قصة: يوسف الغزو
كاتب أردني
...وكأنَّه جدار برلين، أو كأنَّها الحدود بين شمال السودان وجنوبه، أو بين لاوس وكمبوديا، أو بين الكوريّتين. تلك الحدود قد تجد لها حلًا ولكن هذا الجدار القائم بين منزلَيْ "صبحي" و"جابر" استعصى على كل الحلول. لم يكن الجيران في معزل عن خلافاتهما، وخاضوا معركة التقريب بينهما بكل الوسائل، وكذلك المختار "أبو عماد" المعروف بحكمته وقدرته على حل أصعب المشاكل والخلافات، فهو لم يقصِّر في تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين.
المنزلان يقومان على خاصرة ربوة تطلّ على شارع تجاري عريض. يقوم على تلك الربوة بيت "عمران بك" الفخم الشامخ كقصر منيف. قليلون هم الذين يهمسون سرًّا بأنَّ "عمران بك" هو الذي يؤجِّج الخلاف بين الجارين الطيبين "صبحي" و"جابر". كان يعمل في الخفاء؛ لذا ظلَّ يبدو بعيدًا عن أيّ دور له في هذه المسألة. فقد كان يرنو بعيني خياله إلى الجرّافة وهي تزيل أنقاض البيتين من طريقه، من خاصرة ربوته، ليغدو المكان ممهدًا لقصره وحده ويتربَّع على مرتفع الرّبوة سيّدًا للبيوت مثل صاحبه سيّد الرجال. وتارةً يرى بعين خياله أنَّ البيتين لم يعُد لهما وجود وتربَّعت على أنقاضهما عشرات المحلّات التجارية والشقق السكنيّة التي تعلوها، ويرى بعيني خياله أيضًا أنَّ المكان كله يحمل اسمه واسم جدوده الذين كما خُيِّل إليه قد سادوا هذا المكان منذ زمن طويل. لقد راوَدَ الجارين سرًّا على بيع البيتين له، ولكنه كان في كل مرَّة يُجابَه بالرَّفض القاطع.
ازداد الخلاف يومًا بعد يوم حول الجدار الفاصل بين الجارين. كان الخلاف على متر واحد من الأرض. هذا يريد إبعاد الجدار مترًا والآخر يريد تقريبه مترًا. وتصاعدت حدّة الخلافات، ولولا تدخُّل المختار الحكيم لانتهى الخلاف بمأساة لا تُحمد عقباها. وقد استطاع المختار أن يقنع "صبحي" بهدم الجدار وإزاحته إلى الأمام مترًا واحدًا ولن تكون الخسارة بأكثر من متر طولي واحد من أرضه لحساب جاره "جابر".
سُرَّ "جابر" بهذا الحلّ، ولكن كان هناك من الوشاة مَن عيَّروا "صبحي" باستسلامه لـِ"جابر". ونجح الوشاة، فقام "صبحي" ليلًا بهدم الجدار وإعادته إلى ما كان عليه متجاوزًا الحدّ الأصلي بسنتيمترات قليلة. جُنَّ جنون "جابر" وهرع إلى المختار الذي خاض معركة شرسة من المفاوضات التي انتهت بموافقة "جابر" على أن لا تكون الإزاحة مترًا كاملًا. وجاءت الإزاحة، ولمّا تمَّ قياسها من قبل "صبحي" وجد أنه لم يتمّ الالتزام ببنود الاتفاق مع المختار. وبيْن أخذ وردّ وواسطة تمَّ هدم الجدار وإعادة بنائه عدَّة مرّات، وفي كل مرَّة كانت سنتيمترات قليلة تشعل نار الخلاف من جديد:
- ألستَ رجلًا يا "صبحي"؟
- أنا رجل وسيِّد الرجال، وأنت أوَّل مَن يعلم ذلك.
- إذن كيف تسمح لـِ"جابر" أن يجعل منك أضحوكة في الحارة؟
- باطل!! يجعلني أضحوكة؟ وأنا أبوك يا شدّاد.
وفي مكان آخر كنت تسمع هذا الحوار:
- ألستَ رجلًا يا "جابر"؟
- أهل الحارة كلهم يعرفون أنني رجل وسيِّد الرجال.
- إذن كيف تسمح لواحد مثل "صبحي" أن يعلِّم عليك؟
- يعلِّم عليّ أنا؟ وأنا أبوك يا ردّاد، سوف ترون؟
وتحتدم معركة بالأيدي هذه المرَّة لم يستطع المختار ولا الكثيرون من أهل الحيّ احتواءها. وما هي إلا ساعات حتى كان "جابر" في السجن و"صبحي" في المستشفى.
أصبح الجميع عاجزين عن فعل شيء ما، فهرعوا إلى "عمران بك"، فهو صاحب نفوذ وكلمة عُليا بين الجميع. لم يتردَّد "عمران" في إظهار حزنه وأسفه على ما جرى. وقام بزيارةٍ لـ"صبحي" في المستشفى وقد تعافى، وأخرج "جابر" من السجن. وعاد كل واحد منهما إلى منزله بحذر شديد. وجلس "عمران" مع المختار أبي عماد يتحدَّثان:
- وما العمل يا "عمران بك"؟ "صبحي" و"جابر" سيعودان إلى الشجار في أيّ لحظة.
- وهذا رأيي أنا أيضًا.
- ما رأيك لو أقنعنا كل منهما ببيع بيته والانتقال إلى مكان آخر؟ ويا دار ما دخلك شرّ.
- ومَن سيشتري هذين البيتين الخربين يا مختار؟
- لماذا لا تشتريهما أنت يا "عمران بك"؟
- ليس لي فيهما حاجة، إنَّما سأفعل ذلك إذا وافقا على البيع لحلِّ الخلاف بين المتخاصمين! نحن جيران يا مختار.
وما هو إلا زمنٌ يسيرٌ حتى كان المكان قد قُلِب رأسًا عل عقب، وبدا قصر "عمران" شامخًا فوق الرّبوة، ونهض عل أنقاض البيتين مشروع تجاري كبير تصبُّ أرباحه في خزائن "عمران" التي تقول دائمًا: "هل من مزيد؟".