ترجمة: محمد زين العابدين
شاعر وكاتب ومترجم من مصر
عبر مروج حدائق (هايدبارك)، أسفل الجادة التي تنتصب فوقها أجنحة الفندق، وحول الجزء الخلفي من الفندق، حيث ينتصب مأوى الحافلات القديمة، وصعودًا على الدَّرَج الذي يئنُّ صريره من وقع الأقدام الصاعدة لأعلى؛ هنا تعيش الآنسة (بيتيجرو) وحيدة.
لها وجودٌ بسيط؛ من الاثنين إلى الجمعة في مكتب البريد، وأيام السبت في سوقٍ للبضائع المستعملة، مع خالتِها التي لم تتزوَّج.
هذا هو نمطُ حياة الآنسة (بيتيجرو) بشكلٍ عام.. ولكِنْ هناك يومٌ في السنة، مقدَّسًا بالنسبة لها. إنه اليوم الأوَّل من بداية الصقيع؛ يوم الصقيع الأوَّل، عندما تستيقظ الآنسة (بيتيجرو) على أوَّل موجة صقيع لتقوم برحلتها الملحميّة السنويّة، إلى متجر (بابا جاك)، المتجر الرئيس في لندن لتجارة الألعاب ومستلزمات الأطفال. كانت تأتي إلى هنا منذ كانت طفلة، والآن -وعمرها 36 عامًا- ما زالت تأتي إلى هنا.
كل عام، تبتاعُ الآنسة (بيتيجرو) الهدية نفسها.عندما تفضُّ غلافَها، ترى الكلمات المألوفة: "صندوق الألعاب الساحرة". يوجدُ في الداخل آلاف من قطع الأحجية التي ستقضي الساعة التالية في تجميعها بشقِّ الأنفس.
إنَّها تتذكَّر الأحجية الأولى جيدًا: طفلٌ ملائكيٌ صغيرٌ يتطّلعُ إلى الخلف. التالي أكثر وضوحًا: الطفل الصغير نفسه، وقد كبرَ عامًا، عامٌ أكثر نضوجًا. في كلِ عام، منذ كانت طفلة، وإلى أن شبَّتْ لتصبح امرأة؛ كانت تضع هذه الألغاز معًا. وفي كلِّ عام كانت ترى وجهها يكبرُ بجانبِها.
أحيانًا، حتى في الصيف؛ كانت تفكِّر في ذلك الرجل، وتتساءل عمّا يحدث له، إلى أيّ مدى قد يبدو مختلفًا بحلول عيد الميلاد.
في هذا العام، يبدو الرجلُ الموجودُ في الأحجيةِ أكثرَ شيبًا. سنواتُ حياتِهِ تمُّر.. وهذا يجعلُ الآنسة (بيتيجرو) تفكرُ في سنواتِها هي؛ لقد أهدرتْ منها ما يكفي بالفعل!
لقد جانَ الوقتُ الذي تقرِّرُ فيه ما تفعل.
المتجرُ مزدحمٌ وهي تدلفُ إلى داخله عبر الأبواب. تجاهدُ لتشقَّ طريقها إلى طاولة البيع، حيث يقومُ موظفُ المتجر برصِّ عساكرَ من القصدير.
تتساءل: مَنْ هو الرجلُ الموجود في الصورة؟ لماذا ينظرُ لها بمكرٍ شديد؟ وهل يرى كل مَن يشتري الأحجية العيونِ الزرقاء الساحرة نفسها، التي يبدو عليها الكِبَرُ كلَّ عام؟!
"أوه..!"، يقولُ صاحبُ المتجر، "صندوقُ الألعاب السحريّة.. أخشى ألّا أستطيع مساعدتكِ في الإجابة عن أسئلتك. لقد صنع والدي ذلك، لكنه رحل منذ خمس سنوات".
عندما تخطو الآنسة "بيتيجرو" إلى خارج المتجر؛ ترتجفُ من خيبةِ أملِها، لدرجة أنها بالكاد تلاحظ الرجل الذي يندفع على امتدادِ موقف عربات الخيول، يصطدمان خارج أبواب المتجر. وعندما تلملمُ نفسَها؛ ترى أنَّ له عينين زرقاء عميقة، صافية، وغامضة. إنه يحمل تحت ذراعه نسخة أخرى من صندوق الألعاب السحريّة، كما لو أنه يسيرُ أيضًا عائدًا إلى المتجر للتساؤل عن الغرضِ منه!
"إنها..أنتِ". يلهثُ الرجلُ غيرَ مُصَّدِقٍ.
"أنا يا سيدي؟".
يتخذُ هيئة هادئة ووقورة؛ لأنَّ الأمرَ ربَّما يتطلبُ بعضَ التفسير: "هذا هو الشىء الأكثر غرابة. كنتُ أجيءُ إلى متجر"بابا جاك" منذ كنتُ صبيًّا. كل عام كان والدي يشتري لي هدايا، دستة من لعبة العساكر، وكلبًا مرقطًا. لكن اللعبة التي طالما كنتُ أرغبُ فيها؛ كانت إحدى أحاجي الصور المتقطعة. حسنًا، في السنةِ الأولى، كانت الأحجية مجرَّدَ وجهِ فتاة.
وفي السنة التالية، كانت الفتاةِ نفسها مرَّة أخرى، فقط أكبر قليلًا، كأنَّها عاشت سنة كاملة بين الصورتين. وبعد ذلك، عامًا بعد عام..". يتوقف، لأنَّ عيني الآنسة "بيتيجرو" كانتا تتسعان وهو يتحدَّث، ونوعٌ جديدٌ من الأمل يشّعُ منهما.
"إنه..أنتَ.."، تهمسُ وهي تعاودُ التفكيرَ في جميعِ الأحاجي التي قامت بتجميعها معًا. وهكذا يقعُ الناسُ في الحب.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(*) روبرت دانسديل (ROBERT DINSDALE): أديبٌ إنجليزيٌ، ترعرع في مقاطعة "يوركشاير" بإنجلترا، لكنه يعيشُ حاليًّا في إحدى المدن الساحلية بمقاطعة "إسيكس" بشرق إنجلترا، بالقرب من العاصمة لندن. يكتب الروايات الخيالية، والمستوحاة من التاريخ. روايته الأخيرة، هي (صُنّاعُ الدُمى). من أشهر كتبه "باريس في ضوء النجوم"، "خبزٌ بالزنجبيل"، "المنافي الصغيرة".
* المصدر: مجلة (The Simple Things) الإنجليزية، عدد كانون الأول/ ديسمبر 2018.