عينُ القطّة


سحر ملص
قاصة أردنية
أطلقتِ العجوزُ صيحةً حادّةً حين لمحت عينَ قطّتها الصغيرة الرمادية قد تهدّل جفنها، يغطيها غشاءٌ رقيق أبيض، وثمة سائل متخثّر يحجب الرؤيا؛ مما يعني أنَّها في طريقها إلى الانطفاء، بحيث لم يعد يظهر منها سوى جزء صغير من البؤبؤ يشبه ذبالة شمعة تكاد تنطفئ، وبحركة لا إرادية حملت القطّة الصغيرة بين يديها ووضعتها بمحاذاة وجهها، ووقفت أمام المرآة تنظر إلى الوجهين الملتصقين والعينين المطفأتين، وهي تقارن ما بين تجاعيد وجهها ووجه القطة الصغيرة وشعرها الأجعد، وقد أصبحت القطّةُ مثلها عوراء!
تأملت وجه القطّة الصغير الحائر بتقاسيمه، ثم انخرطت في البكاء وهي تحسب الفارق الزمنيّ في عمريهما، فالعجوز تخطت السبعين، بينما القطّة تحبو نحو شهرها الخامس، ومع ذلك ملأت عليها وحدتها وباتت تشعر أنَّها ابنتها الصغيرة. وصارت تناديها ماما، لكنَّها بعدما أدركت مدى فارق العمر بينهما راحت تناديها "تاتا" أو "ستيّ" وسط استجابة القطّة الصغيرة التي ما إن ترى العجوز جالسةً على كرسي الخيزران حتى تتسلقه وتجلس في حضنها مطلقةً هرهرة مثل طفلٍ صغير، فتحملها المرأة تقبّلها وتشتم رائحتها ثم تضمّها إلى صدرها، لتغفو هناك، ويفيض صدرها حنانًا على الصغيرة، في الوقت الذي تتحسر المرأة على حياتها ووحدتها بعدما تركها زوجها الذي اكتشف أنَّها امرأةٌ عقيمٌ، وبقسوةٍ طلّقها رغم أنَّها توسّلت إليه أن يتزوج من أخرى ويتركها تعيش في كنفه، إذ لا أهلَ لها، لكنَّه رفض وأزاحها من حياته لتعيش حياة الضنك والمعاناة، وقد وجدت في القطّة الصغيرة سلوى لها، لكنّها الآن تقف أمام معضلةٍ خشيةَ أن تفقد الصغيرة عينها وتصبح مثلها.
شعرت بألمٍ، وراحت تسترجع كيف فقدت قبل سنوات عينها، وهي تراجع أحد المراكز الصحيّة وسط إهمال الطبيب الذي كان يكتفي بكتابة قطرة لها دون أن يفحصها، بالرغم من أنَّها اشتكت له مرارًا من وجود غبش على عينها، لكنَّه كان يطمئنها بأنَّها قريبًا ستشفى، حتى انطفأت عينها وضمرت وفقدت النظر فيها للأبد!
انتفضت مذعورةً وهي تقول في سرّها: "هل تصبح قطّتي عوراء مثلي تكابد الرؤيا بعينٍ واحدة؟، لا لن يحصل ذلك مهما كلّفني الثمن، ولن أحتمل رؤيتها بعينٍ واحدة مثلي، لتصبح مرآتي..."
فكّرت قليلًا، ثم حملت القطّة ووضعتها في سلة الخضار والمشتريات التي تحملها بيدها حين تذهب إلى السوق لشراء حاجاتها، قرّرت بينها وبين نفسها أن تهديها لعيادةٍ بيطريّة كنوعٍ من التبنّي، فتحظى القطّة بالطعام والعلاج المناسب، وتستريح هي من عبء تحمل مسؤوليتها، إذ أنَّها لم تعد قادرة على الإنفاق عليها.
كان في نفسها حسرةٌ كبيرة وهي تسير تنظر إلى الشارع مرةً، ثم تحدّق في عين القطة المطفأة الدامعة، محاولةً ألا تلتقي نظراتهما، إذ لا شكَّ بأنَّها ستفتقدها، وتفتقد دفء جسدها في ليالي الشتاء، وتفتقد صوت موائها الذي يشبه بكاء طفل يستعطف أمه، سيصبح حضنها فارغًا... ولن تجد من يؤنسها، وستفتقد برحيلها شعلةَ الأمومة التي بدأت تتقد في أعماقها حيال الصغيرة.
كانت الشمسُ تميل إلى المغيب، قصدت عيادةً بيطريّة في أحد الأحياء الموسرة، كي تطمئن أنَّ قطّتها ستنعم بعيشٍ كريمٍ ورعايةٍ طبيّة مناسبة.... ولكن من سيتبنى قطّةً عوراء...؟!.
شعرت بألم وذرفت دمعة، ثم دخلت إلى العيادة المكيّفة وهي تتأمل أركانها الأنيقة الباذخة، في الزاوية كلبٌ أشقر مربوطٌ إلى حلقة في الجدار، ثمة منامات للقطط، وقد امتلأت رفوف غرفة الانتظار في العيادة بأنواع مختلفة من أطعمة القطط والكلاب. لاحظت أنَّ هناك زاوية مليئة بألعابٍ للحيوانات، ثم شاهدت صبيّةً تحمل بيدها كلبًا جميلًا مصفّفَ الشعر، وقد راحت تختار له العديد من الألعاب وأكياس الطعام والرمل الخاص به، وعندما جمعتها وذهبت تحاسب المسؤول طلب منها خمسين دينارًا مقابل المشتريات. كادت العجوز تطلق شهقة، لكنَّها كتمتها، وفي سرّها تمنّت لو أنّها كانت حيوانًا محظوظًا تبناها أحد الموسرين، إذ لربما حظيت بحياة أفضل.
اقتربت من موظف الاستقبال، وعرضت عليه أن تترك القطّة هنا للتبنّي، لكنَّه اعتذر، وأخبرها أنَّ العيادة تعمل كوسيط فقط ما بين أصحاب الحيوانات والراغبين في التبنّي، حمل القطة بين يديه مستغربًا من شدّة نحولها، ونظر إلى عينها شبه المطفأة، ثم راح يفتّش في أذنها قائلًا: لا بدَّ من عرضها على الطبيب..
ارتبكت العجوز وهي تعيد عليه كلامها: لكنّي أعرضها عليك للتبنّي، فهي جميلة ومن نوع نادر.
خجلت من أن تخبره بأنَّها عاجزة عن الإنفاق عليها، وأنَّ وجودها في البيت معها سيذكرها في كل لحظة بحالها وحال عينها لتصبح القطة مرآتها!
- أنصحك بعرضها على الطبيب إذ أنَّه يستطيع معالجة عينها قبل أن تفقدها.
انتفضت وانتبهت من شرودها، وكأنَّ هناك من يخبرها بأنَّ هناك أمل في عودة عينها التي فقدتها لتعود مبصرةً كما كانت، شعرت بأنَّ الأمل بات يورق في أعماقها..
سألته على استحياء: كم الكشفيّة؟
-عشرة دنانير...
تلعثمت، وتحسّست النقود التي في جيبها البالغة خمسة عشر دينارًا، وقد جمعتها لتعرض نفسها على أخصائي عيون قبل أن تفقد عينها الثانية، كما نصحها ممرض المركز الصحي. شعرت بالحيرة، وأسرعت تمدُّ يدها لأخذ قطّتها، لكنَّها لمحت عين القطة، امتلأ قلبها بالحزن وشعرت كأنَّ القطة الصغيرة تتوسل إليها لتنقذها، تساءلت في نفسها: ماذا لو أنَّ الله هيّأ إليها موسرًا يدفع لها مقابل علاج عينها قبل أن تفقدها، ترى كيف كانت ستتبدل حياتها؟.
ودون تردّد قالت له: سوف أعالجها.
في عيادة الطبيب راحت تنظر إليه وهو يعقّم عين القطة ثم يمسحها ويقطّرها، أمسك بمشط صغير وراح يمشّط شعرها وحاجبيها، ثم قام بفحص أذنيها وأخذ ينظّفهما، تلك اللحظة تمنت العجوز لو أنَّها كانت قطّةً وقعت في يد طبيب رحيم عالج جراحها، إذ بدت القطّة هادئةً مستسلمةً للطبيب الذي أخرج الكثير من السواد من أذنها وعاملها بمنتهى الرحمة والمودة، ثم أعطى المرأة قطرتين؛ واحدةً للأذن وأخرى للعين، وعلّمها كيف تقّطر لها، وطلب منها محاسبة الموظف الذي طالبها بثلاثة عشر دينارًا، فقد اعتبر الكشفيّة خمسة دنانير والباقي ثمن القطرة. أخرجت العجوز نقودها المدخرة من محفظتها ودفعتها واستعادت دينارين خبأتهما بحرص في محفظتها وهي تردّد في سرّها: "سأعاود "التحويش" من أجل عيني... وسأقصد عيادةً بيطريّةً لعلّي أحظى بطبيب عيون رحيم يعيد لي الرؤيا، لأخرج من عيادته المضاءة إلى بحر الظلام، ولكن بعينٍ مبصرةٍ.