عارف عادل مرشد
كاتب وأكاديمي أردني
يهدف علم "الاستغراب" إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرُّر من الاستعمار، والانتقال من التحرُّر العسكري إلى التحرُّر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرُّر الحضاري. فإذا كان "الاستشراقُ" قد مكّن الآخرَ من فهم العالم الشرقي والسيطرة عليه، فإنه يمكن لعلم الاستغراب أيضًا أن يمدّنا بأدوات معرفة الآخر المهيمن والتحرُّر منه. وهذا بالتحديد ما جعل المفكر حسن حنفي يرى في علم الاستغراب أداةً للتحرُّر.
• تمهيد
برز من الشَّرق العربيّ طرحٌ بديلٌ أو معاكسٌ لحركات الاستشراق يسمّيه المفكر المصري حسن حنفي (1935-2021) "علم الاستغراب". ويعدُّ حنفي من أبرز منظري تيار اليسار الإسلامي، وأحد أهم المفكرين العرب المعاصرين من أصحاب المشروعات الفكرية العربية، امتازت أبحاثه بالجدية وبالأفكار المُبتكرة(1).
وقد سار حسن حنفي على خطى العديد من المفكرين العرب، أمثال: أنور عبدالملك (1924-2012) وإدوارد سعيد (1935-2003) وصادق جلال العظم (1934-2016) وغيرهم، في محاولتهم مواجهة الاستشراق، من خلال تقديم رؤية تقوم على تأسيس علم يدرس الغرب، ليكون النقيض والمقابل للاستشراق، وذلك من خلال ما طرحه في مشروعه التراث والتجديد(2).
وأمام هذا المشروع المنتمي إلى العالم العربي والإسلامي، وباعتباره محاولة جادة في الرد بحثيًا وعلميًا على مغالطات الصورة النمطية والمركزية الغربية(3)، أطرحُ في دراستي هذه التساؤلات الآتية:
- ما هي المرتكزات العلمية عند حسن حنفي التي بنى عليها مقدمته في "علم الاستغراب"؟
- كيف نظر حنفي إلى مهمّات "علم الاستغراب" ونتائجه؟
- ماهي المشكلات والمعوّقات التي يواجها مشروع "علم الاستغراب" في طرح حنفي؟
• من الاستشراق إلى الاستغراب عند حسن حنفي
الاستشراق ميدان من المعرفة الغربية بالشرق، حضارة وثقافة وعقائد، جُمع في عداد المهتمين به مؤرخين ودارسين في ميادين تاريخ الأفكار والأديان واللغات من الباحثين الأوروبيين ابتداءً، فالأميركيين لاحقًا. وجَمعت بين هؤلاء -على اختلاف في الرؤى والمناهج والتخصصات- المعرفةُ بتاريخ الشرق ولغاته.
ويقع الاهتمام بالإسلام وحضارته وتراثه موقعًا رئيسًا في منظومة الاستشراق، وإلى حدودٍ كاد فيها معنى الاستشراق يطابق معنى الدراسات العربية والإسلامية التي أنجزها الباحثون الغربيون منذ قرنين، أو هكذا على الأقل كان معناه في وعي العرب والمسلمين، وربما –أيضًا- لأنَّ الأعمَّ الأغلبَ من مثقفيهم ودارسيهم لا يعرف من الاستشراق سوى ما كتبه الغربيون عن عالم الإسلام قديمًا وحديثًا، فيما يجهلون ما كتبه هؤلاء عن الصين والهند وغيرهما من المراكز الحضارية والثقافية في الشرق.
والصورة التي كوَّنها العرب والمسلمون في وعيهم عن الاستشراق سلبيّة في المعظم من حالات ذلك الوعي، فهو متهم منهم بشبهة –أو قرينة- العلاقة بالسياسات الكولونيالية للدول الأوروبية تجاه المجتمعات التي تدين شعوبها بالإسلام. وهو اتهام لا ينتقص من قيمته المعرفية في نظرهم فحسب، بل يجرِّده من كل قيمة معرفية، ويضعه في خانة الفكر المشدود إلى أداء وظائف سياسية استعمارية.
ولقد ازدهر هذا النوع من النقد الأيديولوجي الاتهامي للاستشراق في الفكر العربي منذ مساجلات جمال الدين الأفغاني (1838- 1897) معه حتى اليوم. وهو نقد لم ينصرف إلى تحليل المضمون لخطاب الاستشراق ونقده بأدوات ومفاهيم العلم، بمقدار ما انحصر في مساجلته بمفردات أيديولوجية انتصارًا لما يُعتقد أنه الحقيقة التاريخية(4).
وفق هذه الرؤية السلبية للاستشراق وضع حسن حنفي مؤلفه الشهير "مقدمة في علم الاستغراب"، والذي شكَّل أوَّل مشروع فكري عربي متكامل يتخذ من "الاستشراق المعكوس"(5) ثيمة مركزية له. على الرغم من أنَّ مصطلح "الاستغراب" لم يكن نحتًا خاصًا بحنفي، فقد ورد هذا النحت اللغوي في خاتمة كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، إلا أنه هو الذي أعطى لهذا المصطلح مفهومًا محددًا وواضحًا، ورسم له أبعاده ومضامينه ومراميه ومرجعياته الفلسفية ورؤيته الأيديولوجية، فالنضوج الفلسفي عند حنفي هو الذي دفعه للدخول في هذه المغامرة الفكرية التي لا سابقة لها في الفكر العربي.
ومن الواضح أنَّ حسن حنفي لم يلتفت إلى تحذيرات إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق"، التي دعا فيها إلى عدم الانجرار إلى "الاستشراق المعكوس". فقد كان سعيد قد أخذ على الاستشراق الغربي أنه يكرِّس المقولة الشهيرة للأديب البريطاني "روديار كبلنغ" (1865-1936) "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". فتحذيرات سعيد لم تمنع حنفي من قلب المعادلة التاريخية، و"فكّ عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مُركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى ذات مدروس"(6).
في هذا السياق جاءت فكرة الاستغراب كقوة فاعلة وعاقلة رشيدة وهي المقابل العلمي لفكرة الاستشراق، فالاستشراق بحسب حنفي يعبِّر عن وجه من وجوه هيمنة الغربي على الشرقي بوصف الغربي ذاتًا عارفة والشرقي موضوعًا لها. مركّب العظمة مقابل عقدة النقص، تلك هي الصفة الجوهرية المعبرة عن الاستشراق. وللخروج من هذا الوضع المأساوي والمركَّب لا بد من قيام علم مقابل له هو الاستغراب(7). إنَّ "مهمة علم الاستغراب هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس"(8).
فمن خلال هذا المنحى الايبستيمي التاريخي والثقافي لا بد من حركة مضادة ومعاكسة، هذه الحركة هي التي نسميها "الاستغراب". فهذا العلم هو الذي سيتولى إنجاز ما لم يُنجز تاريخيًا بعد؛ وهو أن نجعل من الآخر المهيمن موضوع بحث ودراسة وتفكيك. أي أنَّ على علم الاستغراب مهمة تحريرية عميقة، هي تحرير الإنسان. فالمشروع الفكري والحضاري هو الهمّ الجديد الذي يجب على الشعوب العربية والإسلامية الاشتغال به ومواجهته، فالتبعية التامة للغرب ما هي إلا نتاج جهلنا بالغرب وحقيقته التاريخية والثقافية والسياسية، وما التغريب الذي يعيشه الجميع إلا نتاج هذا الجهل بالآخر وعدم معرفته المعرفة الحقيقية ونتاج هذا الضعف أمام الآخر هو ضعفٌ يكشف ضُعفًا أمام أنفسنا أوّلًا وأمام الآخر ثانيًا. لقد مكّن الاستشراقُ الآخرَ من فهم العالم الشرقي والسيطرة عليه، ويمكن لعلم الاستغراب أيضًا أن يمدّنا بأدوات معرفة الآخر المهيمن والتحرُّر منه. وهذا بالتحديد ما جعل حنفي يرى في علم الاستغراب أداة للتحرُّر حقًا(9). "يهدف علم الاستغراب إذن إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري إلى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرر الحضاري. فطالما أنَّ الغرب قابع في قلب كل منّا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يحال إليه كل شيء للفهم والتقييم، فسنظلّ قاصرين وفي حاجة إلى أوصياء"(10).
والاستغراب ليس فقط مُعاكسًا للاستشراق، بل هو أيضًا معارض للتغريب، من حيث أنَّ التغريب حدث فعلي لا يمكن إنكاره واغتراب يعبِّر عن حالة سلبية للفكر العربي المعاصر. فالتغريب نوع من الاغتراب بالمعنى الاشتقاقي للَّفظ؛ أي تحوُّل الأنا إلى آخر. إنه عودة للاستعمار بوجه جديد ومغاير. بل إنَّ المشاريع النهضوية التي حملت شعار التجديد والنهضة بقيت في جوهرها تغريبية(11)، "فالإصلاح الديني (الأفغاني) والليبرالية السياسية (الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كلها ترى الغرب نمطًا للتحديث ونموذجًا للتقدُّم. ترى صورتها في مرية الآخر، ممّا ولَّد الحركة السلفية حتى أصبحت وريثة الإصلاح، وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الأخيرة وانتهى العقل والعلم من حياتنا بذيوع مسوح الإيمان والخرافة"(12).
• مهمة "علم الاستغراب"
"ماذا يعني الاستغراب؟"، يذهب حنفي لتقديم إجابات مباشرة عن هذا السؤال يأتي أولها: "الاستغراب في مقابل الاستشراق... ومن هنا سيهتم هذا العلم باكتشاف كيف تكوّن الوعي الأوروبي ويشمل تاريخيته كلها، مصادره، بدايته، من أجل اكتشاف التكوين التاريخي لهذا الوعي والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، مطبقًا المنهج التاريخي الذي طالما طبقه الاستشراق على الحضارة الإسلاميّة"(13).
لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما الجديد الذي سيقدِّمه هذا العلم (الاستغراب)؟ فالحضارة الأوروبية ذاتها درست مسار الوعي الأوروبي عبر مراحله ومصادره ومختلف تفاصيله. إلا أنَّ لحسن حنفي رأيًا آخر في هذا الأمر، فهو يرى أنَّ المادة التي يأتي بها الوعي الأوروبي(14) "نوع من أنواع النقد الذاتي واضعًا نفسه في مرآة نفسه تختلف عن مادة الاستغراب التي يتم فيها رؤية الغرب من منظور اللاغرب، رؤية الآخر من منظور الأنا"(15). وبالتالي سيكون الاستغراب هو قراءة الذات أو الأنا للآخر.
ويستمرّ حنفي في تعريف الاستغراب باعتباره الوجه الآخر والنقيض من الاستشراق، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا الشرقي من خلال الغربي، فإنَّ الاستغراب سيكون قادرًا على "فكّ العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر"(16).
والنص السابق معبِّر عن بنية شعوريّة قائمة على التأمُّل الانعكاسي غير المكتفي بتأمُّل الذات فقط، بل أصبح فعل "التمرئي" فيه قائم على العلاقة المركّبة بين "الأنا" و"الآخر"، "النقص" و"العظمة"، "العقدة التاريخية"، وعدد كبير من المفردات والمصطلحات المتعارضة.
وممّا سبق نستطيع أنْ نستكشفَ أنَّ فعل "التمرئي" القائم على وضع "البنية الشعورية’" في مقابل الاستشراق عند حسن حنفي هو الدافع والموجه والمحرك الأساسي للمؤثرات السيكولوجية والثقافية المكونة لما أسماه "الاستغراب" بهدف التخلص من "اغتراب الأنا نتيجة تحويل الغرب لها إلى آخر". ومن هذا المنطلق سيبدأ حنفي في تحديد مسار "علم الاستغراب" بإعادة الشعور اللأوروبي إلى وضعه الطبيعي من أجل التحرر من الاستعمار وبهدف التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري، فطالما أنَّ الغرب قابع في كل منّا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يُحال إليه كل شيء للفهم والتقييم فسنظلّ قاصرين(17).
• نتائج "علم الاستغراب" عند حسن حنفي
هذا ما يتعلق بمهمّة الاستغراب، أمّا ما يتعلق بنتائجه، فيحصرها حنفي في ما يأتي:
1- السيطرة على الوعي الأوروبي؛ أي احتواؤه بداية ونهاية، نشأةً وتكوينًا، وبالتالي يقلّ إرهابه لأنه ليس بالوعي الذي لا يٌقهر، فيتحوّل الدارس إلى مدروس والذات إلى موضوع، ولا نصبح ضائعين فيه.
2- دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ، صحيح أنه تاريخ تحقق على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك تجربة بشريّة ومسار حضاري مثل غيره من التجارب.
3- ردّ الغرب إلى حدوده الطبيعية، وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المدّ الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية، إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت حتى تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام في لحظة ضعف الأنا وتقليده للآخر واقتصار تحرُّره على الأرض دون الثقافة، وإرجاع الثقافة والحضارة إلى الجغرافيا والتاريخ إذْ إنَّ المسافة بينهما متباينة للغاية، فالأولى محددة والثانية لا محددة. وإذا كان العام قد انتقل من الخاص في عصر الريادة الأوروبية بالأمس، فإنَّ العام يمكن أن يعود إلى الخاص في عصر الانحسار الأوروبي اليوم.
4- القضاء على أسطورة الثقافة العالمية، واكتشاف خصوصيات الشعوب، حيث إنَّ لكل شعب نمطه الحضاري الخاص ووعيه المتميِّز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته الخاصة.
5- إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية وتحريرها من هذا الغطاء الذهني، وهذه البنية العقلية حتى تفكر الشعوب بعقليتها الخاصة وأطرها المحلية، فتتعدّد الأنماط وتتنوّع النماذج.
6- القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلّاق بدلًا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، بل وتصير قادرة على التفوق على غيرها، وقد يتحول مركّب النقص إلى مركّب عظمة يساعد على الخلق والإبداع.
7- إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلًا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، وإبراز دور الحضارات التي ساهمت في تكوين حضارة الغرب والتي حاك الغرب حولها مؤامرة الصمت.
8- انتهاء الاستشراق وتحوُّل حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوان يقظته على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها.
9- إنشاء "علم الاستغراب" كعلم دقيق بعد أن ظهرت إرهاصاته دون أن تتحوّل إلى علم، وتحويل الحضارة الأوروبية أيضًا من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة.
10- بداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر الحضارية وقانون تطويرها أشمل وأعم من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ(18).
هذا باختصار شديد ما يتعلق بموقف حسن حنفي من التراث الغربي، أما الهدف الأكبر من ذلك -كما ذكرت- فهو مواجهة الغرب لتحدّيه وتحجيمه.
• صعوبات تواجه تأسيس "علم الاستغراب"
يمكن القول إنَّ محاولة حنفي ترسيخ قواعد "علم الاستغراب" هي محاولة دونها الكثير من الصعوبات والمعوقات، حيث كان حنفي متناقضًا مع نفسه في طرح العديد من أفكاره التي تناول فيها التراث الغربي، إذ كان هذا التناقض يمثل صورة المفارقة القائمة في ذاكرة حنفي ليس فقط في نظرته لحضارتنا العربية الإسلامية، بل أيضًا في تحليله لبنية الحضارة الغربية ومصادرها وعلومها وثقافتها. فهي حضارة تؤمن بالعلم وتقوم على العقلانية والتطور المستمر، ممّا يحول دون دراسة تراثها بهذه المنهجية التأويلية، القائمة على التمركز على الذات والتغني بالقديم والنيل من تراث الآخر، ممّا يخلق حاجزًا أمام التفاعل والتقابل الحضاري بين المجتمعات.
كما أنَّ محاور "علم الاستغراب" تتناقض مع هدف حنفي الرئيس لتأسيس "علم الاستغراب"، وهو مواجهة التغريب والتحرر من الآخر الغربي، فالنظر إلى الآخر الغربي كمكون للعقلية العربية، ومصدر لها من خلال "علم الاستغراب" يحتم على حنفي الانفتاح على الغرب، والاستفادة منه، لا اعتباره النقيض الذي يجب التحرر منه؛ الامر الذي تنتفي معه ضرورة التأسيس لعلم نستطيع من خلاله دراسة الآخر الغربي. كما أنَّ ما قام به حنفي من نقل للمصطلحات والمفاهيم الغربية هو أمر سيؤدي بالضرورة إلى زيادة التغريب(19).
بالإضافة إلى ما تقدَّم، فإنَّ الغرب في الاستشراق كان يدرس الشرق من موضوع القوة والتفوق، ممّا سهّل من عملية الحصول على المادة البحثية والمخطوطات وغير ذلك من القدرات المعلوماتية المساعدة على البحث. أمّا الاستغراب فهو يواجه نقصًا معلوماتيًا، قد يكون مصدره أنَّ الغرب في موضع قوته هو الذي يمدّنا بالمعلومات عنه، بل أكثر من ذلك، وفي كثير من الأحيان -وتلك مسألة خطيرة- نستمدّ معلوماتنا عن ذاتنا من الغرب.
ولا بدّ أيضًا من الإشارة إلى مسألة المنظور الذي يتم من خلاله قراءة الحضارة الغربية، إذ إننا، حتى الآن، ما زلنا نعاني من مشكلة الهوية واضطراب مفهوم الذات، والتذبذب بين الانتماء العربي، والإسلامي، والشرق أوسطي..إلخ، وهذا بدوره سوف ينعكس على ما يقدمه الاستغراب، وبالتالي الاختلاف على نتائجه(20).
• الهوامش
1- سامي الذيبي، حسن حنفي مؤسسًا لـ"علم الاستغراب"، مجلة الدراسات الثقافية واللغوية والفنية، مج5، ع18، نسيان(إبريل) 2021، ص221.
2- ممدوح محمد بريك الجازي، المنطلقات النظرية الأساسية لمفهوم الاستشراق في فكر حسن حنفي: تحليل ونقد، مجلة المستقبل العربي، مج 40، ع 462، أغسطس 2017، ص123.
3- سامي الذيبي، مرجع سابق، ص222.
4- عبدالإله بلقزيز، نقد الاستشراق في الفكر العربي، في: عبدالإله بلقزيز، محمد جمال باروت، (محرران)، الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2013، ص628-629.
5- تبلور مفهوم "الاستشراق المعكوس" من خلال النقد الذي وجهه المفكر السوري صادق جلال العظم في كتابه "الاستشراق والاستشراق المعكوس" لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق". وقد جاء في النقد الذي وجهه العظم لإدوارد سعيد بأنه تأثر بالمستشرقين ووقع في الفخ نفسه الذي وقعوا فيه، وهو فخ الفصل الأنطولوجي بين الشرق والغرب. وهي المقولة المركزية التي ردّدها المستشرقون دون استثناء وبنوا عليها كافة تصوراتهم عن الشرق.
6- أحمد محمود سلامي، الاستشراق المعكوس في فكر حسن حنفي، المجلة الأردنية للعلوم الاجتماعية، مج9،ع1، 2016، ص109-110.
7- أحمد عبدالحليم عطية، جدل الشرق والغرب عند حنفي، مجلة أوراق فلسفية، ع46،2016، ص139-140.
8- حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية للنشر والتوزيع، ط1، 1991، ص29.
9- أحمد عبدالحليم عطية، مرجع سابق، ص141.
10- حسن حنفي، مرجع سابق، ص34.
11- أحمد عبدالحليم عطية، مرجع سابق، ص138.
12- حسن حنفي، مرجع سابق، ص26.
13- المرجع السابق، ص13.
14- أحمد حسن أنور، نقد الاستشراق في الفكر العربي المعاصر: أنور عبدالملك وحسن حنفي نموذجًا، مجلة كلية الآداب، جامعة الفيوم- كلية الآداب، مج 12، ع1، ص263.
15- حسن حنفي، مرجع سابق، ص21.
16- المرجع السابق، ص29-30.
17- أحمد حسن أنور، مرجع سابق، ص265.
18- أحمد عبدالحليم عطية، مشروع حسن حنفي التجديدي وتحديات العصر، مجلة أوراق فلسفية، ع47، 2016، 98-99.
19- ممدوح محمد بريك الجازي، مرجع سابق، ص136.
20- يوسف زيدان، الاستغراب: جذوره ومشكلاته، في: أحمد عبدالحليم عطية(معد ومقدم)، جدل الأنا والآخر: قراءات نقدية في فكر حسن حنفي، القاهرة، مكتبة مدبولي الصغير، ط1، 1997، ص159-160.