حسن ناجي
شاعر وكاتب أردني
الشاعر يركب صهوة الكلمات باحثًا عن الدَّهشة في كل ما يعيشه بعد أن هجر المألوف وسكن فضاء المعاني وهو يعلم أن لا حدود لِما يبغي الوصول إليه، وسيبقى في سفر دائم كما قال المتنبي "على قلق كأنّ الريح تحتي"؛ هذه هي حال شاعرنا عاقل الخوالدة في ديوانه "أوَّل طقوس الرَّحيل" الذي تسكنه عذابات الذات الإنسانيّة التي تهيم وجدًا بتراب الوطن الكبير، وتخلق توأمة بينها وبين مَن عرفتهم من الأشخاص والأشياء، وتبعث الحياة في أطفال نسوا أن يكبروا، وتهزم الغياب بالحضور.
يبدأ الشاعر رحلته إلى الداخل مبكرًا، من افتتاح القصيدة الأولى التي حظيت بانتساب العنوان إليها حيث يقول:
"غدًا..
حين أرحل نحو الحياة
كريشة طير.. بكفِّ الرِّياح
كسنبلة نقّبتها الطيور
كنسمة صبح تمرُّ بصمت
تدغدغ عمري، وفي الحال تمضي
تحاول وصل الغروب الشروق".
هذا المفتتح يبيِّن لنا أدوات رحلته ومؤونتها، جناح طير يقاوم الرِّياح للسَّفر، وسنبلة معطاءة تقدّم ثمارها لعائلة الطير، ونسمة صبح تحاول مزاوجة الغروب مع الشروق، نعم هي رحلة نحو الحياة وليست رحلة خروج وهروب، وهو يؤكد ذلك حين يبوح لنا في نهاية ديوانه بعبارة تدلُّ على الوصول إلى ما سعى إليه من خلال قصائد الديوان حيث يقول:
شِعري كبئر في الفلاة وردنــــه غزلان ريـــــم والنّدى متجانسُ
عاندتُ بالصمت الحروف وإنَّما صمتي محبٌّ والحروف أوانس
كم كان الشاعر موفقًا في رحلته إلى داخل ذاته الإنسانية وقد حقق وصوله مستأنسًا بالحروف التي صاغها، والآن علينا أن نبحث عن العوالم التي حاول الوصول إليها في هذا الديوان.
ثلاثة عوالم حاول الرَّحيل إليها كما أوردتها؛ تراب الوطن، توأمة بين مَن عرفهم، وأطفال نسوا أن يكبروا. لنبدأ معه الرحلة من تراب الوطن، وهنا الوطن لا يختصره في بلعما مدينته الحبيبة، لكن وطن الشاعر المحب كل أرض عربية، فنراه يتحدَّث عن دمشق أو إربد أو عجلون أو بلعما وهو يحاول أن يجمع العالم العربي في مدينة واحدة، وهذا ما يُحسب له في كل قصيدة نسبها إلى مدينة.
كانت دمشق فاتحة المدن في ديوانه حتى قبل بلعما، ودمشق في عمقها التاريخي هي عاصمة بلاد الشام، ومن هنا كانت بدايته. سأقف على مفاتيح كل قصيدة عربيّة لأصل إلى أنَّ كل المفاتيح هي مفتاح واحد للدخول إلى المدينة، وهذه الصورة الكليّة التي أوصلنا الشاعر إليها تسكن وجدانه بالتأكيد، فعبَّر عنها كما تستحقّ، فالتراب واحد والسماء واحدة والنسيم العاطر واحد، والشاعر أكثر من واحد، فهو موزَّع على مناخات كل المدن، هذا الحب العروبي القومي نابع من حب بلعما ببعدها الوطني، فالشاعر أردنيٌّ في عروبته عربيٌّ في أردنيّته.
يطيب للشاعر أن يذكر معالم محدَّدة من كل مدينة هام بها، فدمشق هي قاسيون بشموخه وإطلالته على دمشق وكأنه حارسها:
يلــوح قاســيون لكل شــمـسٍ تخافت نورها عند الغيابِ
وبردى بمائه الذي فيه الارتواء للإنسان والأرض:
فـلا عطــش إذا بردى تلـــوّى وصار يذيبنا مثل الشراب
وهي بصمة في التاريخ، فقد وصل رسولنا محمد عليه السلام لأبوابها:
علــى أبوابــــــها لله وســــــمٌ يبـارك في مغانيها الطياب
وهو لا ينسى ذكريات جميلة عاشها في دمشق:
وفي الوجدان ذكرى تلو ذكرى قضيناها على تلك الروابي
ويختم قصيدته بما قدَّمته دمشق من الشهداء:
وفـي ســـاحـاتها روحٌ طوتـها دماء الخالـدين من الشــباب
إربد هي المحطة الثانية التي ما إن غاب عنها الشاعر حتى عاد مشتاقًا إليها:
ما كان للبُعد يا حوران معتادًا فلتحضنيـه كأم طفل إنْ عادا
وكما ذكر لدمشق بعض معالمها، فهو هنا يقف أمام جامعة اليرموك ودورها في الحركة التعليمية الجامعية:
حسبي من الشوق لليرموك بها للصَّحب وعدًا وللأحباب ميعادا
فهي التي ألهبــت للعلـم جذوتـه قبسًـا من الشــمـس منتشرًا وقّادا
ويستذكر بعض رجالات إربد السياسيين الذين كان لهم دور وطني في خدمة الوطن وبالذات وصفي التل، إضافة إلى حرّاس الوطن وهم الجيش العربي:
يا أمّ وصفـي أزال الله محنتنــــــا ندعـــــو لك الله نُسّــاكًا وعُبّادا
يزهو بك الجيش إذ قالت جحافله هذي بلادي، وهذا صوتها نادى
ومن إربد إلى عجلون، المدينة التي استراحت القلعة على إحدى قممها، فهي ذات الجبال الشامخة:
جبال ليـــس تعلــــوها جبالٌ وأرضٌ تملأ الدنيا صروحا
وهو حين يذكر الجبال يمرُّ بالقلعة الشهيرة، ذاكرًا تاريخها، راصدًا طلَّتها البهيّة على القدس:
بقلبي قلعـــــةٌ نظرت بحزنٍ لوجه القدس تُنسيها الجروحا
وفي عجلون إضافة إلى الجبال فهي تشتهر بغاباتها وخاصة غابات شجر البلوط، فيقول الشاعر شارحًا الحالة الوجدانية التي تعتريه إذْ يمرُّ بالغابة هناك:
أنا فـي غابـة البلــــوط طيرٌ أحبُّ الأرض تملؤني طموحـا
لقد تركتُ الحديث عن "بلعما"، بلدة الخوالدة، للجزء الأخير من جولتي هذه في قصيد الشاعر؛ وذلك حتى أهيم معه بهذه البلدة الجميلة التي يطيبُ له أن يذكر مزايا أهلها أوَّلًا بالترحاب بالضيف، ومزايا أرضها بما تنتجه من خضراوات وثمار وفواكه وتمر، ومن الطبيعي أن يعتبرها حلوة الدنيا حين يقول:
إذا هبّ النســــيم على بلادي يُحرك ساكنًا وسْط الفؤاد
فيغدو الكون دنيـــا من قلوب وتغدو حلوة الدنيــا بلادي
ومسقط الرأس وملعب الصبا عزيز على كل إنسان، وهو لا يتوقف عن الحديث عن ما عايشه في مسقط رأسه من ذكريات من الصعب أن تمحوها السنين:
عبرنا في شوارعها طيورًا على الأغصان يشدو كلّ شادي
تٌحيّينـا الدكـاكينُ ابتهـــــاجًا كأنّ لهـا فمًا بالشــــــــوق بادي
هذه هي أرض الأجداد الذين رحلوا، وأرض الأبناء الذين ما زالوا يبنون فيها معالم جديدة، والشاعر ابن بلعما من الطبيعي أن يذكر أجداده ممَّن حضنته تلك الأرض، ويتمنى أن تحضنه ذات رحيل فهي خير البلاد:
دفنتُ بها أميري نور عيني أبـي ومعلمـي تلك المبـادي
وإن يومًـا دُفنت بها فحظـي عظيمٌ في اقترابي وابتعادي
العالم الثاني الذي سعى الشاعر من أجل حضوره في الديوان بعد تراب الوطن هو توأمة الذات الإنسانية مع مَن وما حولها من الناس والأشياء؛ رجالات أحبَّهم وانتمى إليهم، وأشجار كبرت معه، ويبدأ بالراحلين الذين قدَّموا أرواحهم فداء للأرض والوطن وهو الشهيد الطيار أحمد الخوالدة صديقه وابن بلدته:
لشمسك نور تحدّى الغياب فعانق بروحك وجه السحاب
وحلّق فمثلك نال المعـــالي ليمـــلأ نبعُــــك هذي القـراب
وفي نهاية القصيدة يؤكد الشاعر أنَّ الشهداء باقون بذكراهم بعد أن خضّبوا بدمائهم التراب:
ستبقى كزيتون هذي البلاد وإن مات فهو مهيب الجناب
وما حمـرة التُرب إلا دماء فمنه الطهور ومنه الخضاب
ولا ينسى الشاعر أصدقاءه الذين عايشهم وسكنوا منه الوجدان، وإن كان من الصعب ذكرهم جميعًا فإنَّ الوفاء يظهر بذكر أحدهم وهو الطبيب هاني الشطناوي صديق فترة الدراسة وما بعدها بالتأكيد:
تمرُّ الذكريات عليّ كالأحلام يا هاني أقول لدفتر الذكرى تذكّر بعض إخواني
طبيب ينزع الآلام في لطـف وتحنان وكان الوعد أني ســوف أذكره بديـواني
إنَّ عالم توأمة الذات الإنسانية مع الناس والأشياء واسع ومنتشر في كل تفاصيل قصائد الديوان، فهو حين يتحدَّث عن بلدته يذكر ناسها وأشجارها، وفي قصيدته "حنين إلى عصا الراعي" نلمس هذا الحب الكبير لكل ما في بلدته من أشياء، ويتجلى عشقه في قصيدته في موسم تجفيف التمر، ولأنها صور كثيرة منتشرة في الديوان تركتُ فرصة معايشتها لقارئ الديوان.
العالم الثالث الذي هام به الشاعر وسعى إليه هو عالم إنساني بكل ما تعنيه الكلمة لأنه مرتبط بالأطفال أحياء وشهداء، أطفال نسوا أن يكبروا، وهو في ذلك يحاول الوصول إلى الصورة الصارخة علّه يوقظ بعض مَن ابتعدوا عن هذا العالم، ونرى الصورة واضحة في قصيدته "في موسم تجفيف التمر"، وفي قصيدته "إلى طفل شهيد في غزة".
يبدأ الشاعر بذكريات طفولته القاسية حين يتذكر موسم تجفيف التمر في بلدته بلعما، مصوّرًا لنا طفولة تسعى إلى البقاء على الرغم من كل آلامها:
"في موسم القطاف قديمًا
طفلًا كنتُ بلا دمية
أجمع حبّات التّمر المتروكة تحت النخل
وأرسم منها
أشرعة لم تسمع يومًا صوت البحر".
أيّ أمل عظيم عند هذا الطفل الذي على الرّغم من فقدانه كل ما يعرفه أطفال العالم من لهو ومتعة فهو يسعى إلى رسم أشرعة من حبّات تمر متروكة، إنه يسعى إلى السفر من خلال أشرعة وهميّة لكنها عنده حقيقيّة وسوف يركبها ذات يوم:
"في موسم تجفيف التَّمر
أجمع أقلامي ثانية
وأرتِّب أوراقي المنثورة
أكتب حرفًا تحت السطر
أجلس في زاوية البيت لأهذي
وأغنّي أغنية الصَّبر".
هذا هو الطفل الذي سرقوا أحلامه، وحرموه من ممارسة طفولته، إنه سيبقى يغنّي ويغنّي للصبر حتى ينال ما يريد، إنه توّاق لأن يعيش طفولته:
"في ذاك الموسم استرجع حزنك مهمومًا
أتساءل عن أصل الدَّمع ومعنى الدَّمع
أتساءل عن معنى الضحكة.. كيف تحطُّ على الثّغر
عن كومة همٍّ وبكاءٍ أرهقها تكرار الوقفة تحت السُّعف الممتد
من الميلاد إلى نهايات العمر".
هذا هو الطفل الذي سوف يبحث ويبحث حتى يصل إلى الضحكة ليرسمها فوق الشفاه، وتتعانق صورة هذا الطفل ابن بلعما مع الطفل الغزّي الشهيد في الفعل الإنساني وهو السّعي للوصول إلى طفولة حقيقيّة يعيشها ويستحقها الطفل العربي، الأوَّل ما زال يمارس فعله في إيقاظ الفجر وينتظر، والثاني سبقه إلى فجر الخلود، فيقف الشاعر ليقول مخاطبًا شهيد غزة الطفل:
"اسمح لنا قبل الرحيل بأن نقبّل وجنتيك
يا أيها الطهر المخضّب بالأريج
ففي الجنان تطير روحك
تنثر المسك المعتّق بالندى والياسمين".
ويؤكّد الشاعر أنَّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأنَّ النَّهار قادم:
"وتظلّ هامات الأباة
تظلّ في عزٍّ كما الرّايات
مهما مزَّقتها الريح تبقى في انتظار الفجر
تخفق للنَّهار".
الطفلان يسعيان إلى النهار، والنهار قادم، هذا ما أراد الشاعر أن يبعثه ثانيةً فينا.