جميل المحمد
كاتب سوري
رفضت الدكتورة نوال السعداوي التاريخ المكتوب بلغة ذكوريّة، وشكَّكت في القصص الواردة فيه، وهي تراه مزوَّرًا ومزيَّفًا وغير دقيق، فالحكاية الآن لم تعُد حكاية الرجل، فشهرزاد استعادت صوتها وهي لم تعُد تقبل بأن يحكي أحد نيابةً عنها. لقد أعملت السعداوي مبضع الجرّاح في جسد الثقافة البائدة؛ وحوَّلت قلمها إلى مشرط، وهدفت من خلال ذلك لمعالجة تقرُّحات الثقافة المزمنة والبنى الأسطورية والانحرافات دون مهادنة؛ فهذه الثقافة الجائرة المستقرّة يجب خلخلتها، وهي كامرأة تدخل حقل ألغام، وهي معرَّضة –أيضًا- لسوء التأويل.
في عام 1793 سافرت الإنجليزية "ماري ولستون كرافت" وكان عمرها 34 سنة، إلى باريس لترى الثورة الفرنسية. وهناك وقعت في غرام القائد العسكري "جلبرت إملاي"؛ لكن آمالها لم تدم معه. فقد تركها وفي أحشائها جنين؛ وكان ذلك عندما فقد ضحايا لا يحصون رؤوسهم تحت المقصلة. فكتبت مئات الرسائل تقول في إحداها: "نفسي أصابها المرض وقلبي أصابه الكلل"؛ حيث جاء إليها لفترة قصيرة عند ولادة رضيعتها ثم عاد إلى أميركا برفقة ممثلة، فحاولت الانتحار بأن ألقت نفسها من فوق كوبري بوتني ptney Bridg.
وعلى الرغم من فشلها في الانتحار فقد شفيت من عشقها، واعتُبر كتابها "دفاعًا عن حقوق المرأة" (1791-1792)، البذرة الأولى للحركة النسويّة.
طالبت "كرافت" في هذا الكتاب بحق المرأة في التعليم، وأصرّت على أنَّ المرأة إنسان يستحقّ الحقوق نفسها الأساسيّة للرجل؛ وفي فرنسا ألقت "تيرواني دي مسبريكورتي" خطاباتها في الهواء الطلق، مطالبة النساء بالتخلص من خمولهن المخزي. كانت واضحة لدرجة أنها صارت ضحيّة، ففي حزيران/ يونيو 1793 هاجمتها مجموعة من النساء عندما كانت تسير في حدائق النوبليرى. جرَّدنها من ملابسها ورجمنها بالحجارة ممّا أدّى إلى تلف بالمخ. وماتت مصابة بالاكتئاب والصداع في مشفى "سالبتير بيير" للأمراض العقلية؛ وبها انزوت الحركة النسويّة الفرنسيّة.
تبدأ الكتابة النسوية من هذا الصّدع، ينطبق عليها، ما كتبه الروائي المصري علاء خالد في روايته "خطوط الضعف": "إنّ لكل منّا منطقة اضطهاد ينطلق منها". لقد اضطُهدت المرأة، وأرادت أن تعبّر عن محنتها بالكتابة التي أنتجتها لحظة توتر أو صدام أو صدمة. وغالبًا ما جاءت الحريّة في الكتابة النسوية من خلال الأزمات العاطفية في الحب؛ أو الشعور بالقهر والاضطهاد في المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي. لم تكن الكتابة ترفًا ولن تكون، وهي ليست خيارًا سعيدًا في حياة بعضهنّ، ولا سيما حين نذكر الكاتبة والطبيبة نوال السعداوي، والتي طرحت أفكارها في أفقٍ حاد جعل بعضهم يرى فيها حربًا معلنة على الرجل.
لقد رفضت السعداوي التاريخ المكتوب بلغة ذكورية، وشكَّكت في القصص الواردة فيه، وهي تراه مزوَّرًا ومزيَّفًا وغير دقيق، فالحكاية الآن لم تعُد حكاية الرجل، فشهرزاد استعادت صوتها وهي لم تعُد تقبل بأن يحكي أحد نيابةً عنها.
في كتابه "المرأة واللغة" يذكر الناقد السعودي عبد الله الغذامي أنَّ: "المرأة أخيرًا كتبت ودخلت إلى لغة الآخر، فتكلمت عن مأساتها الحضاريّة وأعلنت إدانتها للثقافة والحضارة".
تظهر المشكلة بين الرجل والمرأة "مشكلة جنسانية" حيث يقوم التمييز على الاختلاف الجسدي بين جسد الذكورة وجسد الأنوثة، لكنّ السعداوي تكشف عمّا هو أعمق عبر منهج تفكيكي "ما بعد حداثي" للتراث والحداثة المزعومة. لذا تحفر في الأساسات وتحاور أسس هذا التمييز النابع من الرغبة بالتسلُّط والتملُّك. فالجسد ليس سوى نص كتبته الثقافة، وهو باعتباره نصًا كتبته، فالطريقة الوحيدة -بحسب ميشيلا مارازانو- للتصدي للثقافة السائدة هي "تفكيك هذا النص بإنتاج نص آخر منه".
فالجسد هو بؤرة التوتر بين المرأة والرجل وبين المرأة والثقافة. والعلاقة بين الرجل والمرأة شبيهة بالعلاقة التي وصفها "ماكس فيبر" max weber أنَّها "وضع سيادة أيّ علاقة من الهيمنة والامتثال".
تقوم السعداوي بتفكيك الخطاب الجسدي، للكشف عن تواطؤ وخداع الثقافة. وهي تساءل الثقافة، والبنى السياسية والأخلاقية من ورائها.
في رواية "امرأة عند نقطة الصفر" (1974)، تحاول السعداوي من خلال امرأة محكومة بالإعدام هي "فردوس" كشف الغطاء والستر عن البنية الثقافية المزدوجة التي تحرِّض على النفاق والخداع.
وحين يظهر الرجل، ككائن مزدوج –متلصص- وتتكرّر هذه الصفة في أكثر من موضع من الرواية: "وينظرون حولهم بعيون حذرة متلصصة متشككة، متربصة، عدوانية في شبه ذلّة"، فالهدف هو ثقافة التلصُّص؛ وعدم احترام خصوصيّات الآخر. وإذا كان الرجل يحمل أخلاقًا بوجهين، ويفعل في العلن عكس ما يفعله في الخفاء؛ فهو ليس سوى المرآة لثقافته وتاريخه... سواء كان رجل بوليس أو مثقفًا أو رجلًا بسيطًا. إنه يحتمي في نفاقه المكشوف بالبنى الثقافية، والاجتماعية، والدينية التي شوَّهته.
إنه مُنتَهِك ومُنَتهَك وهو مستبد ضعيف، يجيد ليَّ عنق الحقيقة لمصلحته، ويستبيح جسد المرأة. مستندًا لذرائع واهيَة. وهو إذ يفعل ذلك فإنه يفعله بمبررات دينيّة بحجة الخطيئة، واتهام حواء بالغواية وتذوُّق الثمرة المحرَّمة من أجل تكريس هيمنته وسطوته.
الجسد هو علامة ثقافية يمكن من خلاله الكشف عن بنية الثقافة. والخطاب السياسي الاجتماعي، والنماذج الذكورية في مجمل أعمال نوال السعداوي صيغت في قالب واحد، ويمكن تلخيص سماته السيكولوجية في (النفاق، الاحتكار، العدوانية- الشهوانية).
لقد أعملت الدكتورة السعداوي مبضع الجرّاح في جسد الثقافة البائدة؛ وحوَّلت قلمها إلى مشرط، وهدفت من خلال ذلك لمعالجة تقرُّحات الثقافة المزمنة والبنى الأسطورية والانحرافات دون مهادنة؛ فهذه الثقافة الجائرة المستقرّة يجب خلخلتها، وهي كامرأة تدخل حقل ألغام، وهي معرَّضة –أيضًا- لسوء التأويل.
كتب أحدهم مرَّة "لقد خرجت المرأة عمليًا من مرحلة الحكي، ودخلت إلى زمن الكتابة. ولكنها تدخل إلى أرض معمورة بالرجل، أو هي مستعمرة ذكوريّة".
والمُلاحَظ أنّ الرجل المثقف لم يسلم من مشرط الطبيبة، حتى الرجل التنويري أو بالأحرى الذي يدَّعي أنه متنوِّر، فالسعداوي ترى أنه لا يختلف عن نظيره المتستر بالدين أو القيم البائدة، وليست الثقافة إلّا ستارًا يتخفى خلفه، بل تعجز أن تغيِّر من نظرته للمرأة تقول: "كنتُ أندهش وأنا تلميذة صغيرة كيف يفخر مفكِّر كالعقاد، أو توفيق الحكيم بأنّه عدوّ للمرأة".
وهو ليس إلّا صورة معكوسة للـ"سيرينات" اللواتي يخفنَ الرجال، أو الـ"ميدوزا" التي تُحوِّل من يراها إلى حجر -وهذه الصفة الأخيرة طبعًا للرجل- فنظرته يمكن أن تغيِّر قدر المرأة، وله منظر مفزع مميت. فهو كائن مخيف لا يؤتمن مفترس "ينتظرون حتى تتعثَّر الواحدة منّا فينقضّوا عليها". لقد اختارت نوال السعداوي نساءها من القاع، حيث الجريمة والعنف ضدّ الجسد، وحيث يكتب تاريخ الجسد بوضوح.
ومن الملاحظ، وفي مجمل أعمال نوال السعداوي، أنَّ النساء يتركن أقدارهنّ للرجال، فثقتهنّ لا تعدو صرخة أو احتجاج على المجتمع الذكوري. وعلى غرار كاتبات ونسويّات كــ(جين أوستن، وكيت ميليت) تشكِّك نوال السعداوي في المسلَّمات عبر حسّ سليم وعقل قوي، وتحاجج التاريخ عبر براهين غاية في الوضوح، وتشرح بدايات تحريف العلاقة بين المرأة والرجل، من تكامل إلى سيطرة. وكيف تمَّت القسمة الجائرة بين الجسد والروح، ونُسبت الروح للرجل باعتباره من روح إله، والجسد للأنثى. فالروح مصدر الخير والجسد منبع الشر، وهي ترى أنَّ هذا التقسيم بين طبيعة الرجل المقدَّسة وطبيعة المرأة المدنَّسة تقسيم جائر!
لقد أدخلت السعداوي الثقافة الذكورية إلى غرفة العمليات. ووضعت الكحول على الجرح المفتوح فألهبته، ونسبت للأنوثة الجمال والوضوح؛ إلا أنها جعلتها ضعيفة أمام القدر مسلوبة الإرادة، وكيانها هلامي تشكّله الظروف الاجتماعية والعلاقة مع الرجل، وهذا أمر له دلالة؛ فهي برأي الغذامي "لم تستطع اختراق اللغة الذكورية، وفي كتابها "الأنثى هي الأصل" تستعين دون وعي بضمير مذكر وتحيل إلى غائب مذكر في وسط الحضور المؤنث".
ويعتقد الغذامي، أنه وعلى الرغم من تصويرها الرافض للذكورة وللهيمنة الذكورية إلا أنها لم تستطع الفكاك من اللغة المذكّرة. فالمذكّر رابض في قلب اللغة "لذا تأتي مقولة الأنثى هي الأصل على لسان المرأة لتكون خطابًا عائمًا على سطح اللغة، أمّا ضمير اللغة وباطنها فيظل فحلًا".
ربَّما يمكننا وصف نوال السعداوي في مجمل أعمالها الأدبية وأفكارها عن الرجل بالوصف الذي خصّت به "فرجيينا وولف" الكاتبة "جين أوستن": "سوف تكتب غاضبة حيث كان عليها الكتابة في هدوء، إنّها في حالة حرب مع قدرها وظروفها".
ومن المعروف، أننا حين نعيش في مجتمع، فإننا نتأثر بطريقته في رؤية الأشياء وعادته وقيمه. لكنّ الكتابة هنا هي خرق وتجاوز للمتعارف عليه، وهي مغامرة خطِرة ولها عواقب كثيرة تدفع المرأة ثمنها.
لقد كانت الكتابة تتمثل في تحدي الآراء السلبية حول المرأة، في الموروث الثقافي والمتخيَّل الذكوري في الغرب والشرق على السواء، وفي تحريفات الموروث الديني لكلا الجانبين، وفي حكايات التراث الأسطوري؛ لهذا فإنَّ المَسَّ بما هو مستقرّ في الأذهان لم يكن بالأمر الهيِّن.
مُنعت أعمال السعداوي من التداول، وخسرت مصدر رزقها، وتعرَّض مشروعها إلى التحريفات، وتلقت التهديدات؛ وحوربت لمجرَّد أنها حملت مشرط الجراحة وحوَّلته إلى قلم. لقد كانت كتابتها شهادة تؤكد أنَّ المبدع لا يعرف الممالأة.
لكنَّ حوّاء دخلت مع نوال السعداوي إلى المغامرة وأبحرت حيث لا رجوع، حوّاء التي قرَّرت أنها لن تعود قبل أن تخيط الجرح بعد أن مسَّته نوال الطبيبة بمشرط الجراحة.