إبراهيم العامري
كاتب أردني
كان "هيرشمان" يصرِّح دومًا أنَّ الإدارة في بلاده لا تتردَّد في إيهام الناس والكذب عليهم كي تستمرّ حالة الخوف والذُّعر، وكي يُحكِموا قبضتهم على شعب مخدَّر ومستكين. كان مؤمنًا أنَّ المثقف هو السلاح الوحيد في عالم بلاستيكي أصبح سطحيًّا واستهلاكيًّا وغير معني بإعلاء قِيَم الخير والجمال؛ القِيَم الوحيدة القادرة على التغيير، فمَسَكَ الرّاية دومًا بسلاحه الفرديّ (الشِّعر) مشاركًا في الاحتجاجات والتظاهرات وداعمًا لحركات التحرُّر وللقضية الفلسطينية، ومنظمًا للمناظرات في المقاهي مدافعًا عن معتقداته السياسيّة والإنسانيّة.
في سنّ التاسعة عشرة أرسل "جاك هيرشمان" بعض نصوصه إلى "أرنست همنغواي" الذي تفاجأ معلقًا: "لا يمكنني مساعدتك أيها الفتى، أنت تكتب أفضل منّي عندما كنتُ في التاسعة عشرة من عمري، ولكن المشكلة أنك تكتب مثلي وهذا ليس بجريمة، لكنك لن تذهب بعيدًا بهذا". وعندما انتحر همنغواي في العام 1961، تمَّ نشر القصة في جميع أنحاء العالم بعنوان "رسالة إلى كاتب شاب".
وُلد "جاك هيرشمان" عام 1933 في مدينة نيويورك ونشأ في برونكس، ونال شهادة في الفن من كلية مدينة نيويورك ثم درجة الماجستير في الفن، وبعدها نال "هيرشمان" الدكتوراه من جامعة إنديانا. وكمعظم جماعة "شعراء الشارع" كان "هيرشمان" يراوح ما بين الشعر والسياسة والجماعة التي كان روّادها يكتبون الشعر ويوزعونه على المارّة في الطرقات، وكان له الإسهام الكبير في تشكيل رابطة الكتاب اليساريين في سان فرانسسكو؛ المدينة التي منحته لقب أمير شعرائها عام 2006.
كان "هيرشمان" يساريًا متأصلًا، وكان يسعى دومًا لتوحيد الكتاب والفنانين في أمميّة ثقافيّة سلاحها الجمال والفن. إنسانيّته ورفضه للحرب وإمبريالية الولايات المتحدة أنهت حياته الأكاديمية؛ فخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان "جاك هيرشمان" مدرسًا في كلية "دارتموث أنا"- جامعة كاليفورنيا، وقد طُرد من الكلية لأنّه كان يتعمَّد إعطاء طلبته علامات عالية تحول دون انضمامهم للجيش الأميركي في حربه في فيتنام، فعاد لتسكُّعه وللمقاهي الشعبيّة منظمًا للأمسيات في المقاهي ومناضلًا ضدّ الحرب والهيمنة، وقرَّر اتخاذ موقف حاد من كل مؤسسات النشر التي تتأثر برأي السلطة آنذاك، وكان يطبع كتبه على نفقته الخاصة بأعداد لا تتجاوز 200 نسخة.
حين ننظر إلى تجربة "هيرشمان" الإنسانية والشعرية نجد أنفسنا أمام حالة ثقافية طليعية وفريدة، فهو أحد أهم الأسماء في العصر الحديث التي حاربت ضدّ هيمنة الرأسمالية ونادت بالحريّة ونبذ الحروب والتوجُّه الإمبريالي للدول المهيمنة، وهو شخصيّة دفعت ثمن فكرها؛ فالشاعر "هيرشمان" كان يؤمن بتغيير السياسة الخارجية والداخلية للإدارة الأميركية السياسة التي تعتمد على المصلحة وفرض القوة وتغذية النزاعات، حيث يرى "هيرشمان" أنَّ الإدارة الأميركيّة على رأس النظام الرأسمالي الذي دفع العالم للسقوط، فسلسلة من الأحداث التي كان سببها هذا النظام الرأسمالي قد غيَّرت وجه العالم للأسوأ وإلى الأبد، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضمور النظام الاشتراكي الذي كان المكافئ الصلب للرأسمالية وجد العالم نفسه أمام أحداث مفصلية أخرى؛ مثل حادثة برجي التجارة، إلى صعود الحركات الإرهابية التي انتشرت، وغزو العراق الذي ابتدع بأكاذيب ظهرت للجميع وإيهام الناس بأسلحة الدمار الشامل ووجودها.
كان "هيرشمان" يصرِّح دومًا أنَّ الإدارة في بلاده لا تتردَّد في إيهام الناس والكذب عليهم كي تستمرّ حالة الخوف والذعر، وكي يحكموا قبضتهم على شعب مخدَّر ومستكين. كان مؤمنًا أنَّ المثقف هو السلاح الوحيد في عالم بلاستيكي أصبح سطحيًّا واستهلاكيًّا وغير معني بإعلاء قيم الخير والجمال، القيم الوحيدة القادرة على التغيير، فمسك الراية دومًا بسلاحه الفرديّ (الشِّعر) مشاركًا في الاحتجاجات والتظاهرات وداعمًا لحركات التحرُّر وللقضية الفلسطينية، ومنظمًا للمناظرات في المقاهي مدافعًا عن معتقداته السياسية والإنسانية.
يقول "هيرشمان" عن الشِّعر:
"هو سلاح حقيقي، إنه سلاح روحي لتغيير العالم، وطبيعي أن تكون قصائدي قصائد حب، أجمل الأشياء قاطبة في العالم هي أن تثقّف للحب".
توالت أعمال "هيرشمان" (1933- 2021) المنسِّق العام لـ"الحركة الشعريّة العالميّة" منذ بدايات ستينات القرن الماضي، ومن أوائل إصداراته كان ديوانه الشعريّ الأوَّل: "مراسلات الأميركيين" (1960)، "اثنان" (1963)، "تبادل" (1964)، "مشهد لندن مباشرة" (1967)، "شرارة" (1970)، و"الخط السفلي" (1988).
ومن أبرز مؤلفاته الشعرية:
"يود" (1966)، و"الألف السوداء" سنة 1969، وديوان (HNYC) الذي نُشِرَ سنة 1971، و"حريق لوس أنجلس" (1971)، و"الخطوط الأمامية" و"قصائد مختارة" (1976)، و"خطوط مواجهة" (2002)، و"كل ما تَبَقّى" (2008)، و"عاطفة، إثارة"، و"نبوءة" (2015).
ولعلَّ كتابه "عتبة لا نهاية لها"، يعتبر البوصلة الحقيقية لسبر أغوار عالم شاعر مدهش مثل "هيرشمان" حيث يحملنا الكتاب لفهم العديد من الجوانب الجمالية في حياة الشاعر ومرجعيّاته التاريخية وحتى النفسية صاعدًا بنا الى عوالم العامة والمهمشين والكادحين الذين يشكّلون جلّ هذا العالم، فكان الكتاب عبارة عن عالمين للشاعر أو تعريفين لـِ"هيرشمان": "هيرشمان" شاعرًا و"هيرشمان" إنسانًا، إنه انعكاس جلي لعالم الشعر والتوريات واللغة الشفيفة والمجاز من جهة، ومن جهة أخرى هو عالم الأزقة والمقاهي الشعبية وعمال المصانع والبروليتاريا حيث كان يشارك "هيرشمان" طعامه مع رفاقه ويسكن هو وزوجته في غرفة وحيدة فوق مقهى.
كان ذلك هو العالم البوهيمي الذي انطلق منه الشاعر لإيقاظ الضمير الأميركي مستلًا شعره شاهرًا إيّاه في وجه السلطة والنظام المهيمن، إنه العالم الذي يدافع عنه "هيرشمان" ويعيش تفاصيله والذي أثبت فيه أنَّ الشِّعر سلاح حقيقي وقادر على التغيير.