متاهة



انتصار عباس
قاصة أردنية

يكادُ يسقطُ وينفجرُ، حتمًا سينفجرُ، ولكنْ بعيدًا عن ضوضاءِ الجسدِ البالي، فكلُّ الوجوهِ التي رسمها بالأمسِ غادرتِ الَّلوحةَ، ولم يبقَ غيرُ بضعِ نُقاطٍ تدثَّرتْ بألوانِها تتناثرُ هنا وهناك، ينبشُ أفكارهُ ويتيهُ فيها! ولكنْ ها هي الموناليزا تقبعُ في الَّلوحةِ مُنذ سنين، دون أن تسوّل لها نفسها الفرار.. مَنْ يدري؟! فربما فرّت آلافَ المرَّات.. ولمّا لم تجدْ مكانًا أخرَ تقبعُ فيه، عادت إِلى الَّلوحةِ من جديدٍ. ها هو يتخيَّلُ شكلَ الَّلوحةِ وقد التفّ الإطار حولَ عنقِها، بدت له الوجوهُ باهتةً، وقد شاختِ فيها الألوانُ. خطر بباله أن يبيتَ الَّليلةَ وسط الَّلوحاتِ كي يرقب تلكَ الَّلعنةَ التي مسَّتْ شخوصَها. جلسَ قُربَ النافذةِ يتفحّصُ وجوهَ المارّةِ، وقع نظره على امرأةٍ تقِفُ تحتَ النافذةِ، كانت تستظلُّ بشجرة القيقب تراقب الطريقَ، وقد تورَّدَ وجهُها بألوانِ زهور القيقب المتّقدة بالحمرة الصاخبة.. استوقفهُ ميلانُ الجسد،ِ واستوقفته تلكَ النظرةُ المتوهّجةُ بالترقُّبِ والانتظارِ، وكأنَّها تُصارع أمواجَ الحنينِ التي تتلاطم في صدرها ذهابًا وإيابًا. تناولَ فرشاتهُ على عجل، وبدأَ يرسمُ ألوانَ شجرةِ القيقب وقد اصطبغت حمرتها في ذلكَ الوجهِ الوضّاءِ. نفدَ النهارُ والمرأة مزروعةٌ تحتَ النافذةِ تنتظرُ.. تبدل ميلان جسدها مع الظلالِ الساقطةِ من الشجرةِ، ثم ما لبث أن ارتمى على الأريكة يزفُّهُ التعبُ. لوَّح لها قائلاً: لتسمحَ لي سيدتي الجميلةُ أن أتركَها بعض الوقتِ.! ليتني كنتُ ذلكَ الغائبُ الآتي.! لكنتِ الآنَ هنا تحتسينَ قهوتكِ وتنتظرينَ.. أراكِ بنصفِ عينٍ ونصفِ ابتسامةٍ، وأنا مطفئ مثلك، يوشك التعب أن يغمض عينيَ الأخرى، ويلتهم ما تبقَّى من ابتسامةٍ ماتت قبل أن تولد. غطَّى وجهَهُ بالغطاءِ للحظاتٍ، تظاهر بالنوم، علّه يعرف كيف يهرب هؤلاء الأوغاد من اللوحات، وما الذي ستفعله تلك المرأة القابعة أسفل النافذة. علا الشخير لبرهة في الغرفةِ، لكنّه بعدَ هنيهةٍ توقف تمامًا، وقد سمع أصواتًا تقترب. بدأ صدره يعلو ويهبط، ينظر حوله بعيون شبه مفتوحة، ها هي الأقدام تقترب، أكثر فأكثر، وبدأ يحدّث نفسه: لا بدّ أنَّ أرواحًا تسكن هذا المكان، وهم في حراك دائم، ثمة رائحة عطر فوّاحة تتسلّل لأنفه، بدا كأنّه معتاد عليها...يعرفها. يسحب الغطاء عن وجهه رويدًا رويدًا ويتمتم: سأمنعها من مغادرة اللوحة ولو كلّفني الأمر حياتي. صوت الرجل الآتي بدا أكثر قربًا وهو يخاطب امرأة : لم يبق أمامنا سوى خطوتين..
صوت المرأة: هات يدك فأنا أخاف الظلمة!
الرجل: إليك مصابيح روحي، وأشعل ولاعته..
يا لهول ما يرى، إنَّهما يهربان معًا! لن أسمح لهما بالتلاعب بي، شبَّ واقفًا يريد الإمساك بهما، تمرُّ الظلال وهي تعبر الزقاق الواقع خلف النافذة، يشتّد غضبه بعد أن تبيّن من ضحكاتهما أنّهما جيرانه الجدد الذين سكنوا بالجوار، وتذكّر هذا العطر اللعين الذي لطالما عانق أنفه عندما كانت جارته تروح وتجيئ من أمامه، حتى لكأنَّ هذا العطر صار جزءًا من الزقاق. تأفّف بغضب: كدت أفقد عقلي!.
أخذ نفسًا عميقًا وهو يحدّث نفسه: ما دام الأمر هكذا، لم لا أدعوها لنحتسي فنجان قهوة معًا.. ينظر إلى اللوحة، يناديها برجاء: تعالي! تعالي، لماذا تتمنعين؟
أهو الخوف؟، أم هو الخجل؟! هاك يدي ولا تخافي (يغمض عينيه ) تعالي، تعالي، ها هي رأسي تشتعل كأنَّها غدت سراجًا يضيء العتمة.. تبصرني النجوم وتلتف حولي، وأنا أتربص أفلاك دربك مثل الفراشة تستلهم النور.
صوتها يأتيه، يوقظه، ويوقظ كل ما هو رقراق فيه.
هي: ها أنذا قادمة إليك.. عيناك سراج عتمتي، ليت نورك يبصرني.
هو: يا للغرابة!! امرأة مثلك تنتظر قادمًا لا يأتي أبدًا!
هي: كنت أنتظرك!
هو: تنتظرينني أنا!! يطلق ضحكةً شاهقة. تشعلين دمي بحديثك هذا؟! فأنا لم أعرفك إلا البارحة!
هي: قلبك لا يسكت عني لحظة، وتحلم بي على الدوام، وتقول لا تعرفني!
هو: لم أرك سوى البارحة، وأنت تقفين قرب النافذة، هل عناق النوافذ يولد الوجد؟.
هي: لقد استهواني عشقك في محاكاة الأشياء، وإدغام أنفاسها الخفية في الألوان، شغفت بك حدَّ الجنون وكأنَّ سحرًا مسّني، فرحت أستظلُّ بشجرة القيقب.. أتأمل هذا الجنون وأناجيه، ولم يدر في مخيلة ظنوني المتيمة سوى أن أرى ظلّي يتلألأ في بحر عينيك، كنت أسمعك وأنت تناجي شجرة القيقب، تطلّ عليها بوجهك الوارف الباسم، تملأ رئتيك أنفاسها وتعود، ثم تأتي الحافلة فأعود، لست أدري أي هيام ذاك الذي مسّني حتى سقطت في بحر ألوانك؟! كنت على يقين أنك في أعماقك تعرفني وتراني.
هو بحماسةٍ وفرح: لا بدَّ وأنَّ شجرة القيقب ألقت عليك سحرها، فرأيتك فجأة، وأنَّى لي أن أعرفك أو أراك، فقلبي من يبصر الأشياء، لستُ أنا.
هي: أنا أستظلُّ بالقيقب كلَّ يوم، ولكن في هذا النهار تأخرت الحافلة، ولما دخلت بيتي، وجدت الألوان تزهو على جدران غرفتي، وكأنَّها من أخّر عودتي ريثما تعيد ترتيب الأشياء، حتى كأنّني لمحت عينيك تورقان في المرآة، وتلك الشجرة يخضر جذعها، وتلتف الزهور حولي وتغطيني.. فأغدو مثلها.
هو: دعينا من كل هذا الحديث وأقبلي، فأصابعي ترفرف حولك، ويداي تعانقان الفراغ، تكادان تطيران.. تعالي.
أحسَّ بنعومةٍ غريبة تحطُّ في يديه، نعومة لا عهد له بها، وثمة برودة تتسلل من النافذة المكسورة تلفح ظهره، يشعر بقشعريرة تخلخل عظامه... يجفل، كأنَّ يدًا خفية تمتد وتعبث في الأشياء، حتى صوت صنبور الماء أخذ يطنُّ في أذنيه طن.. طن.. فتح عينيه مذهولًا، ما من أحد سوى وسادة وادعة تنام بين يديه، وستارة تؤرجحها الريحُ! يطيح بالوسادة أرضًا بغضبٍ جامح، يستجمعُ قِواهُ ويهرعُ للنافذة ليغلقها، تلتقي عيناهُما مجدّدًا، تسكره النظرة، ويدبُّ فيه الحنينُ من جديد لنصفِ الابتسامةِ الغائمةِ، وبشبقٍ هستيريٍّ يُردِّدُ: ها، لم تهربي! أنت امرأةٌ مُخلصةٌ!. لم أعتد الإخلاصَ من النساءِ، (ينظرُ مجدّدا لَّلوحاتِ الأخرى التي هربَ منها شخوصُها.. ضاحكاً) ولا حتَّى من الرجالْ!. وبنظرةٍ عابرةٍ انتبهَ لزهورِ القيقب وهي تتبرَّعمُ على وجهِها.. اقتربَ يتحسَّسُ الزهورَ بعصبيةٍ تُعبّرُ عن مزاجهِ النزقْ.. وجدَها رطبةً تنضحُ بالروائحِ والألوانِ، بدأ يحدِّثُ نفسهُ: ما الذي يحدثُ.؟ أيّ جنونٍ هذا الذي يعتريني.؟! انتفضَ مُبتعدًا وقد انتقلتْ عدوى الألوانِ إلى أصابعهِ، أغمض عينيه، بدأ يسترجعُ الصورَ، فهو حينَ يرسمُ، تدخلُ أصابعهُ الَّلوحةَ ولا يدري أيَّ عوالمَ تُقحِمُ نفسَها فيها.!
ارتعشتْ حبةُ الدواءِ في أصابعهِ وهو يبتلعُها، علّها تهدِّئُ من فورةِ ذلكَ الدمِ المُنتفضِ بداخلهِ، يطاردهُ وجهُ المرأةِ والقيقب، حاولَ رسمَ وجوهٍ أخرى لكنَّهُ في كلِّ مرَّة يرسمُها، كان يأخذُ نَفَسًا عميقًا، ثم يجلس ويشغل نفسه بأشياء أخرى، تفاجئه زهورُ القيقب وهي تتبرّعمُ من جديدٍ، وتُزهر. حملَ الَّلوحةَ يريدُ تحطيمَها، أحسَّ بنظراتها وهي تتوسل إليه وترجوهُ ألَّا يفعل. سرت فيه قشعريرةٌ وهو يسمعُ بأُذنيهِ صوتَ أقدامٍ تقتربُ من الَّلوحةِ.. اقتربَ منها يُصغي، سمع أقدامَ المارَّةِ وهي تعبُرُ الطريقَ.. تنفَّسَ الصُّعداءَ، تركَ الَّلوحةَ جانبًا، انتبه للصوّرِ المُلقاة على جنبِ الطاولةِ، وبدأ يشغلُ نفسَهُ بأيِّ شيءٍ في محاولةٍ للتخلُّصِ من ذلك الهاجسِ الذي يطنُّ في رأسهِ مثل سربٍ من النحل، بدا مستمتعًا بوجودِ المرأةِ. ورغم القلقِ المستحوذِ على قلبهِ، إذ تتلبسُ روحَ أصابعهِ وهي تُمسكُ بالفرشاةِ، بدأَ يرسمُ براءةَ أطفالِ الصورةِ، ويضيعُ فيها.. ابتعدَ قليلًا، سمع صوتًا يخاطبُهُ.. يوغلُ في صدرهِ، كأنَّه يشبهُهُ: أهي الروحُ الخبيئةُ فيكَ، إذ يطلُّ قلبُها من نوافذِ عينيكَ بينَ الفينةِ والفينة؟ِ. ربما كانتْ مسًّا من الجنونِ سكنَ روحَ أصابعكَ، أو لعلَّهُ مس تعلَّقَ بأشجارِ روحكَ، فكلُّ الوجوهِ هي، ولا تدري.! تحدَّقَ في الَّلوحةِ مذهولاً وشجرةُ القيقب تتبرَّعمُ وتُزهرُ فيها.
تذكَّر السورياليةَ الَّلعينةَ التي يدَّعيها، قهقهَ بهستيريةٍ، وبدأَ يرسمُ شجرة قيقبٍ أخرى تقابلُها، مدَّتْ الأولى أغصانها حيثُ الثانيةِ، تعانقا.! تعالتْ ضحكاتهُ وكأنّه يتحداهُما.. شعرَ بنشوةٍ غريبةٍ وهو يشاهد فراشةً، خطرَ ببالِهِ أن يُنهي تلكَ المسرحيّةَ التي لا يعرفُ لها بدايةً أو نهايةً، همس: أُحِبُّ الفراشاتِ وهي تتلمَّسُ دربَها في العَتمَةِ، ثم أطفأَ النورَ.!
أورقتْ زهورُ القيقبِ من جديد، وها هي تقتربُ منهُ، تُقبِّلُهُ، وتُقبِّلُهُ، ثم غادرتِ الَّلوحة تعبرُ دهاليزَ الحياةِ، تسيرُ وتسيرُ.. تسكبُ أوجاعَها في أقداحِ الَّليلِ وتنامَ.. وفي الصباحِ تستفيق امرأةٌ، تهجس شياطين رأسِها بأشياءٍ وأشياءٍ.! مرَّةً تراها حمامةً تجمعُ بقايا الغصنِ المتكسرِ، تبني عُشَها في الماءِ، يصطادُها عُشبُ صدرهِ، إذ راودهُ الماءُ.. تنسجُ أجنحةً وتطيرُ… وتطيرُ، تنظرُ إلى الأرضِ وديعةً، يسقطُ رأسها في جُبِّ الذكريات، ترى أخاها الصغيرَ ينام على جذعِها، تحتضنهُ، وتعانقهُ، أَبوها يصيح: شقّ خاصرتك!
تردّد: لقد كبرَ وشقّ خاصرتي، وها هيَ سنابلُ شعري تُعيدُ سيرتَها الأولى، علَّها تواري وجعَ الخاصرة بسنابلها المتناثرةِ..
تفتحُ الذكرياتُ صدرَها، تُخرجُ منهُ صوراً وحكاياتٍ، تتلون أمامَ ناظريْها كقوسِ قُزحٍ، ترى أباها وهو يصرخُ في وجهها: ما الذي أعجبكِ فيه.؟ أتراهُ الحُبُّ الأعمى.؟! أشجارُ روحك تحتاجُ أنْ يكتملَ غصنُها المنقوصُ فيها... هي لا تحتاجُ لمنْ يهزُّها، فالريحُ تهزُّها، والحزن يهزُّها، والفرح يهزُّها، والموت يهزُّها.. عليها الاكتمالُ.. أنا أدرى منكِ بتلابيب الحياةِ، عليكِ أن تتقبَّلي الأمر، وانسي ما تبقَّى.!
يا أبتِ: هو كلُّ ما تبقى، هو، هو ذلكَ النورُ النافذُ في عيني، إذ أشرقتْ تسكبُ ضياءه على ما حولها، يجمّلُ الأشياءَ ويجمّلهُ، حشوتَ في رأسي ذاك الاكتمالَ.. آه يا أبتِ ها قد تكسَّرت أضلعي..
يعاجلُها صوتهُ: بعدًا لذلكَ النهرِ الفيّاضِ فيكِ، ولتلكَ الأشجار عاشقات كلَّ الفصولِ، أتراها أنهارُ روحكِ قد انعطفتْ تُشاكسُ الريح؟! أمْ أنَّ مُنى القلبِ قلبتْها وغيَّرت مجراها ... اللعنة...لا زلت أراهُ ساكنًا فيك؟!
يا أبتِ، لستُ عالمة بماهية الأشياءِ، هي هكذا محتجبة لا تكاد تُرى، فكما خُلقتُ لتكون أبي ، خُلقَ هو ليكونَ حبيبي.!.. راودني طيفهُ ذاتَ مساءٍ ودقّ بابيَ، ولما سمعتُ صوتكَ مُقرّعًا جبُنتُ ورحتُ أغلقُها.. ولكن أشواقهُ عاودت تفتّحها باباً، باباً.. ولشدّةِ خوفي، ذبتُ في بحر أشواقهِ وتلاشيتُ..
ينفخُ في الهواءِ بغضبٍ: كلُّ أحلامكِ هراء، ما من واقعٍ تسندُ عليه ظهرها، أحتاجُ طريقًا حقيقيةً واضحةً بلا مُنحدراتٍ. يصمتُ ثم يعودُ باستغراب وكأنَّه تذكّر شيئًا يفوق كلَّ الكلام: ولكن خبّريني، ما الذي أتى بكِ في مثلِ هذه الساعةِ، فلم تزلْ قدمُكِ التي دبَّت هنا تدُّبُّ هناك ؟! فما..
التفتت كمَن تصحو من حلمٍ.. ها هو أبوها بلحمهِ ودمهِ، تقتربُ تقتربُ، ولكن المسافات تتباعد.. يبتعدُ، تتجمَّد في مكانها: يا أبتِ لم تزلْ فزاعةُ الأسماءِ تثقبُ المسافةَ بيننا وتُبعدُنا، وقد أطلقتْ رصاصتها الأولى حينَ ناديتني بذاكَ الاسمِ الأخرقِ، ثم تداركتَ الأمرَ وناديتني باسمٍ آخرَ يشابهُ الورودَ. ضحكتْ براءةُ الأطفالِ فيّ وقالت: أبي.! لكن ذلك الطبيبُ الأصمُّ لم يسمعني، وراحَ يصفعُها ويصفعني، تعالى صراخها وصراخي، فرحَ الأحمقُ لبكائنا وهنأ أمي..! ومن يومها لا نعرفُ إلّا البكاء. حتى الورود التي أسميتني باسمِها لم أرثْ منها غيرَ شُحِّ الحياةِ وتساقطِ بهجتها، أردت أن تزرع قلبك في حدائق روحي، علَّها تسترد بهجتي، ولشدة حلاوة قلبك أكلهُ النملُ، ومضى، لم يبقَ في صدري غير بيتِ النمل المعمّرِ بالثقوبِ، لم يبق غير قلبٍ غاوٍ طنانٍ، فواحٍ.. فاحَ عطرُ رحيقهِ يومًا يتبعُ طريقَ الهوى، فهوى.
يا أبتِ: أقمارُ العمرِ تشرفُ على الأفولِ، ها هي تنطفئُ، بقي من جذوتها يومان.. يومٌ أراهُ فيهِ، ويوم أحلمُ فيهِ ِ.! وربما ساعةً أو ساعتين.. ساعةً أكتبهُ فيها وساعةً اقرأهُ. جئتكَ يا أبتِ أجسُّ نبضَ حيرتي علَّني أستدلُّ الطريق.
أصواتٌ تلتفُّ حولَها، صوتُ أبيها يستعجلُها الرحيلَ: ارحلي، ها هي الطريقُ تفتحُ ذراعيها لكِ، ما عليكِ سوى أنْ توقظي ذاك النورَ النائم فيك. يغيبُ صوتُ أبيها، تركضُ في الزمنِ البعيدِ، يأتيها من بعيدٍ، ليكنْ قلبكِ وضَّاءً، صادقًا ولو كلفهُ الأمرُ حياتهُ.
ثم اختفى.
تسيرُ وتسيرُ في دهاليزِ العَتمةِ، تعودُ من حيثُ أتت إلى أن تصلَ وتدخلَ في الَّلوحةِ..
تطنُّ الأصواتُ في رأسهِ كصنبورِ الماء، تطنُّ، يجفلُ من أينَ تأتي كلُّ هذه الأصواتِ، ثمَّ تتوالدُ وتتكاثرُ.؟! يراودهُ هاجسٌ بأنَّ المكانَ مسكونٌ بعالمٍ آخرَ، يشاركنا الأشياءَ ولا ندركه، نراهُ فنظنُّهُ حلمًا.. أو رغبةً ترسمُها عقولُنا لولوجِ عالم ٍآخرَ، يهزُّ رأسهُ، ربَّما كنت مخطئًا، وهذهِ شخوصُ لوحاتهِ، تُشعلُ المكانَ بالفوضى وهي تهربُ. هرعَ مُسرعًا يتفقَّدُها، ها هي على حالهِا، ها هي الوجوهُ عينها، والشخوصُ عينها، صنبورُ الماءِ صامتٌ، فقد أخرسهُ قبلَ أنْ ينامَ. يحدِّثُ نفسهُ: أي كابوس أخرق هذا! تعالتْ ضحكاتُهُ تُشعلُ المكانَ، يطاردُهُ رحيقُ تلكَ النظرةِ، يدندنُ بأغنيةٍ لطالما أحبَها: " لما عالباب يا حبيبي منتودع، بيكون الضو بعده شي عم يطلع، وبطلّع فيك، ما بقدر أحكيك، بخاف تفل وما ترجع.. " افترشتْ ورودُ القيقب أرضَ اللوحةِ، ينظرُ إليها بحنانٍ زائدٍ: سأدعْكِ تُحاكينَ الناسَ.
لن تكوني سجينةَ لوحةٍ بعد اليوم. شعر أنَّ شخوص لوحاته تبتسم له وتحييه بكل حبٍّ واحترام، أحسَّ قلبه يتقافز في صدره، يريد احتضانهم جميعًا دفعةً واحدة، ينفذُ ببصرهِ نحوَ النافذةِ: ليتها تأتي.! .. وما درى أنَّ حلمَهُ حقيقة، وأنَّ الوجوهَ والشخوصَ تحتاجُ أنْ يصحوَ النَّهارُ فيها إذ يُمطرُها الصباحُ بنبضهِ النديّ وهوَ يلبسُ النورَ، وتلكَ الابتسامةُ تحتاجهُ كي تكتملْ!. توافد الحضور يستلهمون من أحاديثه السرَّ الكامن في نبض لوحاته، وعيناه صبابة تناجي النوافذ والأبواب المشرعة بالتمني في أن تأتي، اكتظت القاعة، وقفت امرأةٌ وسط الحضور أمام إحدى اللوحات، وقد تضرّج خداها بالحمرة، وانتابتها الحيرة: تشبهني، تكاد تكون أنا، إنَّها أنا، أنا، ولكن…؟! يقترب منها أحد الحاضرين وهو يبتسمُ: عليك بالصمت سيدتي، لا تسكبي ماءَ قلبك هكذا، دعيها تتحدث للحضور!
وغادر المكان.