مهند النابلسي
باحث وكاتب وناقد سينمائي أردني
ثلاثة أفلام حديثة لافتة وأحاديّة البطولة: Nomadland "أرض الرّحالة" و The Father "الأب" و Sound of Metal "صوت الميتال" (2020-2021) استطاعت أنْ تحصدَ الجوائز، ونجحت بتوصيل رسالة مفادها أنَّ الإنسانَ العصريّ يواجه قدره لوحده أخيرًا في نهاية المطاف دونما دعم حقيقي ومؤازرة من أحد؛ فلكلٍّ حياته ومصيره! وهي تتحدَّث بعمق "غير مسبوق" عن حالات التشرُّد والخرف والزهايمر والصَّمم (فقدان السَّمع الكُلّي)، وتستعرض براعة أبطالها الحصريين في التقمُّص والتَّماهي المذهل مع هذه الحالات بأسلوب استحواذي هادئ ومتصاعد ومُقنِع وإنساني يصعب نسيانه وتجاهله، كما تُعدُّ مدرسة في التمثيل المتكامل فتملك الكاميرا والشاشة، وتعزِّز متعة المُشاهَدَة.
• فيلم "أرض الرحّالة" Nomadland
لا شيء من هذا يشير إلى أنَّ أميركا كما تصوِّرها المخرجة الصينية "كلوي تشاو" تفتقر إلى الضوء والظل. على العكس من ذلك، هناك شعور قوي بالشيخوخة والناس العاديين الذين يحققون أفضل ما في صفقة سيئة ضمن ظروف مقفرة لا ترحم في كثير من الأحيان. ومع ذلك، مهما كانت الصعوبات التي يواجهونها، فإنَّ جوّ المجتمع المتكافل وتقرير المصير هو الذي يُسمع في جميع أنحاء فيلم المُخرجة "كلوي تشاو" Chloé Zhao المتعاطف. نستمع في الشريط إلى ألبوم الموسيقى التصويرية الخاص بأرض الرحّالة Nomadland، حيث تجلس مقطوعات Ludovico Einaudi وNat King Cole جنبًا إلى جنب مع أصوات نيران المخيَّم الخشنة لفرقة الممثلين وهي تغني بفرح: "لا يمكننا الانتظار للوصول إلى شاحناتنا مرَّة أخرى!" وممّا لا يثير الدهشة، أنَّ هذا الغناء الجماعي الأخير هو الذي يضرب على الوتر الأكثر رنينًا في هذا الفيلم المؤثِّر.
عندما قبلت المخرجة الصينيّة "كلوي تشاو" بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج، قالت: "لقد وجدتُ دائمًا الخير في الأشخاص الذين قابلتهم، في كل مكان ذهبتُ إليه في العالم". ولكن لا يبدو حقًا أنها زارت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المنكوبين ولا باقي النازحين المنتشرين في أصقاع المعمورة! لكنَّ هذه المخرجة الفذة تنقّب هنا عن "اللّحامات والتّرابطات" الغنيّة من اللُّطف الإنساني التي تمرُّ عبر هوامش المجتمع المنسيّ. كما أنَّ موضوع الفيلم يتناغم مع كتاب "جيسيكا برودر" والذي تسرد فيه المؤلفة قصصًا حقيقيّة عن "البدو الرُحَّل الجُدُد" الذين خرجوا إلى الطريق بعد أن "طمس الرّكود العظيم" مدَّخراتهم، والذين، "بالنسبة لأيّ شخص، حيث البقاء على قيد الحياة لا يكفي... فنحن بحاجة دومًا إلى الأمل. وهناك أمل على الطريق".
كانت الممثلة "فرانسيس مكدورماند" مقنِعة بدور "فيرن"؛ وهو دور خارجي آخر لا يُقهر تغمر فيه نفسها تمامًا وتتقمَّصه، ممّا يجعلها ثالث أفضل ممثلة حازت على الأوسكار. فقد قرَّرت "فيرن"، التي كانت أرملة وتعاني من ضائقة ماليّة شديدة، مغادرة بلدتها الأم "إمباير" في "نيفادا" بعد إغلاق المصانع وطرد العاملين فيها، وتضرب بمفردها، وتحزم "فيرن" متاع حياتها في سيارة وتتَّجه نحو مستقبل غير مؤكد وغامض. ولكن بدلًا من أن تصبح مضيافَةً على درب ضيِّق في الأصقاع وهائمة على وجهها، فإنَّ روح "فيرن" الرائدة لديها آفاق شاسعة لأميركا الممتدة، حيث يلتقط المصوِّر السينمائي "جوشوا جيمس ريتشاردز" الجمال القاسي لولايات الغرب الأوسط التي طالما رسخت في تقاليد السينما الأميركية الجمالية. فهناك شعور قوي بالشيخوخة وبالناس العاديين الذين يحققون أفضل ما في الصفقة السيئة في البداية من دون تعقيدات.
الحياة على الطريق تبدو محفوفة بالمخاطر وقاتمة، مع الطقس العاصف والتضاريس القاسية والحقائق الاقتصادية الباردة التي تتسبَّب في القشعريرة. ومع ذلك، فإنَّ "فيرن" تكتشف تدريجيًا دفء مجتمع السَّفر والترحال والتشرُّد في أميركا، بمساعدة شخصيات ملهمة مثل "بوب ويلز" صاحب الشخصية المحورية الجذابة، الذي ينجح في نقل مهارات الحياة الجديدة "البريّة" الخاصة به في لقاء مجتمع الصحراء من قبل أولئك الذين ليسوا "بلا مأوى" ولكنهم ببساطة "يرفضون أن يكونوا بلا انتماء أيضًا" وصولًا لحالات شخصيّة معبِّرة من الميلودراما الحزينة المبالغ بها أحيانًا!
لقد قدَّمت الممثلة "فرانسيس مكدورماند" أفضل تحوُّل في مسيرتها المهنيّة في هذه الدراما التأمليّة اللطيفة للمخرجة السينمائية "كلوي تشاو"، فنالت جائزة غنيّة في حفل توزيع جوائز الأوسكار. وقد وثَّق الفيلم أسلوب حياة الرحّالة استنادًا إلى كتاب "جيسيكا برودر" غير الخيالي لعام 2017 Nomadland: Surviving America in the Twenty-First Century كما أشرنا سابقًا، وهو الكتاب الذي اقتُبس منه سيناريو الفيلم.
الفيلم بمجمله يركّز على مجتمع من سكان الشاحنات المشردين، ويتعامل مع الموضوعات المحيطة بفشل الحلم الأميركي والفقر والحرمان من الحقوق في واحدة من أغنى دول العالم. فبعد وفاة زوج "فيرن"، وهي امرأة في الستينيات من عمرها، فإنها ترى منزلها وقد أعيدت ملكيته بعد أن أصبحت واحدة من ملايين ضحايا ركود عام 2008. ومع عدم وجود فرص عمل أو مكان للاتصال بالمنزل، تشرع "فيرن" في رحلة تغيِّر حياتها عبر الغرب الأميركي وتصبح "عاملًا موسميًا"/ كادحة وتقيم في شاحنة. ثم سرعان ما أدركت أنَّ الحياة على الطريق قد منحتها فرصة جديدة للحياة.
يحكي الفيلم قصة مقنعة عن التمكين والتعايش والتأقلم مع الظروف أثناء طرح بعض الموضوعات الاجتماعية في الوقت المناسب. وبصرف النظر عن (ماكدورماند) التي تقوم بدور "فيرن" كشخصية محورية نرجسية، فإنَّ المخرجة "كلوي تشاو" تستخدم في الغالب ممثلين غير محترفين للعب نسخ خيالية من أنفسهم. تمامًا مثل فيلمها The Rider لعام 2017؛ وهو فيلم عن راعي بقر شاب يبحث عن هوية جديدة بعد حادث شبه مميت، فتستفيد "تشاو" في "أرض الرحّالة" من تجارب الحياة الحقيقيّة لممثليها "غير المحترفين" لتقديم قطعة رائعة تلقائيّة حقًا من صناعة الأفلام بطريقة مغايرة، فهذا الفيلم الذي يعدُّ تحفة سينمائية هو شريحة جميلة من Americana والتي غالبًا ما تشبه الدراما الوثائقية أكثر من كونها فيلمًا روائيًا مملًا، وهنا تكمن جاذبيتها.
وبفضل الأداء الطبيعي الجدير بالثناء للبارعة (ماكدورماند)، يقدم فيلم Nomadland شيئًا جديدًا وتستحق هذه الممثلة بجدارة جوائز الأوسكار الخاصة بها، لكنَّ المخرجة "الموسوسة" -كعادة معظم مخرجي أميركا- ربما تبالغ بإظهار حالات مقزِّزة/ واقعية من التبرُّز والخصوصية ربما لا تزيد قيمةً لمضمون السَّرد، كما تقدِّم البطلة الكهلة عارية أحيانًا مستلقية تحت المياه في العراء بغرض الاستحمام والانتعاش... وتكرِّر منحنا صور سيلفي مملّة لوجه البطلة وهي تدخن بشراهة وتتأمل في الأفق بصمت معبِّر ربَّما عن "الوحدة والتشرُّد والمعاناة"!
• فيلم "الأب" The Father
في دور "الأب" يبدو لنا الممثل "أنتوني هوبكنز" (الحائز على جائزة الأوسكار والبالغ من العمر 80 عامًا) شخصًا نكدًا وصعب المراس، يعيش بمفرده بتحدٍّ ويرفض باستمرار مقدمي الرِّعاية الذين تقدِّمهم ابنته "آن" (الممثلة أوليفيا كولمان الحائزة على جائزة الأوسكار والجولدن غلوب) بشكل مشجِّع. ومع ذلك، أصبحت المساعدة أيضًا ضرورة بالنسبة لـِ"آن" التي لم يعُد بإمكانها القيام بزيارات يوميّة للأب بعد الآن، وبدأت قبضة "أنتوني" على الواقع تتفكك تدريجيًّا. بينما نختبر مدّ وجزر ذاكرته المتهاوية وثقته الوهميّة بنفسه، نتساءل: إلى أيّ مدى يمكن أن يتشبّث هذا "الأب" (الممثل أنتوني) بهويته وماضيه وذكرياته؟ كيف تتأقلم "آن" وهي تحزن على فقدان والدها تدريجيًّا وهو لا يزال يعيش ويتنفس أمامها؟ يحتضن الأب الحياة الحقيقية بحرارة، من خلال التفكير المُحبّ في الحالة الإنسانية النابضة بالحياة؛ يكسر القلب بتفاعلاته ويؤثِّر فينا بلا هوادة- إنه فيلم يقع في حقيقة حياتنا المأساوية الحتمية.
ولكن، في حين أنَّ بعض لحظات فقدان الذاكرة تسبِّب هزَّة في القصة وتمنح "هوبكنز" مساحة للتعبير التلقائي عن إحباط شخصيّته بشكل كبير استعراضي وارتجالي ربّما، فإنَّ ما يحدث من خلال تصميم الإنتاج والتحرير دقيق للغاية، سيجعلكَ ترغب في التأمُّل لبضع ثوانٍ فقط من أجل تقدير التغييرات الطفيفة؛ سواء أكان بلاطًا مختلفًا على "باكسبلاش" المطبخ الأصلي، أو غرفة نوم مُعاد ترتيبها، أو كيس بقالة أبيض بدلًا من كيس أزرق يحمل الدجاج لتحميصه في تلك الليلة، فإنَّ مصمم الإنتاج البارع "بيتر فرانسيس" يخلق بشكل واضح إصدارات مختلفة من المكان المغلق نفسه (وهذا ما نفتقده للأسف في السينما العربية خصوصًا والتي غالبًا ما تتجاهل التفاصيل مستغفلةً المُشاهدين).
أمّا ما يفعله المحرِّر "يورجوس لامبرينوس" (كاتب ومنسق المونتاج) فهو أمر معقد للغاية، ولكنه أقل من قيمته المقدَّرة عند معظم المشاهدين، فهو بمثابة خدعة سحريّة أمام أعيننا مباشرة. وكان "لامبرينوس"، الفائز في جمعية نقاد السينما في لوس أنجلوس لأفضل مونتاج، قد انغمس هنا في مهمة شاقة تتمثل في صياغة قصة مربكة ومتداخلة ومقنعة ومزمنة في الوقت نفسه، وقد ارتقى بأناقة مشهديّة لافتة لمواجهة هذا التحدي الكبير، ومما يعزِّز هذه النتيجة موسيقى Ludovico Einaudi الذي ظهرت موسيقاه الرائعة أيضًا في "Nomadland" لـ"كلوي تشاو"، وقدَّم العروض بالطريقة التي تجذب قلوبنا دون أن تكون صاخبة.
وعودة للحديث عن لحظات فقدان الذاكرة والتي تسبِّب هزة في القصة –كما أشرنا- وتمنح "هوبكنز" مساحة للتعبير "الارتجالي المسرحي ربّما" عن إحباط شخصيته بشكل كبير... فإنَّ مأخذي على الفيلم يتمثل في ضعف، بل انعدام، مَشاهد التأمُّل ومراجعة الذات التي تعبِّر عن مأساة العجوز وسقوطه المرعب في حفرة "فقدان وارتباك الذاكرة" وصولًا ربّما لحالة جنونيّة "هيستيريّة" مميزة كان سيبدع فيها الفذّ "أنتوني هوبكنز" بمشاهد ربّما لا تُنسى في تاريخ السينما!
تحدث بعض نسخ هذا النوع من المحادثة مرارًا وتكرارًا؛ حيث وضع ساعته المحبوبة، على سبيل المثال، ثم أضاعها ونسي مكانها، أو المعاملة القاسية التي ألحقها بمقدِّمة الرِّعاية المنزلية السابقة. وبمجرَّد أن نعتقد أنَّنا ندخل في إيقاع "الأب" الهيستيري، فإنه يغيِّر الإيقاع واللاعبين. ربّما حقًا هذه ليست شقة "أنتوني"، ربما كانت "آن" قد أخذته للبقاء معها، ربما لديها زوج بعد كل شيء، اسمه "بول" (الممثل روفوس سيويل)، لا تزال تعيش معه.
يوفر وصول "لورا" (الممثلة إيموجين بوتس) أخيرًا كمرشحة محتملة لرعاية "أنتوني" بعض التنوُّع، حيث يمنحه الفرصة لمغازلة امرأة شابة جميلة جديدة. إنه رقيق وساحر وهو يعلن بشكل هزلي، "حان وقت فاتح للشهية!" وهو يتناول قدح الويسكي بطريقة مدمن مستمتع... لكنها تذكِّره أيضًا بابنته الأخرى المفقودة، التي كانت فنانة، ومهما حدث لتلك اللوحة التي كانت معلقة على الجدار فهي مثال معبِّر عن مدى الصَّدمة المتوقَّعة...
لكننا نرى العالم بشكل أساسي من خلال عيني "أنتوني"، ومنذ البداية، يبدو هذا مكانًا هادئًا للغاية. عندما تجسَّسنا عليه في البداية، كان يستمع إلى الأوبرا في فترة ما بعد الظهيرة اللطيفة في شقته الفسيحة والمجهَّزة بذوق رفيع في لندن. ولكن سرعان ما تتوقف "آن" لزيارته وتبلغه أنها قابلت شخصًا ما وستنتقل إلى باريس لتكون معه. تغيَّر سلوكه على الفور، وشعر بالجرح، وانتقد: "أنتِ؟" يسأل بشكل مَن لا يصدِّق. "تقصدين... رجلًا؟"، وفي وقت لاحق، عندما أصابته الحقيقة طويلة المدى لهذه الأخبار، كشف عن طبقة أعمق من الأذى: "إذا فهمتُ بشكل صحيح، فأنتِ تتركينني، أليس كذلك؟ أنتِ تتخلّين عنّي". يسقط وجهه قليلًا لكنه لا يزال يحاول ممارسة قدر من السيطرة والتبجُّح وربَّما التقبُّل.
ثم يكافح من أجل الإبحار في هذا المزيج الموحل من الماضي والحاضر، هو "أنتوني هوبكنز" الرائع الذي يقدِّم أداءً جذابًا وشرسًا وكاريزميًّا، وأحيانًا كل ذلك معًا في الوقت نفسه. وهناك خصوصية تثير الذهن في أسلوبه هنا حيث تمَّت دعوته لنقل مجموعة واسعة من المشاعر والعواطف، ولكن أيضًا نلمَس نعومةً وانفتاحًا نادرًا ما نلاحظه منه. إنَّها بعض من أفضل الأعمال المطلقة في مسيرة "هوبكنز" الطويلة والمكتظة. أمّا الممثلة "أوليفيا كولمان" التي أبدعت في دور الابنة "آن"، فكان عليها أن تركب هذه المشقّة أيضًا وتكافح من أجل ارتداء شخصية بريطانية صلبة في موقف حزين ينهار بشكل مطّرد، وسوف تتعامل مع الابتسامة كما لو كانت الدموع في عينيها أو تتجعد متجمدة بشكل طفيف مع الحفاظ على صبرها عندما يقول والدها شيئًا فظًا ومهينًا ومحرجًا للغاية؛ كمثل ادِّعائه أنه كان "راقص نقري" بينما هو مهندس كما تذكر ابنته مستهجنة هذا الادِّعاء. وفي الخلاصة كانت ردَّة فعلها مذهلة ومتماسكة لا تُنسى!
قصة الساعة: أرى أنَّ موضوع تكرار قصة الساعة يعتبر سخافة وضعف مخيّلة ولا معنى له/ كما أنَّ الساعة المشار إليها... تبدو عادية تمامًا وليست فخمة من ماركة معروفة أو مثل رسمة مفقودة يتساءل عنها "الأب" باستمرار، كما يتحدث عن عشاء دجاج. ثم حكايات مقتطفة متفرقة من محادثة أو كهذه القطع وغيرها من مظاهر أخرى للحياة اليومية التي تكتسب أهمية أكبر ومعنى مفجعًا وتبدو مجرَّد استعراض لمسار "الأب" الحياتي اليومي الروتيني. إنهم -أي هؤلاء الأشخاص- في الوقت نفسه عاديون وغير موثوق بهم، ملموسون ومراوغون في ذهن شخصية "أنتوني هوبكنز" المتغيِّرة باستمرار، وهو المواطن العجوز من لندن الذي يبلغ من العمر 80 عامًا ويستسلم للمرض اللعين.
فيلم "الأب" للمخرج "فلوريان زيلر" (2020)، عرض ضمن مهرجان عمّان السينمائي في آب 2021، وقد أبدع حقًا المخرج "زيلر" في تكييف العمل سينمائيًّا ضمن مسرحيته الفرنسية الحائزة على جائزة عام 2012 والتي تحمل الاسم الأسطوري نفسه "كريستوفر هامبتون" صاحب "العلاقات" (فيلم "الأب" في الأصل مسرحية حوَّلها المخرج الفرنسي "زيلر" إلى نص سينمائي بمشاركة "كريستوفر هامبتون")، وقد حقق إنجازًا رائعًا هنا. إنه يضعنا في ذهن "أنتوني" المريض، ممّا يسمح لنا بتجربة ارتباكه كما لو كان ارتباكنا نحن. لكنه يعرض أيضًا وجهة نظر القائمين على رعايته وأحبّائهم هؤلاء الذين يحاولون تسوية وتهدئة أعصابه المتقلّبة وتنظيم ذكرياته المختلطة. ثم إننا لا نعرف أبدًا ما هو صحيح (وهذه نقطة الضعف الكبيرة المربكة في الشريط)، أو مَن هذا أو ذاك؟ في هذا الصَّدد فهناك بعض الالتباس والتداخل، وخاصة عندما تأتي الشخصيات وتذهب وتتخذ أسماء وهويّات مختلفة، اعتمادًا على إدراك الأب لها كما يبدو في السِّياق. فكل شيء سريع الزوال ومع ذلك تبدو كل لحظة محدَّدة عاجلة وحقيقيّة ومربكة، وأحيانًا غير مفهومة ضمن السِّياق!
• فيلم "صوت الميتال" Sound of Metal
خلال سلسلة من الحفلات الليلية التي يغذيها الأدرينالين، يبدأ عازف الدرامز المتجوِّل "روبن" (الممثل ريز أحمد) بفقدان السمع المتقطع. عندما يخبره أحد المتخصصين أنَّ حالته ستزداد سوءًا بسرعة، يعتقد أنَّ مسيرته الموسيقية -ومعها حياته- قد انتهت. يقوم هو وزميلته في الفرقة وصديقته/عشيقته "لو" (الممثلة أوليفيا كوك) بزيارة مدمن الهيروين المتعافي في منزل رصين منعزل للصمّ على أمل أن يمنع الانتكاس لدى "روبن" ويساعده على تعلُّم التكيُّف مع وضعه الجديد. ولكن بعد أن يتم الترحيب به في مجتمع يقبله تمامًا كما هو، يتعيَّن على "روبن" الاختيار بين توازنه والدافع لاستعادة الحياة التي كان يعرفها من قبل. باستخدام تقنيات تصميم الصوت المذهلة والمبتكرة، يأخذ المخرج "داريوس ماردر" الجمهور داخل تجربة "روبن" لإعادة إنشاء رحلته بشكل واضح إلى عالم نادرًا ما يتمّ فحصه!
هناك إشارة بارعة في العنوان Sound of Metal إلى النَّغمات المشوَّهة التي أصابت "روبن" عندما لجأ (ضدّ نصيحة "جو") إلى غرسات القوقعة الصناعية الباهظة التكلفة. بعد أن أثار ببراعة تجربة "روبن" في الاهتزازات الجسدية وليس السمعية (يمكنه أن يشعر بالطبول، حتى لو لم يستطع سماعها)، فيستحضر الملحِّن/ مصمِّم الصوت البارع "نيكولاس بيكر" وفريقه تنافرًا إلكترونيًا قاسيًا يبدو أنه يردِّد صدى الصِّراع الداخلي لـِ"روبن". ومثلما يُعتبر الإدمان موضوعًا رئيسًا، فإنَّ رغبة "روبن" اليائسة في الجراحة تصبح استعارة لأزمة إيمان وثقة أوسع؛ صراع هوية يتجسَّد في تصميم واستعادة الصوت متعدِّد الطبقات.
قال الممثل أحمد: "علّمني مجتمع الصم معنى الاستماع"، واصفًا "جسدية التوقيع" لاستخدام الجسم كله كأداة تعبيرية. فهناك شيء رائع حول مشاهدة فنان من عيار "ريز أحمد" يرتقي إلى المستوى الإبداعي التالي، كما لو أنَّ حرفته قد تمَّ تضخيمها من خلال تعلُّم هذه اللغة الجديدة. بينما قد يختبئ "روبن" وراء كلماته، لم يكن أحمد أبدًا أكثر تعبيرًا من الناحية العاطفية ممّا كان عليه عند التواصل عبر منهجية ألـ:ASL (لغة الإشارة الأميركية).
وبصدق مذهل، يستحضر المخرج "داريوس ماردر" عالمًا تكون فيه كل التفاصيل حقيقية. من أجواء جدار الضوضاء في عروض "روبن" لموسيقى الروك (تمَّ تصويرها مباشرة، أمام حشود حقيقية) إلى المناقشات الجماعية الساخنة التي أجريت بلغة الإشارة الأميركية (ASL)، تجد تحفة Sound of Metal جاذبية عالمية في تفاصيل التفاصيل المذهلة، المتجذرة في سلوك أحمد كأداء ملتزم بشكل مثير وجاذب.
فبعد تجاهل النصائح الطبية لتفادي الأصوات الصاخبة، يسترشد "روبن" المدمن المتعافي من قبل راعيه "هيكتور"، إلى منتجع يديره "جو" الممثل المسرحي المخضرم الذي هو نفسه طفل لأبوين أصمين (يلعب الممثل "بول راسي" دور "جو" ببراعة). هنا، يتم عرض إمكانيّة حياة جديدة. ولكن هل يأس "روبن" من استعادة سمعه يمكن أن يحبط النمو والأمل في المستقبل؟
باختصار يمكن وصف الفيلم بانه: "ميلودراما موسيقية رعب صوفية هجينة" وقصة حب "منفعي" فاشلة/ بلا ديمومة ومؤقتة/ وبأنَّ الإنسان يواجه في آخر المطاف مصيره لوحده دون دعم حقيقي من أحد.
أبدع الممثل "ريز أحمد" (البريطاني- الباكستاني) هنا في عكس متطلّبات الدَّور المحوري الصَّعب تدريجيًّا بشكل تناغمي مُتصاعد ومُقنِع وجاذب دون أن يقع في التصنُّع والهيستيريا والرُّعب... وبقي هادئًا يتقبَّل مصيره "الفرديّ" بذكاء وبصيرة لافتة، وجذبنا كمشاهدين لأقصى الحدود.
لقد نجحت هذه الأفلام الثلاثة "الأحادية البطولة" بتوصيل رسالة مفادها أنَّ الإنسان العصري يواجه قدره لوحده أخيرًا في نهاية المطاف، دونما دعم حقيقي ومؤازرة من أحد، فلكل حياته ومصيره!