قصة: علي طه النوباني
تبيَّن أنَّ واحدًا من أصدقائي الذين سهرتُ معهم بالأمس مصاب بـِ"كورونا"، فقد أبلغني أنَّ رسالة وصلته اليوم تفيد بأنَّ فحصه إيجابي. وعلى الفور بدأتُ أتذكَّر كل دقيقة قضيتها في تلك السهرة، وما حدث منذ خروجنا من المقهى حتى لحظة تلقي صديقي "زياد" النتيجة.
يا للمصيبة، لقد تبادلتُ مع زياد أنبوب النرجيلة مرّات عديدة ونحن نهرج ونضحك. كنتُ أمتصُّ نكهة الفراولة من النرجيلة مترنمًا مستمتعًا، حتمًا لقد دخل الفيروس إلى صدري، لا بدَّ أنني مصاب أيضًا. كان المقهى يغصُّ بالشباب القادمين لقضاء بعض الوقت وتبادل الحديث وتدخين النرجيلة على الرّغم من أنّ ذلك ممنوع قطعيًّا بحسب أحكام قانون الدفاع الذي تمَّ تفعيله منذ ظهور المرض، بل إنَّ بعض الشرطة طرقوا باب المقهى فطلب منّا صاحب المقهى أن نصمت ريثما يملّوا وينصرفوا.
لا بدَّ أنْ أذهب لإجراء الفحص، ولكني تكاسلتُ لبرهة وأنا أتذكّر أدقَّ التفاصيل، فاليوم عندما صحوتُ من النوم شعرتُ بضيق تنفُّس بسيط، وما إن شربتُ الماء حتى شعرت بالارتياح، وعندما وقفتُ أحسستُ بأنَّ ساقيَّ غير طبيعيتين، ولكنَّ مثل هذه الأعراض ليست جديدة تمامًا؛ فهي تحدث بين الفينة والأخرى دون أن أعير لها اهتمامًا.
تجنَّبتُ الاقتراب من أمي وأيّ من أفراد العائلة، وخرجتُ من البيت. مركز إجراء الفحوصات بعيد عن بيتنا، ولا بدَّ أن أستقلَّ سيارة أجرة لكي أصل، لا أريد أن أرهق نفسي في المشي لكي أدَّخر صحَّتي لمواجهة المرض إذا كنتُ مصابًا فعلًا؛ ولكن، أخشى أن أنقل العدوى للسائق، ماذا أفعل؟ لا بد أن أجلس في الكرسي الخلفيّ مرتديًا قِناعي، بل إني سأَذكر له أني أشتبه بأنّي مصاب لأنني خالطت شخصًا مصابًا بالأمس، لن أقول له إنني تبادلتُ معه أنبوب النرجيلة بنكهة الفراولة، سأكتفي بأن أقول له إنني مُخالط.
اختفت سيّارات الأجرة تقريبًا من جرش بسبب لجوء عدد كبير من المتقاعدين لاستعمال سيارات البكب لنقل الركاب مقابل أجرة، وذلك ليتمكّنوا من الإنفاق على عائلاتهم، لقد تآكلت رواتبهم بسبب ارتفاع تكاليف الحياة. وقد تكاثرت هذه الظاهرة حتى صار من الممكن لي أن أوقف ثلاث أو أربع سيارات "بكب" بإشارة من يدي وأنا أغمض عينيّ!
هاتفتُ زيادًا بينما كنتُ أسير في الشارع:
- لعنة الله عليك، ماذا يمكن أن أستفيد من شخص مثلك غير العدوى؟
قلتُ له ممازحًا، بينما هو يضحك بأعلى صوته؛ فقال لي إنه مصاب بارتفاع الحرارة، وألم في ساقيه. قلتُ له ضاحكًا: "اشرب ميرميّة".
أشرتُ بيدي إلى سيارة بكب، فتوقَّفت.
- أنا مُخالط "كورونا"، وأشتبه بأنّي مصاب، وسوف أجلس في الكرسي الخلفي مرتديًا كمامتي....
أومأ السائق برأسه موافقًا، كان رجلًا في الخمسين من عمره تقريبًا، يرتدى سروالًا أزرق وقميصًا أخضر، وقد أطلق أطراف القميص خارج حافَّة السروال الفضفاض. كان شعره منفوشًا، ومن الواضح أنه لم يحلق ذقنه منذ أيام.
ضرب على التابلو الأمامي بيده اليمنى؛ فاهتزَّت مجموعة من الأسلاك التي تخرج من جثة جهاز التسجيل المعلقة قرب المقود:
- منذ الصباح وأنا أتجوَّل في الشوارع، هذا أوَّل طلب، أشار لي أحدهم لكنه كان واقفًا قرب الشرطي، فلم أتوقف، وكما تعلم فإنَّ مخالفة تحميل الركّاب في سيارة خصوصي تصل إلى مئة دينار في حين أنَّ أجرة الطلب دينار واحد، تَبًّا، هل سيطول هذا العمر كثيرًا...
طلبتُ منه أن يوصلني إلى مركز فحوصات "كورونا" قرب العيادة البيطرية.
- لقد فحصوني بالأمس، كنتُ أرافق زوجتي لكي تحصل على دواء السكري، فأصرّوا على فحصي، تبًا لذلك الشيء الذي قاموا بإدخاله في أنفي.
هكذا قال السائق وهو يتحاشى بدقّة أحد المطبّات الكبيرة، ويرفع صوته لكي يَظهر بين الأصوات المتنوِّعة التي حولنا: "شوال بصل فقط بدينار يا أبو العيال... أدّيش كان فيه ناس عالمفرق تنطر ناس وتشتي الدني... اللي عندو غسالات خربانه للبيع....".
وهنا مدَّت طفلة يدها من شبّاك السيارة: "مشان الله ربع ليرة، بدي أشتري خبز".
- والله حتى الآن ما جمعت ثمن الخبز.... (حلّي عني)...
هكذا قال السائق وهو يشيح بوجهه عن الطفلة.
كُنّا قد وصلنا إلى مركز الفحوصات، فأخرجتُ دينارًا من محفظتي وناولتُه للسائق، بينما رحتُ أفكِّر بتلك الأداة المدبَّبة التي سيقومون بإدخالها في أنفي ورحتُ أرتعش. وحانت منّي التفاتة نحو السائق وأنا أخرج من السيارة، كان يُـقَـبِّلُ الدينار بشفتيه قائلًا: "اللهم ديمها نعمة واحفظها من الزوال!".