د. محمد المصباحي
كاتب مغربي
كان الدكتور محمد المصباحي قد أجرى هذا الحوار مع المفكر العربي الدكتور حسن حنفي في أعقاب مؤتمر جمعهما في فيينا بالنمسا حول حضور الحداثة في الفلسفات العربية والأميركية- اللاتينية والأوروبية في العام 2011؛ وهو ما دفع بالمصباحي لإجراء هذا الحوار المُرتجل حول وقْع الثورة المصريّة التي اندلعت في كانون الثاني/ يناير 2011 في سياق ما اصطُلح عليه بـِ"الربيع العربي". يقول المصباحي الذي خصَّ مجلة "أفكار" بنشر الحوار: "لم أكُن أريدُ منه أن يقدِّم تحليلًا مستفيضًا للثورة المصريّة العارمة، وإنَّما كنتُ أودُّ أن أستدرجه لاتِّخاذ موقف منها على ضوء فلسفته المترامية الأطراف ومتعدِّدة التجلّيات. الحوار، على الرّغم من عفويّته وقصره، لا يخلو من إشارات وشطحات تُميِّز فكر المرحوم في مختلف مراحل تطوُّره".
برحيل الدكتور حسن حنفي في تشرين الأوَّل الماضي فقدنا فيلسوفًا عربيًّا كبيرًا، لم يترك موضوعًا فلسفيًّا إلا وتطرَّق إليه، ولا قارَّة فلسفية إلا واقتحمها مستكشفًا إيّاها. لذلك يصعب تحديد هويّته الفكرية: هل هو فقيه أم متكلم أم فيلسوف أم أيديولوجي؟ هل هو إخواني أم ماركسي أو وجودي- فينومينولوجي؟ هل هو حداثي أم تراثي أم ما بعد حداثي وما بعد تراثي؟ هل هو عقلاني أم سلفي جديد؟ هل هو عروبي أو إسلاموي؟ هل هو منفتح على الغرب أم منغلق على تراثه العربي- الإسلامي؟ هل هو فيلسوف الهوية أم فيلسوف الاختلاف، هل هو فيلسوف التنوير أم فيلسوف اللاهوت التحريري؟ هل هو وثوقي أم عدمي؟
لعلَّ فرادة فقيدنا الكبير هي أنه جامع لكل هذه المتناقضات. وهذا ما يبرهن أنه فيلسوف الجدل بامتياز، سواء من جهة محبّته للجدل أو من جهة إثارته له، علمًا بأنَّ "الوطن" يبقى -بمعناه الضيِّق (مصر)، وبمعناه الواسع (العالم العربي أو الإسلامي)- هو الهَمّ الأوَّل، والمحرِّك الأوَّل لكل انشغالاته السطحيّة والعميقة.
ولا أنسى في هذا المقام زمالته لنا في كلية الآداب في جامعة فاس، حيث كان متفانيًا في تدريسه، مُحبًّا لطلبته، متعاطفًا مع تطلعاتهم وقضاياهم المتناقضة. كان، بالإضافة إلى عمله الأكاديمي، حريصًا على حضوره الثقافي، إذ كان رحمه الله لا يتردَّد في الاستجابة لأية دعوة ثقافية لإلقاء محاضرات من أية جهة كانت، سواء كانت من اليسار أو من اليمين، من القوميين أو من الإسلاميين، وهذا يدلّ على أنه فيلسوف الجمهور لا فيلسوف الخاصة، كما يدلّ على قدرته على الجمع بين التفكير والممارسة، على تواضعه العلمي، على أريحيّته، وعلى ولعه بإرضاء الجميع والعيش في كل العوالم. وعلى الرّغم من أنه كان يعشق أن يحيا في جوّ من الزوابع المتلاطمة، فإنه كان يؤمن بأنَّ له رسالة تجاه الأمة الإسلامية. كان إنسانًا متوثبًا، مندفعًا إلى درجة يظن المرء أنَّ فيه مسًّا أو شيئًا من الفوضوية منغرسة في أعماق ذاته. فهو مع الكلّ، وضدّ الكلّ. كان جريئًا، متحدّيًا، لا يعترف بالخطوط الحمراء، ولا يعمل بعقل العواقب. وعدم اعترافه بالخطوط الحمراء هي التي أودت به إلى مغادرة المغرب جراء استعماله باستخفاف آية قرآنية لانتقاد النظام الملكي. إنه باختصار مفكر إشكالي بامتياز. فمنابع فكره متعدِّدة، ورسالاته كثيرة، ومقاصده السياسية والفلسفية والاجتماعية متنوعة، وهذا ما طبع تفكيره بالتشتت والتبديد. وهذا ما طبع فكره بالتردُّد بين المشروع واللامشروع؛ فهو يزعم أنَّ له مشروعًا يتمثل في الهموم الهوياتية التي تتكرر في كل كتاباته؛ ولكنه كان يبدِّدها في تجليات متناقضة، بحيث لا يستطيع المرء تحديد طبيعة مشروعه وبالتالي مقاصده. وهذا ما أفضى به إلى اعترافه بفشله في أن يشحذ حوله الأنصار لتحقيق الانقلاب. فهو بطبيعته كان مفكرًا انقلابيًّا (ناصريًّا).
بهذه المناسبة الأليمة، مناسبة فقدان أحد أعمدة فكرنا العربي المعاصر، تذكَّرتُ أنني أجريتُ حوارًا عفويًّا معه في أعقاب مؤتمر في فيينا بالنمسا، كان مخصصًا لحضور الحداثة في الفلسفات العربية والأميركية- اللاتينية والأوروبية. ما دفعني لإجراء هذا الحوار المرتجل وعلى سبيل البديهة هو وقع الثورة المصرية التي اندلعت في يناير 2011 في سياق ما اصطُلح عليه بـِ"الربيع العربي". لم أكن أريد منه أن يقدِّم تحليلًا مستفيضًا للثورة المصرية العارمة، وإنَّما كنتُ أودُّ أن أستدرجه لاتخاذ موقف منها على ضوء فلسفته المترامية الأطراف ومتعددة التجليات. الحوار، على الرغم من عفويته وقصره، لا يخلو من إشارات وشطحات تُميِّز فكر المرحوم في مختلف مراحل تطوُّره.
وهذا نص الحوار الذي أجريته معه:
• المصباحي: نبدأ، الأستاذ حسن حنفي، من الأخير. ما تأثير ثورة الشباب العربي على فلسفتك؟ هل أدَّت بكَ إلى إعادة النظر في تفكيرك ورؤيتك للتاريخ، للعالم، للثقافة، للسياسة؟ أم أنكَ ما زلتَ مُصرًّا على مبادئك وتصوُّراتك؟ وهل ترى أنَّ الثورة العربية هي تطبيق لأفكارك؟ أم إنَّها انقلاب عليها؟
- حنفي: منذ أكثر من خمسين عامًا، وأنا أفكر في الثورة منذ أوائل الخمسينات، أي منذ الثورة الأولى التي قام بها الضباط الأحرار والجيوش العربية إبان حركة التحرر الوطني. ولكن الذي كان يزعجنا في هذه الثورة أنها قامت بأيدي نخبة. والنخبة تحوَّلت إلى سلطة، نظرًا لأنَّ لها برنامجًا اجتماعيًا كبيرًا، في التحوُّل الاجتماعي، في التأميم، في التصنيع، في العدالة الاجتماعية، في القطاع العام، إلخ. فلمّا انقلبت هذه الثورة على أعقابها في السبعينات، فتمَّ الصُّلح مع إسرائيل، والتحالف مع أميركا، بدأ التفكير من جديد في خطوط الثورة المضادة. بدأ التفكير في الإعداد لثورة جديدة يقوم بها الشعب، لا النخبة العسكرية. وبدأنا في الجامعة عن طريق كيفية إيجاد ثقافة شعبية سياسية ثورية. والكثير من الذين شاركوا في ميدان التحرير هم طلابنا في الجامعة. لا نستطيع أن نقول إنَّ ما حدث هو تطبيق لأفكارنا الثورية. ما حدث لم يكن متوقعًا. لم نكن ننتظره. وهنا يأتي عامل جديد في الشباب، في الشعب، في الملايين التي تخرج إلى الشارع، في أهمية الكرامة والحرية، وفي قضية أنَّ الحدث يسبق، أحيانًا، الأفكار. ففي الثورة الفرنسية، سبقت الأفكار الحدث، حيث مهَّد كل من فولتير وروسو مونتيسكيو للثورة الفرنسية. في ثورتنا العربية الأخيرة، الحدث هو الذي سبق الفكر. لذا هناك مسؤولية على الفكر الثوري بعد هذا الحدث بأن يؤصِّل الثورة، ويمدّ الثورة بثقافة سياسية ثورية.
• المصباحي: الربيع العربي هو أيضًا ثورة على الثقافة والمثقفين، فيما أعتقد. سقطت عدة أسماء كبيرة. وتمَّ الكشف عن تواطؤ مجموعة من المثقفين مع الفاسدين من أعداء الشعوب. هل ترى أنَّ الثورات العربية هي إعلان نهاية الثقافة؟ ألم تعُد الثقافة تشكِّل نظامًا له ضحاياه وحوارييه، ثقافة الإكراميّات والجوائز وغير ذلك؟
- حنفي: في كل عصر، ينشأ بعض المثقفين، لا أستطيع أن أقول إنَّها طبقة. فبعض المثقفين جاهزون لخدمة أيّ نظام؛ لديهم عجين، لو أرادَ النظام خُبزًا طويلًا، خُبزًا مستديرًا، خُبزًا محروقًا، خُبزًا جيِّد الصُّنع، لقدَّموا له ما يريد. هذا موجود في كل عصر، في الثورة العربية الأولى، التي قام بها الضباط الأحرار، أو خلال السنوات الخمسين الأخيرة، يستخدم المثقف النظام لمصالح شخصيّة: جوائز ومناصب ووزارات وشهرة وإعلام. والنظم السياسية تَكسب المثقفين، لأنَّها تجد مَن يبرِّرها، ومَن يُجمِّلها، ومَن يُحسِّن صورتها، إلخ. هذا موجود في كل عصر. ومنهم مَن خدم أكثر من نظام؛ مَن خدم نظامًا اشتراكيًا، ثم خدم نظامًا رأسماليًا، ومَن خدم نظامًا شعبيًا، ومَن خدم نظامًا تسلطيًا، وهو مستعد لأن يخدم أيّ نظام ما دام يعطيه النظام ما يريد من مصالح شخصيّة، والنظام في حاجة إليه.
لكن بعد ثورة يناير الأخيرة، ثورة الشباب، سقط هؤلاء المثقفون. وعرّتهم الثورة. وبيَّنت لهم أنه لم يعُد في الأمر إمكانيّة أن يستخدموا ثقافتهم لخدمة الثورة الشعبية. فهؤلاء قد أكلوا على كل الموائد. وبالتالي طالبوا بإسقاط أجهزة الإعلام القديمة، بإقالة كل رؤساء تحرير الصحف والإذاعة والتلفزيون. لكنَّ المثقف الثوري نادر طبعًا، المثقف الذي التزم بقضايا الشعب لا تعثر عليه بسهولة. لذلك اضطرَّت الثورة، حتى الأخيرة، إلى التعامل مع أقل المثقفين سوءًا، وأقلهم خدمة للنظم السابقة. ولكنهم ما زالوا من أتباع النظام السابق. تحتاج إلى وقت حتى يخرج جيل جديد من المثقفين المستقلين عن النظم السياسية، والقادرين على أن يكون لهم خطاب ثوريّ، دون أن يزايدوا في الخطاب الثوري بعد وقوع الثورة. هم كتبوا خدمة للنظام السابق، ونقصت مصداقيّتهم. ولم يعُد أحد يصدِّقهم في خطابهم.
• المصباحي: كيف تصف هذه الثورة؟ هل هي ثورة ثقافيّة، أم سياسيّة، أم جماهيريّة؟ أم هي ثورة من نوع جديد، ثورة "فايسبوكيّة"، ثورة المعلوميّات والفضائيّات، إلخ؟
- حنفي: لا. هي ثورة شعبيّة، ثورة ملايين خرجت دفاعًا عن الحرية والكرامة. ليست ثورة فئويّة تطالب بخفض الأسعار، أو بخدمات اجتماعيّة في الإسكان والتعليم والطب، إلخ. هذه ثورة بفضل البوعزيزي في تونس، الذي ثارت كرامته عندما أهين، وبدأت الثورة تمتدّ إلى المحافظات في تونس. الشيء نفسه شعر به الشباب في مصر: إنه أهين، عُذِّب في السجون، اعتُقل بلا قانون وبلا محاكمة، وبالتالي، انتشر الفساد في كل مكان والإثراء لرجال الأعمال، والتسلط لضباط الشرطة، إلخ. فثاروا من أجل الحرية، حرية الفرد، وكرامته، من أجل الديمقراطية، أي أنهم يريدون نظامًا منتخبًا انتخابًا حرًا، بدلًا من تزييف الانتخابات السابقة التي تمَّت علنًا، ومن دون أيّ حرج؛ إنَّنا سنأخذ جميع مقاعد البرلمان بالتَّزوير، وبالقوّة ما دام النظام لديه المال، ولديه السلطة.
• المصباحي: هل تعتقد أنَّ هذه الثورة هي ثورة من دون مشروع اجتماعي، من دون مشروع تاريخي، ممّا سيجعلها ثورة منفتحة على كل الاحتمالات؟ أم أنّها، على الرّغم من كل المظاهر، لها مشروع تاريخي يمكن أن يتولَّد عنه نظام ثقافي جديد؟
- حنفي: لا. لها مشروع تاريخي، حتى وإن كان في مبادئه العامة: أولًا، استرداد حرية المواطن، استرداد حرية الشعب، عودة مصر إلى دورها الطبيعي في المنطقة، بعد أن تمَّ عزلها لصالح أميركا وإسرائيل. تأثير مصر في أفريقيا وآسيا، بعد أن تمَّت المخاطرة بمياه النيل، وبعد أن تمَّ تفتيت الشعوب العربية بالحروب الأهلية، وبالانقسامات، كما حدث في الصومال والسودان. وبالتالي، فهي لها مشروع وطني أولًا وأساسًا، عربي ثانيًا، وإسلامي ثالثًا، لأنه ما زال الاعتداء الأميركي على أفغانستان، ما زال يحرِّك الناس بطريقة لاشعورية. ثم بعد ذلك لها مشروع اجتماعي، فيما يتعلق برفع الأجور، ودعم المواد الغذائية، والإسكان، وبالتالي، وإن كانت هذه على مستوى المبادئ العامة.
• المصباحي: ما دمنا نتكلَّم عن المشروع، لننتقل إلى مشروعكم الفلسفي. أنتم تعملون، منذ مدة، في مراحل من أجل إنجاز مشروع فلسفي كبير. ما هي الحلقة الأخيرة التي تفكرون فيها، مع تذكيرنا بالحلقات السابقة التي أنجزتموها؟ وهل تأملون من هذا المشروع أن يلعب دورًا في تفعيل الفكر، الثقافة، ثم بطريقة غير مباشرة، في تفعيل التاريخ؟
- حنفي: للثورة معانٍ عديدة، منها الانقلاب العسكري. وهذا ما قد تمَّ في الخمسينات.
• المصباحي: (مقاطعًا) لا، لا. هذه ليست ثورة...
- حنفي: ثم هناك إسقاط النظام، حيث يريد الشعب إسقاط النظام، وينجح في تحقيق هذا المبدأ. لكن هل هذه الثورة هي مجرَّد تغيير رأس النظام، وحتى محاكمة رجال الأعمال والمسؤولين عن الفساد، أم أنها ثورة أعمق من ذلك بكثير، هي الثورة الفكرية، الثورة العقلية، الثورة في رؤية الناس إلى العالم؟ ففي أول اجتماع لمجلس الوزراء في مصر، جاء عاملان، وغيّرا صورة مبارك، التي على الحائط فوق رئيس الوزراء الجديد. ووضعا يافطة "الله جلَّ جلاله". تغيَّرت الصورة. لكن هل تغيَّرت البنية الثورية؟ هم استبدلوا الرئيس الإله بالإله الرئيس، أي أنه ما زال مفهوم الرئاسة مسيطرًا وغالبًا على الثقافة السياسية، في الوقت الذي نضع فيه العدل أساس الملك: ﴿وإذا حكمتم بين الناس، أن تحكموا بالعدل﴾، أي مجموعة من المبادئ غير المشخصة. هنا تحدث الثورة الفكرية، في الوقت الذي نتصوَّر فيه العلاقات بين الأطراف ليست علاقة رأسية بين الأعلى والأدنى، ولكن علاقة أفقية بين الأمام والخلف. نغيِّر المجتمع الأبوي، ويبدأ المجتمع الذي يناهض من أجل التقدُّم، وبالتالي الثورة الأولى، بمعنى الانقلاب أو بمعنى الاستيلاء على السلطة، أو بمعنى إسقاط رأس النظام. قد تتحوَّل هذه، على الأمد القصير، إلى ثورة مضادة، كما حدث في الخمسينات، عندما تحوَّلت الدولة الوطنيّة إلى دولة أمنيّة. والآن قد تتحوَّل أيضًا إلى ثورة مضادة عن طريق النظام السابق ورجال الأعمال ورجال السلطة، الذين لديهم طبقة تؤيدهم، نظرًا لتبادل المصالح. إنَّما في الوقت الذي تتغيَّر فيه الثورة إلى ثورة فكرية، إلى ثورة في الثقافة السياسية، هذا ما يتم على الأمد الطويل، وليس على الأمد القصير. يحتاج إلى عدة أجيال في تربة جيل جديد... حتى تتحوّل الثورة إلى منظور للعالم، لا لمن بيده السلطة.
• المصباحي: لم تتحدَّث عن مشروعك...
- حنفي: هذا الذي أُعِدّ له على الأمد الطويل. في الوقت الذي تتحوَّل فيه العقائد، التوحيد، العدل... إلى ثورة. نحفظ الناس من الوقوع في أيدي رجال الدين؛ وهذا ما فعلتُه في كتاب من العقيدة إلى الثورة. في الوقت الذي تتحوَّل فيه علاقتنا بثقافة الآخر، ليس على أساس النقل والترجمة وتحويل المعارف، كما هي الحال في علاقتنا بالغرب، نتحوَّل بعدها إلى مبدعين للثقافة. إلا أنه ليس من المعقول أن نظل، باستمرار، مستهلكين لثقافة، ومستهلكين لعلوم "الغير" هو الذي يبدعها ويضعها.
وفي كتاب من النص إلى الواقع، حاولتُ أن أعيدَ النظر في طرق الاستدلال القديمة. بدلًا من أن نبدأ من الواقع، نبدأ من النص ونستنبط الواقع من هذا النص. فالفروع موجودة في الأصول، ممّا يمنع الاجتهاد. ولكن أبدأ من الواقع، من المشكلة، من السؤال، وبعد ذلك أجد الجواب. وهذا هو طريقي إلى أسباب النزول.
وفي كتاب من الفناء إلى البقاء، حاولتُ أن أغيِّر القيم الشعبية، التي ما زالت تسيطر عليها القيم الصوفية: الصبر، التوكل، الورع، الخوف، والخشية، إلى آخر ما نعرف من المقامات والأحوال، إلى مقامات وأحوال أخرى، الثورة، والغضب، والاعتراض، والتمرُّد، والرفض، حتى تبدأ ثقافة الثورة، وليس ثقافة الاستسلام.
ثم في كتاب من النقل إلى العقل، بدل أن تظل الثقافة تقوم على "قال الله"، و"قال الرسول"، وما أسهل تحويل القول إلى "قال الزعيم"، و"قال الرئيس"، و"قال الأستاذ"، و"قال الأب"، و"قال الأخ الأكبر"، و"قال المعلم"، و"قال الشيخ"، إلى حجة تقوم على العقل: ماذا يقول العقل؟ ماذا يقول الواقع؟ حتى نقلِّل من حجة القول، وحجة النص. عندما تجد أيّ شاب، حتى في الجامعة، يبدأ رسالته بـ"قال فلان"، و"يقول فلان"، أي أنه لا يستطيع أن يرى الواقع، أو أن يُحكّم العقل، ويصل إلى فكرة، ويعبِّر عنها بنفسه.
وأيضًا في كتاب علم الاستغراب هل أُبقي علاقتي بالغرب؟ أم عليّ أنْ أنهي هذه العلاقة من التبعيّة؟ والتحوُّل مِن الذي يبدع العلم إلى الذي يستهلك العلم، ومن الغرب الذي يُصدر أحكامًا عليّ، ويرى صورته باستمرار من خلال العلوم الغربية، إلى أن أُنتِج علمًا جديدًا، وهو أن أنتفض باعتباري موضوعًا للمعرفة كي أصبح ذاتًا عارفة، وأحوّل الغرب إلى موضوع للمعرفة، وبالتالي أمارس عملية التعرُّف.
وربَّما أُنهي ذلك بعلم التفسير. التفاسير القديمة التي لدينا كلها تفاسير طوليّة تبدأ من "الفاتحة" إلى سورة "الناس"، وتتكرَّر الموضوعات، سورةً سورة، وآيةً آية. أريد أن أقيم تفسيرًا موضوعيًّا للقرآن، أجمع كل الآيات حول موضوع واحد، مركزه الإنسان، ثم المجتمع، ثم الطبيعة، حتى أستطيع أن أعطي تصوُّرًا مثاليًّا، أيديولوجيًّا للعالم باسم الإسلام.