطاء الأولوية للواقع على النص تماشيًا مع روح "أسباب النزول"، وبالتالي إعطاء الأولوية للاجتهاد كمصدر للتشريع على جميع مصادر التشريع الأخرى. كما خصص حنفي كتابه "من النقل إلى الإبداع" لإعادة بناء علوم الحكمة للقضاء على التغريب والتبعية المقيتة للآخر من أجل إثبات الذات. وكذلك كان كتابه "من الفناء إلى البقاء" لإعادة بناء علوم التصوُّف لتغيير ثقافته من ثقافة الاستكانة والزهد والعزلة التي تعبِّر عن العجز والاستسلام إلى ثقافة المقاومة والثورة والاعتراض التي تعبِّر عن الفعل والعمل والتغيير، مرتئيًا أنَّ الطريق إلى الله ليس في السماء، إنّما الطريق إلى الله في الأرض مع المحتاجين من الضعفاء، والفقراء والعرايا.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يعمل حنفي على نقد الفهم الضيِّق لروح النص الديني المتَّسع عند جماعات الإسلام السياسي الذين يقفون عند المعنى الحرفي دون مراعاة لواقع متجدِّد أو لتدرُّج في التغير( ). فالعقائد ليست غاية في ذاتها كما يتصورها المسلم السلفي، ليست عالمًا مغلقًا يحتوي على حقائق في ذاتها، وإنَّما هي مجرَّد أدوات لتغيير الواقع وآليات لتطويره. فالله غنيّ عن العالمين؛ ولذلك دعا حنفي الفقيهَ المعاصرَ أن يُحسن الاستدلال ويُغلّب المصلحة العامة، فهي أساس التشريع، وأن يعطي الأولوية للواقع على النص( ).
فقد انشغل حسن حنفي في مشروعه كله على تغليب هذه النظرة الهرمنيوطيقية في معالجته للتراث، فإذا كان "التراث" -عند حنفي- هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، أو هو ذاك المخزون النفسي في اللاشعور التاريخي للأمة وفي ذاكرتها الجماعية، فإنَّ "التجديد" هو إعادة تفسير التراث طبقًا لحاجات العصر. فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. ومن ثم كان التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع، وحل مشكلاته والقضاء على أسباب معوقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره( ). ومن ثمَّ رأى حنفي أنَّ التراث ليس له قيمة في ذاته إلا بقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره، فهو ليس متحفًا للأفكار نفخر به وننظر إليه بإعجاب ونقف أمامه في انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل وموجِّه للسلوك، وذخيرة قوميّة يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض( ).
قامت هيرمنيوطيقا حنفي على إعادة قراءة التراث، فلم يقف من التراث موقف القبول المُطلق كما تفعل الحركة السلفية ولا الرفض المطلق كما تفعل الحركة العلمانية؛ لأنَّ التراث ليس كلًا واحدًا بل متعدد الجوانب. فَقَبِلَ من التراث ما يعبر عن مصلحة العصر الراهن، وإن لم يكن قد عبَّر عن مصلحة عصر مضى مثل: العقلانية والحرية والثورة ومظاهر التمرد والغضب والوسائل الشرعية للخروج على الحاكم الظالم. ورفض منه من لم يعبِّر عن مصلحة العصر، وإن كان قد عبَّر عن مصلحة عصر مضى مثل: الجوانب الإشراقية العقائدية النصية الشعائرية الصورية المذهبية. ويرى حنفي أنَّ محاولات قراءاته الهيرمنيوطيقية للتراث ليست بدعة ابتدعها وإنَّما هي امتداد للمنهج الإسلامي؛ فالإسلام قراءة لتراث الأقدمين، وحكم عليه، وإعادة لبنائه، وتصحيح لمساره( ). مرتئيًا أنَّ محاولاته هذه تأييدًا للمنهج القرآني الذي هاجم التقليد والمقلدين، والتبعية للآباء والتابعين؛ لأنَّ ذلك تضحية بالجديد من أجل القديم وإنكار للعصر والزمان. ومن ثمَّ فلا مفرّ من القراءات الجديدة المتجددة باستمرار. فتاريخ الفكر البشري يقوم على قراءة الجديد للقديم لا قبولًا للقديم ولا رفضًا له. فالقبول تضحية بالجديد لصالح القديم الذي يتكَّلس ويتحجَّر، والرفض تضحية بالقديم، فيصبح الجديد مجتثّ الجذور، سرعان ما يتبدَّد وينقشع.
ولم تسلم هيرمنيوطيقا حنفي من النقد الشديد؛ حيث أطلق عليها الدكتور محمد عمارة مسمى "التأويل العبثي" عبر افتتاحية عدد مجلة الأزهر (عدد جمادي الأولى 1434هـ- مارس 2013)، إذ كتب مقالًا بعنوان "التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية" رأى فيه أنَّ هيرمنيوطيقا حنفي تسعى إلى "أنسنة" الدين، بإحلال الإنسان محل الله، والقارئ محل الوحي، وجعل الوحي -في النص الديني- هو ما توحيه القراءة الذاتية للقارئ، وما توحيه كينونة عالم القارئ إلى النص بدلًا من العكس( ).
يقرِّر عمارة أنَّ هيرمنيوطيقا حنفي -ومَن سار على دربه من الهيرمنيوطيقيين العرب المعاصرين- عملت على أنسنة الإله، وأنسنة النبوّة، ونفت التنزيل والإعجاز عن القرآن والوحي، ونفت كل خلود عن كل معاني القرآن. كما أنها ذهبت إلى أنسنة عالم الغيب فرأت في أنباء الغيب تعبيرات فنيّة وصورًا خياليّة تعبِّر عن أماني الإنسان في عالم يسوده العدل والقانون. ومن ثم تأخذ على عاتقها مهمة أنسنة الحضارة الإسلامية بتحويلها عن الإلهيَّة إلى الإنسانيّة؛ إذ يرى أنَّ حنفي "يقترح حذف لفظ الجلالة حتى من اللغة.. والاكتفاء بعبارة "الإنسان الكامل" لأنها الأدق في التعبير!"( ). وعلى جانب آخر يرى عمارة أنَّ هذه الهيرمنيوطيقا سعت إلى تأليه العقل والاستغناء به وبالحواس عن الوحي والغيب، وأنسنة الدين الإسلامي بإحلال "الدين الطبيعي" محل "الدين الإلهي". ثم ينتهي عمارة من نقده متهمًا حنفي بأنه مجرَّد ناقل، نقل هذا "العبث الغربي" -على حد قول عمارة- الذي صنعته الهيرمينيوطيقا الغربية مع اليهودية والنصرانية إلى الميدان الإسلامي. فحنفي -إذًا- في نظر عمارة لم يكن سوى مقلِّدٍ لا علاقة له بأيّ فقهٍ أو إبداع( ).
وبغض النظر عن موضوعية محمد عمارة أو تحامله وتحيُّزه وخروجه عن الموضوعية في نقده لهيرمنيوطيقا حسن حنفي، فإننا نعود ونؤكد أهميّة الطرح الحنفي لكافة القضايا الفكرية التي طرحها من خلال مشروعه الكبير (التراث والتجديد)، وأنَّه ألقى حجرًا ضخمًا في المياه الراكدة من أجل أن يحرِّك تيار النهضة العربية إلى الأمام، مبتدءًا من الفكر ومنتهيًا إلى الواقع الذي حلم بتغييره إلى ما هو أفضل.
• الهوامش
) أنطوان سيف، حسن حنفي وفينومينولوجيا التفسير والتأويل، القاهرة، مجلة أوراق فلسفية، العدد(28)، 2010، ص19.
( ) المرجع السابق، ص36-37.
( ) حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج1، بيروت، دار التنوير، 1988، ص40-41.
( ) المصدر السابق، ص42.
( ) المصدر السابق، ص294.
( ) حسن حنفي، من النص إلى الواقع- تكوين النص، ج1، القاهرة، مركز الكتاب للنشر، ط1، 2004، ص8.
( ) المصدر السابق، ص8-9.
( ) المصدر السابق، ص8.
( ) حسن حنفي، التراث والتجديد- موقفنا من التراث القديم، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4، 1992، ص13.
( ) المصدر نفسه.
( ) حسن حنفي، هموم الفكر والوطن، التراث والعصر والحداثة، ج1، القاهرة، دار قباء، ط2، 1998، ص351.
( ) محمد عمارة، التأويل العبثي في الدراسات الإسلامية المعاصرة، مجلة الأزهر، القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، الجزء5، السنة 86، عدد جمادي الأولى1434هـ- مارس2013م، ص898.
( ) المرجع السابق، ص901-903.
( ) المرجع السابق، ص903.