د. زياد أبولبن
ناقد وأديب أردني
على الرّغم من مضيّ أكثر من أربعين عامًا على صدور الكتاب، إلا أنَّ حديث الكاتب والمفكر إبراهيم العجلوني عن الواقع الثقافي الأردني لم يتغيَّر في شيء، بل إنَّ الأمر ازداد تعقيدًا وغموضًا واستسهالًا في الكتابة والنشر، وهذا الحديث لا يقتصر على الواقع الثقافي في الأردن، بل ينسحب على الواقع العربي برمّته، وأيّ حديث عن الواقع الثقافي في الأردن لا بدّ أن يؤخذ في سياقه العربيّ، وقد بذل الكاتب جهدًا محمودًا في الوقوف على محطات في ثقافتنا العربية، مستشهدًا ومسترشدًا بتراثنا العربي الإسلامي بمحمولاته النيّرة، ضاربًا المثل تلو المثل للاستدلال على قضية من القضايا التي يطرحها في كتابه، ووسَّع الحالَ ثقافةٌ رصينةٌ تتصل بالتراث، وثقافةٌ مكتنزةٌ بالمعرفة المعاصرة، ووعيٌ عميقٌ بالمعارف الغربيّة.
الأديب والمفكر إبراهيم العجلوني صاحب فكر مستنير، وله تجارب ثريّة بالفكر والأدب والإبداع والفنون الأخرى، بل طالت قامته عمالقة التراث العربي والإسلامي والمحدثين، وهو يشكّل علامة فارقة بين مُجايليه، يأسركَ في لغته وفكره، فلا تكاد تنتهي من حديث يبسطه بين يديكَ إلا وتبحث عن حديث آخر يزيدكَ ولعًا يسقى ظمأ القلب منه نمير، وأحسب هذا حقيقة لا مجاملة أو مُرَاءاة في شخصِه وفكره وأدبه.
أقف على كتابه "نظرات في الواقع الثقافي الأردني"(*) وقوف المسغيث ممّا آل إليه الحال في ثقافتنا، وقد فصّله في أبواب أفضت إلى فصول من باب التخفيف على القارئ، وما هذا التخفيف إلا من قوام شخصه في اللين وحسن المعشر، وكتب مقدمة الكتاب الدكتور سحبان خليفات، وهي مقدمة كاشفة عن أبواب الكتاب وفصوله، تدفع بالقارئ دفعًا مشوقًا لقراءته.
في الباب الأوّل "في قضايا الفكر والحضارة"، الذي يستغرق أكثر من نصف عدد صفحات الكتاب، يطرح الكاتب في الفصل الأول منه مسألة تتعلق بـِ"ثقافة العصر بين الانبهار والانغلاق"، فيقف على مفهومي المعاصرة والحداثة، ويرى أنَّ هذين المفهومين متداخلان، وهو الأمر الذي تبعه ونتج عنه اضطرابٌ في المعالجات الأدبية والمناهج النقدية، واضطرابٌ في منطق تفكيرنا، فالمعاصرة هي أننا نعيش في هذا العصر، أمّا الحداثة فهي عنصر الحركة فيه، وإنَّ الإبداع هو روح عصرنا.
ويسلط الكاتب الضوء على حضارتنا العربية بمحمولاتها الفكرية والفلسفية، ويعتبر الفلسفة ركيزة أساسية من ركائز الثقافة المعاصرة، وأنَّ انبهار بعض مفكرينا بالحضارة الغربية وما تنتجه من علوم، وما تتمثّله من قيم، قد حسم انتماءهم للغرب، وأخرجهم من عروبتهم، وهناك بعض المفكرين قد أصابهم التشنج والانغلاق، وهذا ما يرفضه الكاتب، ويصبّ غضبه على هذين القطبين، بل ساد بين الكتّاب شعورٌ واستقرّ في أذهان الغالبية منهم "أنَّ كِتابًا ما لا يسشهد على صفحاته بأقوال مفكري الغرب ساقط بالبداهة"(ص25)، فهو -أي العجلوني- يوفّق بين ما نأخذه من الغرب وما يخدم ثقافتنا ويتوافق مع قيمنا، وكما يقول: "ليس كل جديد حسنًا بالضرورة، وليس كل غربي حسنًا أيضًا، وأن نعرف غاياتنا ونقيس مطالبنا بها، وأن ننبذ ما يراد لنا أن نأخذه، ونأخذ ما نريد نحن، وبإرادة حرة، ووعي واستنارة، هذا هو الطريق اللّاحِب والمنهج القويم"(ص25). وأستذكر هنا ما تطلبه جامعاتنا الأردنية في أقسام اللغة العربية على الخصوص من طلبة الدراسات العليا بتعزيز رسائلهم بالمراجع الأجنبية، وإذا لم يفعل الطالب فقد اعترى رسالته النقص، وهذه مثلبة وقع فيها الطالب، وأظنّ أنَّ عُقدة النقص تلاحق الأساتذة المشرفين!
يتحدَّث الكاتب في الفصل الثاني "تأمُّلات في إرادة الوعي"، عن تأرجح الوعي العربي بين الغيبوبة الفكرية التامة أو الجهل المطبق والتهويم الحدسي الحالم (ص27). فالغيبوبة أو الجهل قد أصاب كتّابنا، ولم ينجُ منهما إلا قلّة من المفكرين وعلى رأس الناجين العقّاد، فهؤلاء الكتّاب بُهروا بحضارة الغرب ذوقًا وفكرًا وخُلقًا فأصبح العرب عالة على العالم، ومردّ ذلك كما يرى الكاتب إلى "الفقر المخجل في المفاهيم، والهلهلة العجيبة في القيم والتصورات، اللذين يعاني منهما كثير من مثقفينا وكتّابنا"(ص28)، ويعزو صدق كلامه إلى صحافتنا الأدبية التي تضيق فيها دائرة الإبداع والأصالة، فيهربون إلى محاولات الشعر والقصة وإلى هزيل الخواطر، بعيدًا عن تحدّيات الفكر الجاد (ص28). ويقول: "إنَّ واقعنا الثقافي لم يمرّ بمرحلة أكثر حرجًا، ولا بزمان أعظم اضطرابًا"(ص28). مثلما يمرّ به الآن، فما بالنا بعد أكثر من أربعين عامًا ممّا طرحه الكاتب! فأظن أنَّ حالنا بات إلى أسوأ ممّا كان عليه، بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والفضائيات، وأصبحت ثقافتنا ثقافة استهلاكية أشبه ما تكون بالوجبات السريعة!
ويضرب الكاتب مثلًا بالقول: "إنَّ مثل مَن يكتفي بأن يكون امتدادًا "ميتًا" لحضارة الأجداد الزاهرة دون أن يخلق هو زمنه الراهن، أو مَن يكتفي بأن يكون امتدادًا "زائفًا" لحضارة الآخرين شرقًا وغربًا.. مثله كمثل الباحث عن الماء يطلبه حثيثًا، وقربه ملأى؟؟؟"(ص32).
يقف الكاتب في الفصل الثالث على قضية لغوية تتعلق بهؤلاء الدّاعين إلى إلغاء حركات الإعراب في لغتنا العربية، والداعين إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، والداعين بعجز العربية عن استيعاب العلوم المعاصرة. ويردّ عليهم بالمثال والحجة.
وأقول فيما قرأتُ عن "شيوع دعوى صعوبة تعلم اللغة العربية، وتعقّد نحوها"، وخلصت إلى القول القائل إنها "دعوى باطلة تمامًا فَنّدَها علماء الغرب الذين سُحروا بكمال هذه اللغة، ويُسر تعلُّمها وحُسن أدائها، نذكر منهم العالم "إرنست رينان" الذي لاحظ خصوصية العربية في نشأتها ويسرها وثباتها، فالبرغم من تعصّبِه إلا أنه رأى أنَّ العربية على غاية من الكمال، وهو أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وقد انتشرت هذه اللغة سلسلة غنية كاملة، فليس لها طفولة ولا شيخوخة؛ إذ ظهرت لأول مرة تامة مستحكمة"، ويقول العالم الفرنسي "مارسي": "من السهل جدًا تعلّم اللغة العربية، فقواعدها التي تظهر معقّدة لأول نظرة هي قياسية مضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يُصدّق، فذو الذهن المتوسط يستطيع تحصيلها بجهد معتدل". في حين يتنكَّر لها بعض أصحاب اللغة، ويغيّر جلده كالحرباء!
وقرأتُ فيما يتعلق في الكتابة بالحروف اللاتينية، فهي دعوة قديمة، تعود لعام 1943 عندما تقدَّم عبدالعزيز باشا فهمي في جلسة المجمع اللغوي المصري "باقتراح دعا فيه إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، ولم يكن لهذا الاقتراح مستقبل، بل كان مشفوعًا إلى هَجرِ الفُصحى، وإحلال العامية مكانها، وكانت كلماته التي صاغ بها مُقترحاته تنمُّ عن نقمة عاتية على الفصحى.. لغة القرآن، ولغة التراث العربي منذ أربعة عشر قرنًا، وبلغ به الغلوُّ في الحنق إلى درجة وصف الدعوة إلى تعلّم الفصحى بأنها (محنة حائقة بأهل العربية، وطغيانًا وبغيًا؛ لأنَّ في ذلك تكليفًا للناس بما فوق طاقاتهم)".
وما وقف عليه الكاتب في الردّ على المدّعين بعجز العربية عن استيعاب العلوم المعاصرة كفانا بمثال إصدارات "دار مير" للطباعة في موسكو من كتب علمية باللغة العربية الفصحى.
يطرق الكاتب في الفصل الرابع "تراثنا بين الموضوعية العلمية والمزاجية الفلسفية" بابًا ملحًا ينفتح على التراث، ويتصدَّر سؤاله: (ما هو هذا التراث؟)، هل هو التركة الثقيلة التي خلفها الأباء والأجداد، ضعفًا وتفككًا وجهلًا وظلمًا، وركودًا وانعزالًا وسلبية، أم هو ذلك الشموخ الفذ فكرًا وعلمًا، وإنسانية وعقيدة وحضارة، فيخلص العجلوني إلى أنَّ "تراثنا الحيّ هو هذه الفعالية الإنسانية الممتدة منذ مطلع الإسلام وحتى يوم الناس هذا، بكل ما يعتمل في هذا الزمن الشاسع من تيارات وألوان وعواصف وأنواء وبكل ما يلقيه التاريخ من ظلال وأضواء، وما يوحيه من أفكار وقضايا.."(ص39).
ويقارن الكاتب بين رأيين انشغل صاحباهما بالتراث وقضاياه، رأي أحمد أمين، ورأي زكي نجيب محمود، فأحمد أمين رجل لصيق بالتراث، مسيطر تمام السيطرة على موضوعاته، قادر على الحكم والتمييز بموضوعية، كما جاء في كتبه: "فجر الإسلام وضحاه وظهره"، وكتابه "يوم الإسلام"، أمّا زكي نجيب محمود فهو رجل يحمل قوالبه على ظهره ويتجوَّل في أرجاء التراث، أينما وجد شيئًا ملائمًا من قريب أو بعيد لتلك القوالب، حشره فيها، غير ملتفت إلا إلى مقايساته، التي وإن كانت منطقية من وجهة نظر معينة أو فلسفية معينة، إلا أنها تضيق برحابة تراث عظيم كتراثنا العربي، كما أنَّ هذا التراث بدوره يضيق بها ويمجّها أحيانًا (ص40). كما يرى العجلوني أنَّ الدكتور زكي نجيب محمود لم يتعرَّض من قريب أو بعيد على الإسلام وأثره في العقلية العربية، بينما أوسع أحمد أمين الموضوع بحثًا ولم يتركه إلا وقد أعطاه حقه (ص42).
إنّ الكاتب ينتصر للتراث العربي الإسلامي، ويرى أنَّ اتّباع المنهجية الصحيحة والصادقة هي "روح تستحوذ على فكر الإنسان المفكر، وتملأ عليه دنياه، غير أنَّ ذلك لا يكون في زمن قصير، فالأمر هنا أمر عادةٍ تحتاج لتتمكّن النفس، ولتطبع هذه النفس بطابعها، إلى مرّ الأيام، وإلى معايشة صادقة لموضوع البحث أيًّا ما كان"(ص42).
وفي الفصلين الخامس والسادس يطرح الكاتب قضية فلسفية تتعلق بحرية الإنسان وتحطيم الأصفاد التي تكبّل عقله وفكره، ويرفض العبودية بكافة أشكالها، فالعقل البشري هو أكثر الأشياء تمردًا أو مقاومة في الحياة، فالمفكر المؤمن صاحب العقيدة والذي يمتلك خاصيتين أو قيمتين فكرية وأخلاقية هو الذي يمتلك كيانه كقوى كبرى ضد التآكل والعفن، أمّا التناقض بين القيمتين -كما يرى الكاتب- عند "بعض المفكرين والأدباء يضعه في قائمة المصفقين لأي نظام مغلوط على وجه المعمورة، وهو سرّ تدنّي الكثيرين من ذوي الطموحات الفكرية وسقوطهم في تيارات النفاق"(ص46).
ويمجّد الكاتب العقاد بوصفه أعظم عقل عرفه العرب منذ القرن الرابع الهجري، وهو أصدق ممثل لشموخ الثقافة العربية الإسلامية وأكبر محام عنها في القرن العشرين، سواء في تكوينه الفكري المتماسك أو في منهجه الفريد في محاكمة الأفكار والأشخاص والمذاهب، واستدلَّ الكاتب على مؤلفاته: الحكم المطلق في القرن العشرين، أفيون الشعوب، لا شيوعية ولا استعمار، وفي غيرها. وحقيقة القول إنَّ العقاد شخصية تتمتع بمكانة مرموقة في الفكر والأدب العربي الحديث، في مقابل ما نجده عند بعض المفكرين والأدباء الذين بهرتهم الثقافة الغربية وهيمنت على أفكارهم، وفي غياب قدرتهم على المحاكمة العقلية، في مقابل العقاد وأضرابه الذين يمتلكونها، ومثاله طه حسين في كتابه "جنة الشوك"، "وتأتي أهمية الكتاب الصغير -جنة الشوك- من كونه صورة نفسية صادقة لشخصية مؤلفه، ويدافع الكاتب عن طه حسين الذي رُمي بالإلحاد والكفر، ويقول: "لعمري إنَّ إيمان طه حسين بالله لكبير".
فالكاتب من أنصار الذين يؤمنون بصدق شخصية الكاتب وانعكاسه على منهجه، والذين أخلصوا لعقيدتهم الإسلامية، وآمنوا بتراثهم العربي الإسلامي، وساروا على منهجٍ مورده الفكر والأدب العربي، وأسقط من حساباته الذين انبهروا بثقافة الغرب، وأخذوا يزيِّنون أحاديثهم وكتاباتهم بأقوال الغربيين، وعاشوا في عزلة عن تراثهم الزاخر بكنوز الفكر والأدب والمعارف العامة.
يختم الكاتب الباب الأول من كتابه بفصل ثامن، بعنوان "نحو أصالة مسرحية"، ومَن ينظر في عنوان الفصل هذا يظن أنه منقطع عن بقية فصول الباب، ولكن يتبدَّد ظنه عندما يجد الكاتب قد ربط مفهوم الأصالة بما قامت عليه من خصائص، وتصوُّرات العربي للكون والحياة والإنسان، وهنا نجد الكاتب يدعو إلى مسرح عربي حضاري، والذي هو إسلامي في إطاره العام، وفي غالبية أجزائه، ويقدم مشهدًا واحدًا لمسرحية قصيرة بعنوان "العاصفة"، ويلفت أنظار ذوي الاختصاص إلى افتقارنا لمثل هذا المسرح بما يحمله من قيم إنسانية.
يطرق الكاتب في الباب الثاني مسائل تتعلق بالنقد الأدبي، فأولى مكونات الناقد الأدبي المعاصر هو الذوق الشعري العربي، وقدرته على فهم التراث، وتمثّل قيمه الفنية بعمق وأصالة، والوقوف بصبر في مواجهة نصوصه وهضم معطياته فكرًا وفنًا وخلقًا (ص79)، واستنطاق النصوص هو حجر الزاوية في فهم التراث العربي (ص81) ويقول: "وإنه ليحزنني أن تذهب جهود كثير من مثقفينا سدى في تصيّد إفرازات الآخرين في حين أنه ليس بيننا وبين كنوز تراثنا العظيم سوى خطوة أو خطوتين"(ص81).
وقف الكاتب على قضية الغموض في الشعر، التي أصبحت قضية تتصل بسيل من الغثاء ممّا يُكتب تحت مسمى الشعر، ومركبًا سهلًا في امتطاء موجة الحداثة التي مصدرها الغرب، والتي شكّلت قطيعة مع التراث العربي، وقد أسهم بعض الباحثين ونقّاد الأدب في ترسيخ مفاهيم تستند إلى أقوال الغربيين دون الالتفات إلى مكنونات التراث العربي، فأدّى إلى قصور النقد وعجز النقاد، وانحراف في الذوق والتفكير، بل أصبحت لغة الشعر خروجًا على السياق الذي ينتظمها اجتماعيًا، وتحررًا من قواعدها، ففقد الشعر معناه ومبناه، وأحدث كلّ هذا فوضى في الفن، فلم يقتصر الأمر على على النقاد، بل طال أساتذة الجامعات، وشاعت بينهم مصطلحات لا تؤدي غرض فهم المعنى، مثل: اللاوعي واللاشعور وغيرهما، ويرى الكاتب تسمية العقل الباطن بدلًا من (اللاوعي)، والشعور الكامن بدلًا من (اللاشعور). ونحن نعلم أنَّ ولع وهُيام النقاد بالمصطلحات الغربية قد طغى على أدبنا، ووجد أنصارًا له، ويتردَّد في أحاديثنا دون مراجعة أو تحقق، ولعلّ تراثنا زاخر بسعته وامتداده بما يكفينا مؤونة القول والفهم.
يعزو الكاتب تردّي الواقع الثقافي الأردني إلى ما يتصل بمثقفينا من مستهلكاتهم الفكرية التي مصدرها الغرب وما ترميه المطابع من ترجمات، دون الالتفات إلى تراثهم الحضاري والتسلح بما يمكن أن يمدّهم به من مقوّمات، كذلك ما أسهمت به الصحافة الأدبية من فوضى، فقدّمت الناشئة من الكتّاب بما هو أكبر من أحجامهم وطاقاتهم، وما أصاب رابطة الكتّاب من لين الجانب في قبول المبتدئين، وأظنُّ ما رمى إليه العجلوني لا يختلف عن رأينا على الرغم من تقادم السنين بين القولين، وما تحفل به ثقافتنا من شلليّة وتحزبيّة ضيّقة الأفق، وغياب النقد والتقييم، وما أصاب الكُتّاب من (عقدة الاضطهاد)، التي صبغت نتاجنا المحلي، وبعضًا من نتاجنا العربي، وما نشأ من صراع بين الشيوخ والشباب، باعتبار أنَّ الشيوخ وقفوا حجر عثرة في سبيلهم، كل هذه معوّقات أمام واقعنا الثقافي.
وأمام هذا السياق ينبثق السؤال: هل هناك أزمة نقد أدبي في الأردن؟
يجيب الكاتب عن هذا السؤال ببسط القول بمعنى (نعم)، وترتبط أزمة النقد بأزمة الإبداع، ذلك أنَّ النقد في أساسه ذوق واكتساب، ويفترض العجلوني أنَّ تبلوُر شخصية الناقد ونضوج حاسته الفنية وعُمق ثقافته، هي مطلب بالدرجة الأولى لتجاوُز أزمة النقد، وليست النهضة الأدبية مرتبطة بنهضة نقدية مزامنة، ووجود نقاد منهجيين جادين ليس مرتبطًا بوجود إبداع متفوق.. إنها حتمية يرفضها تاريخ النقد وتاريخ الأدب معًا (ص120)، ويرى العجلوني أنَّ تاريخ الأدب قد تجاوز التقسيم المدرسي الساذج لعصور الأدب، فالأدب -كما يقول- فاعليّة إنسانية لا ترتبط بقيام الدول أو انهيارها، وغالبًا ما تكون عصور الانحطاط السياسي عصور ازدهار أدبي (ص120).
يخلص الكاتب إلى أنَّ أوَّل عناصر أزمة النقد هو الفقر الثقافي للنقّاد، وثانيًا إلى غياب الأكاديميين من أساتذة الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك عن الساحة الأدبية، واكتفائهم بمعالجة القضايا الجمالية والنظرات النقدية وتدريسها دون النزول بها إلى الواقع الأدبي المحلي، ممّا أتاح لصغار المثقفين أن يتبوأوا مكانًا ليس لهم.. "وقد انعكس ذلك وبالًا على الحركة الأدبية الأردنية، وأثمر اضطرابًا في المفاهيم النقدية وهبوطًا فاضحًا في مستوى النقاد"(ص121).
وأظنُّ على سعة انتشار جامعاتنا في الأردن، وعلى قلّة الدراسات التي حظي بها بعض كتّابنا ما زال النقد مضطربًا ومتهافتًا في أغلبه، تحكمه الشلليّة والعلاقات الشخصيّة.
وثالث تلك العناصر كما يعزوها الكاتب يرجع إلى تناسي بعضهم للنقد القائم على اكتشاف مناحي الجمال والصياغة الفنية للعمل المنقود، كم يكمن في الاقتصار على نقد المضمون دون الشكل (ص121).
هذا عرض سريع لأفكار الكاتب، ووقوف على بعضها، وما لا يُدرَك كله لا يُترك جلّه، وأترك للقارئ الاستزادة في منابع الكتاب، وهو كتاب يستحق منّا الاهتمام والقراءة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(*) الطبعة الأولى، دار البيرق، عمّان، 1979، وأعيد نشر الطبعة الأولى في الأعمال الأدبية- المجلد الأول، دار ورد، عمّان، 2012.