مجدي ممدوح
كاتب أردني
لم يكتفِ حسن حنفي في مشروعه الاستغرابي بالكشف عن تكوين الوعي الغربي، بل إنه مضى في مشروعه في محاولة استشراف مستقبل هذا الوعي، فيشير حنفي إلى أنَّ الوعي الغربي دخل في مرحلة أطلق عليها "الموت الروحي"؛ وتجلّى هذا الموت في أوضح صوره في الفلسفات العبثيّة والعدميّة. ويرى حنفي أنَّ الحضارة الغربية التي نعتت نفسها بأنها حضارة العقل، انتهت إلى تحطيم العقل؛ فتبنَّت الحداثة الأوروبية العقل غاية ووسيلة في مرحلة انبعاثها في القرن السابع عشر، ولكنها لم تلبث أن تنكَّرت لهذا العقل لاحقًا تحت مسوّغات وغايات مختلفة.
في خاتمة كتابه "الاستشراق"، كان إدوارد سعيد قد حذَّر من الانسياق وراء إغواء الاستغراب، وأنكر أن يكون الهدف من كتابه هو الدعوة للاستغراب. لم يكلِّف سعيد نفسه عناء التحديد الدقيق لهذا المصطلح وما يحيل إليه من مفهوم أو مفاهيم. إنَّ الإشارة المقتضبة للاستغراب في خاتمة كتاب سعيد والتي لم تتجاوز السطرين قادت لتأويلات وتفسيرات متعددة لهذا المفهوم. لقد تباينت النتاجات الثقافية الاستغرابية تباينًا واسعًا، وكان هناك طيف واسع من هذه الخطابات سواء في العالم العربي أو لدى شعوب العالم. ويُعتبر كتاب حسن حنفي "مقدمة في علم الاستغراب" أحد الخطابات المهمّة في هذا الحقل.
لقد طرح حنفي مشروع استغراب صريح واضح المعالم محدَّد الغايات بلا لبس أو مواربة. وقد وصف حنفي مشروعه بالقول: لقد آن الأوان لكي يصبح الغرب مدروسًا بعد أن كان دارسًا. لقد آن الأوان لتحويل الغرب إلى موضوع مدروس بعد أن كان ذاتًا دارسة. هنا تنقلب الذات الغربية لتصبح موضوعًا، ويتحوَّل الشرق من موضوع إلى ذات.
إنَّ قراءة حنفي للعقل الغربي تمخَّضت عن نتائج متعددة. لقد اكتشف حنفي أنَّ العقل الغربي ليس عقلًا موحدًا كما يروِّج لذلك فلاسفة الغرب. فقد صوَّر دعاة المركزية الغربية الوعي الغربي بأنه مسيرة تاريخية متصلة تبدأ باليونان مرورًا بالحضارة الرومانية وصولًا للنهضة الأوروبية الحديثة التي انبثقت من إيطاليا. ويشير حنفي إلى أنَّ مصادر الوعي الأوروبي ليست كما يطرحها دعاة المركزيّة الغربيّة، والذين يشيرون فقط للتراث اليوناني الروماني والتراث اليهودي المسيحي. ولكن الحقيقة برأيه أنَّ ثمَّة مصدرين لم يتم الإفصاح عنهما دخلا كمكوّنين أساسيين في تشكيل هذا الوعي؛ المصدر الأوَّل هو المصدر الإسلامي الذي نهلوا منه مختلف العلوم والفلسفة واستندوا لها في ثورتهم العلمية والفلسفية. ويُلحِق حنفي بهذا المصدر الحضارات الشرقية السابقة على اليونان، كالفرعونية والصينية والبابلية. أمّا المصدر الثاني الذي لا يتم الإشارة إليه، فهو البيئة والمجتمعات الأوروبية والتي كانت شعوبًا بربرية وثنية. إنَّ إخفاء هذين المصدرين يصوِّر الحضارة الغربية بوصفها حضارة روحانية عقلية. ولكن المتتبع لمسيرة الحضارة الغربية بعد عصر النهضة يكتشف بجلاء أنَّ هذه الحضارة قد عملت بشكل دؤوب على استبعاد هذين العنصرين الوافدين. إنَّ الروح الأوروبية ذات الطابع المادي الفجّ، سرعان ما تنكَّرت للوافد المسيحي واستطاعت من خلال حركة الحداثة والتحوُّلات الرأسمالية أن تقضي على سلطة الكنيسة وتجريدها من كل تأثيراتها الحضارية. واستطاعت أيضًا من خلال فلسفاتها المادية التنكر للوافد اليوناني وتراث أفلاطون وأرسطو. إنَّ الوعي الأوروبي المادي شهد صراعًا وتناقضًا كبيرًا في داخله أدّى لتصفية كل ما هو غير مادي في هذه الحضارة.
يُعتبر هذا التحليل العميق الذي قدَّمه حنفي لهذه الحضارة من النتائج المهمّة لعلم الاستغراب الذي أسّسه. ويمكن القول إنَّ هذه الاستنتاجات غير مسبوقة، وجاءت نتيجة اطلاع حنفي الواسع على الفكر الغربي، قديمه وحديثه، وكذلك على الحضارات الشرقية التي سبقت الحضارة الغربية. كل هذه التناقضات التي ظلت تنخر في ساحة الوعي الغربي، تكذِّب ادعاءات الوحدة والمركزية التي يدَّعيها فلاسفة الغرب.
لم يكتفِ حنفي في مشروعه الاستغرابي بالكشف عن تكوين الوعي الغربي، بل إنه مضى في مشروعه في محاولة استشراف مستقبل هذا الوعي. يشير حنفي إلى أنَّ الوعي الغربي دخل في مرحلة أطلق عليها الموت الروحي. وتجلّى هذا الموت في أوضح صوره في الفلسفات العبثيّة والعدميّة. وأشار حنفي إلى أنَّ ظهور الفلسفات العدميَّة لهو دليل دامغ على بداية النهاية لهذه الحضارة. لقد ابتدأت العدميّة بفلسفة الألماني "فريدريك نيتشه" الذي شخَّص مبكرًا مصير الوعي الأوروبي ونهايته القريبة. وتعمَّقت الأزمة في الفلسفة الوجوديَّة عندما حلّل فلاسفتها الوجود الإنساني وانتهوا إلى وصف التجربة الإنسانيَّة بأنَّها عبارة عن عدم، وموت، وحصر، وهمّ، وضيق، وضياع للفرد في الجماعة، وثرثرة وغثيان، وقيء، وفراغ، وعبث"(مقدمة في علم الاستغراب، 2006، ص508). حيث تكرَّست حادثة الموت في الوعي الأوروبي وترسَّخت في فلسفة "جاك دريدا" التفكيكيَّة، والتي تؤكِّد موت الروح والضياع الكامل، وفُقدان المعنى، والدخول في متاهات الخطاب وأحابيله دون وجود أيّ هدف أو غاية. كما سقطت قوانين العقل التي قام عليها الوعي الأوروبي، فسقط قانون الهويَّة، وحلَّ محلَّه قانون الاختلاف.
ينتقد حنفي، وهو محق في نقده، ميل الباحثين الغربيين للتوحيد بين المصدرين المسيحي واليهودي في مصدر واحد، ويشير إلى أنَّ الأمانة العلميَّة تحتِّم الفصل بين هذين المصدرين، إذ لا يوجد أيّ تشابه بينهما، فثمة تعارض كبير بين المسيحيَّة واليهوديَّة. ومصدر هذا التعارض يأتي في المقام الأول أنَّ الإله في اليهوديَّة هو إله قومي مرتبط بالأرض والشعب والتاريخ، علاوة على وجود نزعة مبالغ بها في اليهوديَّة للتجسيد الحسي للإله، بينما تقوم المسيحيَّة على الصورة التنزيهيَّة المتعالية للإله، لا يشوبها أي نزعة حسيَّة. وقد وصف الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" اله التوراة بأنَّه "إله غيور غاضب منتقم، يلعن بني إسرائيل في حين أنَّ الله في الإنجيل إله المحبّة والرحمة والمغفرة"(مقدمة في علم الاستغراب، 2006، ص95).
يشير حنفي إلى أنَّ التعارضات بين المسيحيَّة واليهوديَّة كثيرة وأكثر من أن تحصى. فالمسيحيَّة دين إنساني عابر للقوميَّات والأعراق، بينما اليهوديَّة تُعتبر دينًا قوميًا عرقيًا مغلقًا داخل مجموعة بشريَّة محدّدة. وهنا يشير حنفي إلى شرخ خطير في الوعي الأوروبي يسكت عنه مفكرو الغرب، لأنَّ هذا الوعي يقدِّم نفسه بوصفه واحدًا ومستمرًا، وهو يحارب كل ما من شأنه فصم عرى هذه الوحدة والاستمراريَّة المزعومة.
إنَّ سرد تاريخ الوعي الأوروبي ليس مطلبًا بحد ذاته بالنسبة لحنفي، فهناك الكثير من المؤلفات تناولت تاريخ الفلسفة الغربية، وربما تكون أكثر اكتمالًا ودقة من السرد الذي قدمه حنفي. ولكن ما قدمه حنفي يمتاز عن غيره أنه جاء من خارج العقل الغربي. فالعقل الغربي بحاجة لأن يُقرأ بعيون الآخر، والذي سيقدم قراءة مغايرة. يشير حنفي إلى أنه كان مهمومًا بعرض ملحمة الوعي الأوروبي من منظور الأنا العربي الإسلامي. والنتائج التي تحققت من خلال هذا المنظور الجديد هي الكشف عن تاريخية هذا الوعي، وارتباطه بزمان ومكان محدد، وأنه ليس مشروعًا كونيًا صالحًا لكل الأزمان والأمكنة. وكانت هناك أيضًا نتيجة مفاجئة، وربما صادمة لهذا المنظور الجديد: أنَّ الحضارة الغربية التي نعتت نفسها بأنها حضارة العقل، انتهت إلى تحطيم العقل. وثمة شواهد كثيرة في مسيرة الوعي الأوروبي تشهد على أفول العقل. لقد تبنَّت الحداثة الأوروبية العقل غاية ووسيلة في مرحلة انبعاثها في القرن السابع عشر، ولكنها لم تلبث أن تنكّرت لهذا العقل لاحقًا تحت مسوغات وغايات مختلفة. فتيار ما بعد الحداثة تنكَّر للعقل وقلب له ظهر المجن. وكذلك فعل "فرويد" الذي ذهب إلى أنَّ السلوك البشري تحركه في الأغلب دوافع لا واعية، وأنَّ مساحة اللاوعي أكبر بكثير من مساحة الوعي.
لقد استطاع حنفي أن ينجز الوعود التي أعلنها في مشروعه الاستغرابي، وهي تحجيم الغرب ورده لحدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية وبيان محلية ثقافته مثل أي ثقافة أخرى. ولكن حنفي يستدرك قائلًا إنَّ هذا لا يعني مطلقًا أيّ دعوة للانغلاق أو العودة لجنون الذات أو الرفض المطلق للآخر. وفي هذه المسألة تحديدًا يثبت حسن حنفي أنه امتدَّ لمشروع النهضة العربية الحديثة الذي دشّنه الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده. لقد أرسى هؤلاء الروّاد رؤية واضحة لمشروع النهضة كونه يطير بجناحين لا غنى عنهما، جناح الأصالة المرتبط بالتراث، وجناح المعاصرة المرتبط بالوافد الغربي. والحقيقة أنَّ روّاد النهضة لم يحيدوا عن هذا الخط وظلوا ممسكين بالعصا من الوسط. والملفت أنه مع رحيل محمد عبده، حصل نوع من الإخلال في هذه المعادلة، حيث قام بعضهم بتغليب الجانب التراثي وخلق تيار سلفي كما فعل محمد رشيد رضا الذي غلّق الأبواب أمام الفكر الغربي، بينما اتَّجه بعضهم الآخر لتغليب الوافد الغربي وخلق تيار تغريبي كما فعل سلامة موسى الذي تنكّر للتراث واعتبره معوقًا يحول بيننا وبين اللحاق بالعصر.
ننتقل للسؤال الأصعب في مشروع الاستغراب: هل وصل العقل العربي فعلًا للنضج والكينونة بذاته حتى يغدو قادرًا على إخضاع العقل الغربي للدرس وجعله مدروسًا؟ وهل يمتلك هذا العقل المنهجيات الفعالة والمفاهيم الكفؤة لمقاربة النتاج الثقافي الغربي وموضعته؟
يبدو أنَّ هذا السؤال كان حاضرًا في ذهن حنفي وهو يقدِّم مشروعه الاستغرابي المتضمن في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب". ونستشف من المقدمة الطويلة التي يسوقها حنفي أنه ربما يكون قد تعجَّل في طرح مشروعه، وهو معذور بسبب هموم قصر العمر التي لا تعطيه فسحة لإنضاج آليّاته ومنهجيّاته ومفاهيمه بشكل كامل، ويقدِّم ما يشبه الاعتذار على ذلك، حيث يقول: "وقد حتَّم ذلك سرعة الإنجاز دون شطب أو تعديل، صياغة أولى ولا وقت للثانية، يكفي أسلوب التدفُّق الصادق وتكفي الحدوس والرُّؤى"(مقدمة في علم الاستغراب، ص559).
يشير حنفي بلا لبس في أكثر من موضع، أنه وظف المنهج التاريخي في دراسته لتكوين الوعي الأوروبي، وهو عينه المنهج الذي طبقه المستشرقون في مقاربتهم للحضارة العربية الإسلامية. إذن هو يوظف منهجًا غربيًا خالصًا لهذا الغرض. ثم يشير بعد ذلك إلى أنه وظف علم اجتماع المعرفة عندما ينتقل لدراسة بنية الوعي الأوروبي، وهو أيضًا علم أوروبي خالص. إنَّ توظيف منهجيات أوروبية في نقد الوعي الأوروبي تجعل من هذا النقد محدودًا، وربما يكون الغرب قد مارس هذا النقد على نفسه طوال عمر الحداثة. والشواهد على نقد العقل الغربي لنفسه كثيرة، وربما تكون أشد جذرية من نقد حنفي. نسوق هذا الكلام لقناعتنا التامة بأنَّ النقد الجذري يحتاج دائمًا لمنهجيات جديدة كل الجدة. مثال ذلك النقد الذي وجَّهه إدوارد سعيد للاستشراق الغربي، حيث إنه لم يوظف المنهجيات التي اتبعها الاستشراق والمتمحورة حول فقه اللغة، بل جاء بمنهجيات جديدة مثل المنهج البنيوي. وعلى الرغم من أنَّ المنهج البنيوي هو منهج أوروبي صرف، إلا أنَّ توظيفه للمرة الأولى في الدراسات الاستشراقية قد زلزل أسس هذه الدراسات وكشف عن كل الأيدولوجيا المتخفية وراءها، وكشف عن القوى الاستعمارية التي وقفت خلفها. لهذا السبب، فإنَّ أثر إدوارد سعيد كان كبيرًا ولم يستطع عتاة المستشرقين من تفنيد النقد "السعيدي" بما في ذلك كبيرهم "برناند لويس" الذي جاءت ردوده على سعيد عبارة عن شتائم لا أكثر.